فيصل ابوزكي
في زحمة التحليلات الاقتصادية التي تُقاس بالسنوات المالية والدورات الاقتصادية، يمر مشروع التحول السعودي كحدث جيولوجي، بطيء في ظاهره، هائل في باطنه، لا يُفهم إلا بمنظار الزمن الطويل والرؤية الاستراتيجية. فما يحدث في المملكة اليوم ليس مجرد خطة تنويع واصلاح مالي، بل هو عملية دقيقة لإعادة تشكيل الهوية الاقتصادية لدولة نشأت وترعرعت على إيقاع ضخ النفط، لتصبح دولة تُنتج ثروتها من عقول مواطنيها، ومن بنى تحتية متطورة، واستثمارات تحولية، ومن موقع جيوسياسي جديد في قلب اقتصاد القرن الحادي والعشرين.
السعودية لا تهرب من النفط بل تُحوله. تأخذ منه رأس المال، لا الهوية. وتستثمره في ما لا ينضب: الإنسان، التكنولوجيا، المؤسسات، والمكان. وهذا الفارق الدقيق بين الهروب من الماضي والبناء عليه هو ما يجعل التحول السعودي فريداً في عالم يعج بمحاولات تقليد نماذج التنمية دون فهم جوهرها. هنا، ابتكار وإعادة تعريف للثروة الوطنية.

منذ 2016، حين أعلنت السعودية عن رؤية 2030، بدأ المشروع للبعض طموحاً مبالغاً فيه وغير قابل للتحقيق. لكن الأرقام، ببطء صارم، بدأت تُثبت عكس ذلك. الاقتصاد غير النفطي لم ينمو فحسب، بل تخطى نصف الناتج المحلي الإجمالي، ليصل الى 57.1 في المئة في الربع الاول من عام 2025. هذا ليس تحسناً هامشياً؛ إنه تحول واضح في تركيبة الاقتصاد. فلأول مرة منذ تأسيس الدولة الحديثة، لم يعد النفط هو القلب النابض، بل أحد الأوعية الأساسية التي تغذي قلباً جديداً، قلباً ينبض بالسياحة، التقنية، الخدمات اللوجستية، التمويل، والصناعة المتقدمة. الايرادات غير النفطية، التي كانت تُعد استثناءً، أصبحت اليوم القاعدة إذ قفزت من 164 مليار ريال (43.7 مليار دولار) في 2015 إلى أكثر من 450 مليار ريال (133.8 مليار دولار) في 2024. هذه الأرقام لا تُقرأ كإحصاءات، بل مؤشرات على ولادة اقتصاد جديد أكثر تنوعاً ومرونة.
إعادة تعريف العلاقة بالعمل والإنتاج
لكن الأعمق من الأرقام هو التحول البشري. ففي مجتمعٍ كان يُنظر فيه إلى عمل المرأة كاستثناء، أصبح اليوم أكثر من 36 في المئة من النساء السعوديات عنصراً فاعلاً من سوق العمل. هذا ما أدى الى إطلاق طاقة هائلة كانت مُحيدة. وعندما ينخفض معدل البطالة إلى حدود 3.2 في المئة وفق بيانات الربع الثاني من عام 2025، وهو الأدنى منذ أكثر من عقد، فهذا يعني أن المجتمع نفسه بدأ يُعيد تعريف علاقته بالعمل والإنتاج. والأكثر دلالة هو أن أكثر من 65 في المئة من الأسر السعودية تمتلك منازلها اليوم، ليس بفضل إعانات، بل بفضل سياسات تمويل فعالة حولت الإسكان من أزمة إلى ركيزة استقرار اجتماعي واقتصادي.
أدوات صناعة المستقبل
وفي قلب هذا كله، يكمن محرك قوي وهو الابتكار. فالمملكة بدأت تبني بيئتها الخاصة للانتاج المعرفي. الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي والألعاب الالكترونية هي خارطة طريق لجعل السعودية أحد المراكز العالمية لصناعة القرار الرقمي. والاستثمار البالغ نحو 400 مليار دولار في ريادة الأعمال والابتكار في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي وصناعة أشباه الموصلات ومراكز البيانات والطاقة المتجددة والشركات الناشئة أصبح يعكس ضرورة وجودية. ففي عالم تُدار فيه الحروب بالخوارزميات، والأسواق بالبيانات، والسيادة بالتكنولوجيا، لا مكان للدول التي لا تملك أدوات صناعة المستقبل. ومن هنا، جاءت الشراكات مع عمالقة صناعات التكنولوجيا من الغرب والشرق وجاءت برامج تمويل الشركات الناشئة التي تضاعف عددها في المملكة خمس مرات في ست سنوات. هذه ولادة لبيئة اقتصادية جديدة.
