فيصل ابوزكي
تأتي ميزانية السعودية لعام 2026 في لحظة حساسة تجمع بين ضغوط تراجع أسعار النفط والحاجة إلى الحفاظ على زخم المشاريع التحولية التي تقود رؤية 2030. وفي ظل استمرار التوسع في القطاعات غير النفطية وتطور أدوات السياسة المالية، ترسم الحكومة ملامح مرحلة جديدة تتجاوز فيها تقلبات السوق وتؤسس لإقتصاد أكثر تنوعاً وقدرة على توليد النمو والوظائف.
تتحرك السعودية نحو إقرار ميزانية عام 2026 في لحظة يمكن وصفها بأنها اختبار جديد لقدرة السياسة المالية على الجمع بين أمرين متناقضين ظاهرياً هما الاستمرار في تمويل التحول الاقتصادي الضخم تحت مظلة رؤية 2030، والتكيف مع دورة نفطية أقل سخاءً مما كانت عليه في العام 2024. البيان التمهيدي للميزانية الصادر عن وزارة المالية في 30 سبتمبر 2025 يعطي ملامح واضحة لهذا التوازن؛ إذ يتوقع أن تبلغ النفقات نحو 1,313 مليار ريال (350.1 مليار دولار)، مقابل إيرادات بنحو 1,147 مليار ريال (305.9 مليارات دولار)، ما يعني عجزاً في حدود 165 مليار ريال أو 3.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
هذا العجز المخطط له يأتي بعد عام صعب مالياً في 2025، حيث تراجعت أسعار النفط بشكل ملحوظ؛ فمتوسط سعر خام برنت بين يناير ويونيو 2025 بلغ نحو 70.8 دولار للبرميل، بانخفاض يقارب 15 في المئة عن الفترة نفسها من 2024. في حين بلغ متوسط خام برنت نحو 63.2 دولار للبرميل في أوائل ديسمبر من العام الحالي في ظل تباطؤ التجارة العالمية وتزايد التوترات الجيوسياسية. وهذا ما يُتوقع أن ينعكس مباشرة على الإيرادات النفطية، وأن يؤدي إلى رفع نسبة العجز الى الناتج المحلي عما كان متوقعاً من قبل.
سياسة إنفاق توسعية رغم الضغوط النفطية
مع ذلك، اختارت الرياض أن لا تجعل من تراجع أسعار النفط سبباً لفرملة الإنفاق التحولي، بل كرست في بيان وزارة المالية نهج "الاستمرار في تبني سياسات الانفاق التوسعي المعاكس للدورة الاقتصادية": أي مواصلة الإنفاق الاستراتيجي على المشاريع والبرامج ذات الأثر الاقتصادي والاجتماعي العالي، مع محاولة ضبط مسار العجز والدين العام ضمن مستويات يمكن استيعابها على المدى المتوسط. البيان يشير بوضوح إلى أن ميزانية 2026 ستواصل تبني إنفاق توسعي استراتيجي يهدف إلى تسريع تنفيذ مشاريع الرؤية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على استدامة المالية العامة ومستويات دين قابلة للإدارة. وهو ما يؤكده وزير المالية محمد الجدعان بقوله: "إن ميزانية العام 2026 تهدف الى ترسيخ قوة المركز المالي للمملكة وضمان استدامة المالية العامة، بالتوازن مع دعم النمو الاقتصادي وذلك من خلال الالتزام بالمحافظة على أولويات الانفاق التنموي والاجتماعي، والحرص على المضي قدما في تنفيذ الاصلاحات الهيكلية". وأضاف الجدعان أن "نسبة الدين العام الى الناتج ما تزال منخفضة نسبياً بالمقارنة مع العديد من الاقتصادات الأخرى، وإنها في حدود آمنة مقارنة بحجم الاقتصاد ومدعومة باحتياطيات مالية معتبرة."
الميزانية كأداة لعبور مرحلة تحول اقتصادي تاريخية
في خلفية هذه الاختيارات تقف حقيقة أن المملكة باتت ترى الميزانية أداة لإدارة ما يمكن تسميته بمرحلة عبور تاريخية، أكثر من كونها مجرد حساب سنوي للإيرادات والنفقات. فمنذ إطلاق رؤية 2030، شهد الاقتصاد السعودي تحولاً هيكلياً واضحاً تمثل بنمو قوي في الأنشطة غير النفطية، تحسن بيئة الأعمال، توسع دور القطاع الخاص، وانخفاض تدريجي في البطالة مع بقاء التضخم تحت السيطرة. صندوق النقد الدولي يشير إلى أن النمو غير النفطي بلغ 4.5 في المئة في 2024 مدفوعاً بقطاعات التجزئة والسياحة والتشييد، رغم تراجع الناتج النفطي بسبب تخفيضات انتاج النفط. كما تُظهر تقديرات وزارة المالية أن النمو الحقيقي للناتج سيبلغ 4.4 في المئة في عام 2025 و 4.6 في المئة في عام 2026، تقوده أساساً الأنشطة غير النفطية المتوقع أن تحقق نموا بنحو 5 في المئة في 2026، مع تحسن تدريجي في إنتاج النفط مع تخفيف الخفض الطوعي.