من السيولة الى محركات النمو
لكن، كما في كل قصة تحول، هناك من يُصر على قراءتها من زاوية الأزمة. فبعض التقاريرالحديثة، رغم مصداقيتها الجزئية، تُركز على تراجع إيرادات النفط، او ارتفاع الدين العام والعجز، أو ضخامة المشاريع غير القابلة للإنجاز في أوقاتها المحددة، وكأنها تقرأ رواية من الصفحة الأخيرة دون أن تفهم الحبكة الأساسية.
نعم، الدين العام ارتفع إلى اكثر من 26 في المئة من الناتج المحلي وقد يصل الى أكثر من 32 في المئة في العام المقبل وفق توقعات صندوق النقد الدولي. لكن هذا الرقم، في سياقه العالمي، لا يزال متواضعاً مقارنة بدول مثل اليابان (260 في المئة) أو الولايات المتحدة (123 في المئة) أو حتى فرنسا (112 في المئة). كما إن خدمة الدين السعودي لا يتوقع لها أن تتجاوز 5 في المئة من إجمالي الإيرادات الحكومية المقدرة في ميزانية عام 2025. والأهم هو أن خدمة هذا الدين لا تشكل عبئاً على المالية العامة، بل تُدار بسلاسة بفضل احتياطيات مالية تتجاوز 457 مليار دولار وفق بيانات البنك المركزي السعودي لشهر يونيو 2025، وصندوق سيادي (صندوق الاستثمارات العامة) يقترب من عتبة التريليون دولار.
هذه ليست دولة في ضائقة مالية، بل دولة تُحوِل أصولها السائلة إلى محركات إنتاجية مستدامة. إن الجزء الاعظم من الانفاق السعودي الحالي الذي يقوده صندوق الاستثمارات العالمة هو على مشاريع رأسمالية تزيد من الطاقة الانتاجية على الأمد الطويل. إنها عملية طويلة الاجل لبناء ومراكمة أصول رأسمالية سيقوم عليها الاقتصاد السعودي لعقود طويلة. على عكس ما نراه في الكثير من الدول ذات العجوزات العالية التي أصبحت تقترض لتمويل النفقات الجارية وخدمة ديونها.
النقص الأكبر في التحليلات والسرديات الاخيرة هو قراءة السعودية من منظور "دورة نفطية" أو "ميزانية سنوية". لكن ما يحدث هنا هو مشروع طويل الأمد لا يُقاس بأسعار النفط، بل بقدرة الاقتصاد على توليد محركات نمو مستقلة عنه.
تحديات التحول والسياسات المرنة
ما يغفله كثير من التحليلات الخارجية هو ان هذا التحول لا يُقاس بمؤشرات قصيرة الأجل، بل بمؤشرات هيكلية: هل الاقتصاد يبني قدرات جديدة؟ هل يخلق فرص عمل مستدامة؟ هل يجذب استثمارات خاصة؟ هل يطور قطاعات قادرة على المنافسة عالميا؟ الإجابة على هذه الأسئلة وفقا للمؤشرات المتاحة إيجابية. فالمملكة بدأت تُطور قدرات محلية في قطاعات حيوية مثل الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات المالية والتعدين وغيرها من القطاعات. كما ان تحسن بيئة الأعمال يعكس تقدما مؤسسيا لا يقل أهمية عن التقدم المالي.
هذا التحول لا يخلو من تحديات. فضمان استدامة النمو غير النفطي يتطلب مواصلة الإصلاحات المؤسسية، وتعزيز الحوكمة، وتطوير التعليم والتدريب المهني، وتجنب التوسع غير المدروس في الإنفاق الرأسمالي الذي قد يؤدي الى فقاعات أو إهدار. كما ان إدارة التوقعات الاجتماعية في ظل تغييرات سريعة في سوق العمل وأنماط الحياة تتطلب سياسات مرنة. لكن حتى الأن، تُظهر السياسات الاقتصادية مرونة كبيرة واستجابة سريعة للتحديات، مع تجنب الانزلاق إلى سياسات غير مدروسة او انفاق غير منتج.