تعاظم دور الإيرادات غير النفطية في بنية الدخل
على مستوى الإيرادات، تبرز ميزانية 2026 استمرار التحول التدريجي في بنية الدخل الحكومي. فبعد عقود من هيمنة النفط على الميزانية، قفزت الإيرادات غير النفطية من نحو 168 مليار ريال في منتصف العقد الماضي إلى نحو 458 مليار ريال في 2023 و نحو 502.5 مليار ريال في عام 2024، أي أكثر من الضعفين، بدعم رئيسي من ضريبة القيمة المضافة والرسوم والضرائب الانتقائية والرسوم الاخرى. في 2024، باتت الإيرادات غير المرتبطة بالنفط تمثل قرابة 38 في المئة من إجمالي الإيرادات، وهو تحول نوعي مهم في بنية الايرادات الحكومية.
ميزانية 2026 تضيف طبقة جديدة لهذا المسار عبر مواصلة إلاصلاحات الضريبية، ولكن وفق مقاربة انتقائية لا تمس حتى الآن ضريبة الدخل على الأفراد، بل تركز على الضرائب غير المباشرة التي تحقق أهدافاً مزدوجة مالية واجتماعية. هذه الإجراءات تؤكد بأن الحكومة تعمل في المدى الطويل على بناء قاعدة إيرادات مستقرة ومتنوعة، دون التأثيرعلى جاذبية المملكة للاستثمار أو زيادة العبء على المواطن بشكل غير محسوب.
رؤية مختلفة لإدارة العجز
في المقابل، لا تخفي الأرقام أن تراجع أسعار النفط في 2025 ضغط على التوازن المالي. وتشير بعض التحليلات الى أن استمرار متوسط سعر النفط عند 60- 65 دولاراً للبرميل كان يمكن أن يرفع العجز إلى مستويات اعلى لو لم يكن هناك توسع في الإيرادات غير النفطية وقدر من ضبط الإنفاق .لكن ما يحكم طريقة إدارة هذا العجز ليس فقط الرقم، بل الفلسفة التي تقف وراءه. فالسعودية باتت تقبل بعجز قابل للادارة والسيطرة على المدى المتوسط، باعتباره تكلفة مقبولة لتمويل التحول الاقتصادي، مادام مستوى الدين إلى الناتج يبقى في نطاق الثلاثين بالمائة تقريباً، وهو مستوى أدنى من كثير من الاقتصادات المماثلة في مجموعة العشرين.
الميزانية لا تحمل وحدها عبء التمويل
أما كيفية تمويل هذا العجز في 2026، فيوضحها البيان المالي بالتأكيد على الاستمرار في الاعتماد على مزيج من التمويل المحلي والخارجي عبر إصدارات السندات والصكوك والقروض، مع توسيع قنوات التمويل البديل مثل تمويل مشروعات البنية التحتية عبر بنوك التنمية الوطنية، وصناديق التنمية القطاعية، ووكالات ائتمان الصادرات، والشراكات مع المستثمرين المحليين والدوليين. هذا يعني أن الميزانية لن تكون وحدها حاملة عبء المشاريع، بل سيُوزَع العبء بين أدوات الدين والأسواق المالية والصناديق التنموية وصندوق الاستثمارات العامة الذي يمول جانباً كبيراً من المشروعات الكبرى خارج إطار الموازنة التقليدية.
إعادة تشكيل هيكل الإنفاق ونمو القطاعات الجديدة
في جانب الإنفاق، تعكس أرقام 2025 وما قبلها اتجاهاً واضحاً لإعادة تشكيل هيكل الإنفاق العام. ففي الوقت الذي لا تزال قطاعات الدفاع والصحة والتعليم تستحوذ على أكثر من نصف الإنفاق، لكن ثمة نمو سريع في مخصصات الخدمات البلدية، والبنية التحتية والنقل، والثقافة والرياضة والسياحة، مع تركيز خاص على المشاريع ذات القيمة المضافة العالية في قطاعات الصناعة، واللوجستيات، والتعدين، والطاقة المتجددة، والمشروعات الكبرى. وتمثل هذه القطاعات والمشاريع رهاناً أساسياً على إعادة رسم الخريطة الجغرافية والقطاعية للنشاط الاقتصادي وخلق ملايين الوظائف الجديدة.