هذا التحول لا يهم فقط السعوديين، بل الكثير من الدول والمستثمرين في المنطقة والعالم. فللمستثمر المؤسسي، تمثل السعودية فرصة مهمة: بيئة مستقرة سياسيا واقتصاديا بدعم حكومي غير مسبوق، ببنية تحتية متقدمة، وبسوق محلي سريع النمو. وللشركات التكنولوجية، هي بوابة لإعادة تموضع في منطقة تتحول إلى مركز جاذبية عالمي. ولصناع السياسات في عالم الجنوب، هي نموذج عملي: كيف تُحول دولة ثروتها الطبيعية إلى رأسمال بشري واستراتيجي دون اضطراب اجتماعي أو مالي؟ ولرواد الأعمال، هي بيئة تقدم أكثر من التمويل بل أيضا رؤية، بنية، وسوقاً جاهزاً للنمو.
ما يحدث في السعودية اليوم هو مشروع إعادة تعريف للسيادة الاقتصادية. ففي حين كانت السيادة في القرن العشرين تُقاس باحتياطي النفط والمال، أصبحت في القرن الحادي والعشرين تُقاس باحتياطي المواهب والمعرفة والرؤية، بقدرة الدولة على جذب العقول، بإنتاج المعرفة، وبناء منصات تنتج وتُصدر حلولاً.
كل مشروع كبير يحمل في طياته تحديات جمّة. التحديات حقيقية: من ضمان استدامة التمويل، الى إحداث تحوّل ملموس في حياة الناس، إلى تعميق التوطين، إلى تجنب الفقاعات، إلى الحفاظ على الجوهر الحقيقي للمجتمع، إلى إدارة التوقعات الاجتماعية في مرحلة التحول. لكن ما يميّز التجربة السعودية حتى الآن هو الوعي بهذه المخاطر، والتصميم على مواجهتها بسياسات مرنة، وبأدوات متطورة، وبعقلانية اقتصادية لا تسمح للطموح أن يطغى على الواقع.
جسر بين القوى الكبرى والرأس المال الجيوسياسي يحمي المصالح
ربما كان الأبرز في التجربة السعودية والأكثر إثارة للاهتمام من منظور استراتيجي هو قدرتها على المضي قُدماً في مسار التحول الاقتصادي رغم بيئة إقليمية ودولية بالغة التعقيد. ففي وقت يشهد فيه العالم حروباً، وتوترات اقتصادية، وانقسامات جيوسياسية حادة، تمكنت السعودية من الحفاظ على مسارها الاقتصادي دون انحراف جوهري. لم تتوقف المشاريع، لم تتراجع الاستثمارات، ولم تُلغ الشراكات.
هذا يأتي نتيجة جهود دبلوماسية واقتصادية متوازنة تهدف إلى نسج شبكة علاقات دولية لا تعتمد على محور واحد، ولا تنحاز إلى كتلة ضد أخرى. فالمملكة، في السنوات الأخيرة، عززت شراكاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، وفي الوقت نفسه وسعت تعاونها مع الصين وروسيا والهند واليابان وكوريا. لم تعد الرياض تُقاس بعلاقاتها الثنائية فقط، بل بقدرتها على لعب دور الجسر بين القوى الكبرى وهو دور يمنحها هامشاً تفاوضياً، مالياً واستثمارياً أوسع.
كلها مؤشرات على أن السعودية تبني بالتوازي مع التحول الاقتصادي رأسمالاً جيوسياسياً يُعزز من قدرتها على جذب الاستثمارات وحماية مصالحها في عالم متعدد الأقطاب.
في النهاية، ما يحدث في السعودية هو تحول هادئ تحت راية الاستقرار. إنه عمل دؤوب، تخطيط استراتيجي، تنفيذ دقيق، وتراكم يومي لبنة فوق لبنة. وهو تحول لا يُرى في لحظته بل سيُقرأ في سياق تاريخي كواحدة من أهم عمليات التحول في العصر الحديث. فمن يراقب السعودية اليوم بعين قصيرة، سيُفوِت مشهد ولادة قوة اقتصادية جديدة. ومن يقرأها بعمق، سيكتشف انها تُعيد تعريف نفسها فقط برؤية طموحة وجريئة.