نمو قوي… لكن نوعية النمو هي العامل الحاسم
اقتصادياً، تدخل ميزانية 2026 في سياق توقعات نمو إيجابية نسبياً رغم الضغوط؛ فصندوق النقد الدولي رفع توقعاته لنمو الناتج السعودي في 2025 إلى 4 في المئة مع تحسن إنتاج النفط، ويرى نمواً مشابهاً في 2026، في حين تتوقع وزارة المالية نمواً أعلى قليلاً مدفوعاً بالأنشطة غير النفطية. غير أن السؤال الأهم ليس فقط معدل النمو، بل نوعيته وإلى أي حد سينتقل وزن النمو من النفط إلى قطاعات الخدمات المتقدمة والسياحة والاقتصاد الرقمي والصناعة التحويلية والتعدين وغيرها من القطاعات الجديدة. ولا شك أن نجاح هذه القطاعات في ترسيخ نفسها كمحركات رئيسية للناتج وفرص العمل هو ما سيحدد في النهاية استدامة السياسة المالية وقدرة المملكة على تحمُل عجز تحولي لبضع سنوات دون تهديد استقرارها المالي.
استراتيجية مالية جديدة
من منظور أوسع، يمكن قراءة ميزانية 2026 كحلقة جديدة في مشروع ترسيخ استراتيجية مالية جديدة للدولة. فبدلاً من النموذج القديم الذي كان يجعل الإنفاق العام أسيراً لدورة النفط، يتبلور تدريجياً نموذج جديد يقوم على أربع ركائز مترابطة: أولاً، فصل نسبي بين مسار الإنفاق وتقلبات الإيرادات النفطية عبر برنامج الاستدامة المالية وإطار متوسط الأجل يحدد سقوفاً واتجاهات للإنفاق لعدة سنوات. ثانياً، زيادة الوزن النسبي للإيرادات غير النفطية من خلال أدوات ضريبية ورسوم مدروسة وتوسيع القاعدة الاقتصادية. ثالثاً، تعزيز كفاءة الإنفاق عبر التركيز على المشاريع ذات الأثر الاجتماعي والاقتصادي الأعلى، وتحسين الحوكمة والرقابة على تنفيذ المشاريع. ورابعاً، نقل مركز الثقل الاستثماري تدريجياً من الميزانية إلى مؤسسات تمويلية واستثمارية متخصصة، من بينها صندوق الاستثمارات العامة وصناديق التنمية المختلفة، لتخفيف الضغط المباشر على المالية العامة مع الحفاظ على زخم الاستثمار.
ميزانية 2026… رهان محسوب على المستقبل
في ضوء ذلك، لا يمكن النظر إلى العجز المتوقع في ميزانية 2026 كعلامة ضعف او مصدر قلق، بقدر ما هو رهان محسوب على المستقبل. فالمملكة مستعدة أن تقبل بتآكل محدود في المساحة المالية التي تتمتع بها اليوم مقابل بناء اقتصاد أكثر تنوعاً وقدرة على توليد الإيرادات من خارج قطاع النفط غداً. لكن هذا الرهان ليس بلا مخاطر؛ فاستمرار الضغوط على أسعار النفط، أو تباطؤ الاقتصاد العالمي، أو تأخر تنفيذ بعض المشاريع الكبرى، كلها عوامل يمكن أن تزيد من صعوبة مهمة الحفاظ على توازن دقيق بين الإنفاق والانضباط المالي. كما أن إدارة سوق العمل واستيعاب الشباب في وظائف ذات إنتاجية عالية سيبقى الاختبار الأهم في هذا المسار.
نحو الشوط الأخير من رؤية 2030
مع اقتراب إقرار ميزانية 2026، تبدو السعودية وكأنها تدخل الشوط الأخير من رحلة رؤية 2030، وهي مرحلة تُقاس فيها النتائج الملموسة على الأرض في شكل نمو غير نفطي متسارع، وعدد أكبر من فرص العمل، وقاعدة صادرات أوسع، وقطاع خاص أكثر ديناميكية، ومالية عامة مستقرة رغم انتهاء زمن الفوائض النفطية الدائمة. في هذا السياق، ستُقرأ أرقام ميزانية 2026 كإشارة سياسية واقتصادية حول مدى إصرار المملكة على المضي في هذا التحول مهما تقلّبت أسواق النفط.




