من الرياض إلى العالم:
انبعاث النظام الاقتصادي-التكنولوجي الجديد

03.11.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. خالد عيتاني*

في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار (FII9)، تحوّلت السعودية من مستثمر عالمي إلى مهندس للمعايير المستقبلية — حيث تُستبدل حقول النفط بمراكز البيانات، ويُقاس النفوذ بمقدار القدرة الحاسوبية.

لم يكن مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار (FII9) في الرياض (27–30 أكتوبر/تشرين الأول 2025)" محطة بروتوكولية في رزنامة الاستثمار العالمية، بل مشهدًا تأسيسيًا لتحوّل أعمق: الذكاء الاصطناعي لم يعد “تقنية مساندة”، بل مشروع دولة تُقاس قوته بمزيجٍ من رأس المال، والقدرة الحاسوبية، ووفرة الطاقة، وحوكمة البيانات. على هذا المسرح، تبلورت رسالة سعودية واضحة: صناعة منظومة حوسبة وسياسات ومعايير تتجاوز استيراد التكنولوجيا إلى تصميم بنيتها وقواعد تشغيلها.

جنسن هوانغ: "القدرة الحاسوبية هي نفط العصر؛ من يملكها يُملي إيقاع الابتكار."

مشهد التحوّل: من منصة مؤتمرات إلى هندسة منظومة

انعكست في FII9 ملامح تحوّل ثلاثي:

  1. تكنولوجيًا: تسارعٌ نحو مصانع ذكاء ومراكز بيانات ضخمة وشبكات مسرِّعات (GPUs/NPUs) وربطٍ وثيق بالطاقة والتبريد.
  2. اقتصاديًا: إعادة تموضع صناديق سيادية - وعلى رأسها PIF - لصالح اقتصاد الحوسبة وسلاسل الإمداد التقنية والتصنيع المتقدّم، مع دعوة رسمية لإفساح حيّز أكبر لرأس المال الخاص داخل المملكة.
  3. سياسيًا: توظيف المؤتمر كـ أداة نفوذ تربط بين المعايير التقنية والوصول إلى البيانات وتدفّقات الاستثمار، ضمن شبكة تفاهمات مع قوى أميركية وأوروبية وآسيوية.

ماريانا مازوكاتو: "الدولة الطموحة لا تشتري الابتكار فحسب؛ بل تُحدّد اتجاهه وتخلق أسواقه."

التكنولوجيا كمشروع دولة: البنية ثم اللغة

  • البنية الحاسوبية السيادية: الصفقات المُعلَنة تُظهر انتقالًا من النوايا إلى التنفيذ: شراكات لنشر رفوف حوسبة ذكائية وبدء نشرٍ مُستهدف بقدرات مبدئية اعتبارًا من 2026، وتمويلات لمجمعات مراكز بيانات بحجم مليارات الدولارات.
  • اللغة والمعرفة: يتقدّم ملف النماذج اللغوية العربية وبناء مجموعات بيانات محليّة مُصرّح بها، كي تنتقل العربية من خانة “الاستخدام” إلى الإنتاج المعرفي عبر تطبيقات التعليم والصحة والإدارة العامة.
  • سلسلة الرقائق كجغرافيا نفوذ: الطلب الخليجي المُتسارع على المسرِّعات المتقدّمة يعيد ترتيب أولوية التخصيص عالميًا، ويفرض على الشركاء نماذج نقل مهارات ومكوّنات لا “توريدًا” فقط.

اقتصاد الحوسبة: من CapEx إلى عوائد مُستدامة

  •  إعادة تموضع PIF واستراتيجية 2026–2030: تتبلور صيغة تُحوّل الصندوق إلى مُمكِّن للنظم البيئية (سياحة/عمران/تصنيع متقدّم/صناعة ولوجستيات/طاقة نظيفة/نيوم)، مع تقليص بصمته المباشرة لإفساح المجال للقطاع الخاص.
  • تسعير القدرة الحاسوبية: تُعامَل القدرة الحاسوبية والبيانات كأصول قابلة للتسعير، عبر نماذج تمويل تربط CapEx البنية بـ عقود طاقة ومياه وتبريد ومعايير كفاءة (PUE/WUE)، فتتحوّل مراكز البيانات إلى أصول توليد نقدي لا مجرد مخازن سيرفرات.
  • سوق العمل: كل ميغاواط حوسبة يخلق طلبًا على مهارات تشغيل المراكز والأمن السيبراني وعلوم البيانات وهندسة النماذج وحوكمتها؛ من دون إعادة تأهيل واسعة ستتسع فجوة المهارات محليًا.

الجيو-اقتصاد: دبلوماسية الذكاء ومعايير الوصول

  • المعايير قوة صامتة: من يضع قواعد أمان النماذج ومعايير الوصول للبيانات يملك رافعة تفاوض تتجاوز التعرفة الجمركية التقليدية.
  • توازن خليجي-خليجي: تشتد المنافسة داخل الخليج على المواهب والقدرة الحاسوبية والمعايير (السعودية/الإمارات نموذجًا)، وهو سباق منظومات أكثر منه سباق صفقات.
  • ملفات حساسة مرافقة: يُلامس الوصول للبيانات وتوطين الحوسبة قضايا سيادية وعقوبات وممرّات تجارة واتفاقيات حرّة قيد التشكيل — ما يعظّم وزن “الدبلوماسية التقنية” في مفاوضات الاقتصاد.

صفقات ومعالم تنفيذية (نماذج بارزة)

  • Humain–Qualcomm:  تعاون لنشر رفوف حوسبة ذكائية  (AI200/AI250)بقدرة مستهدفة بدءًا من 2026، ما يترجم شعار “منصة إلى تنفيذ”.
  • Humain–AirTrunk/Blackstone:  مشروع مجمّعات مراكز بيانات بحجم استثمار أولي يناهز 3 مليارات دولار — إشارة إلى ربط التمويل العالمي ببنية الذكاء داخل المملكة.
  • برنامج FII9 وبرنامج المتحدثين: زخم يتضمّن رؤساء دول وقيادات مالية وتقنية، ما يعكس اندماج رأس المال بالتنظيم بالهندسة في منصة واحدة.

المخاطر الجوهرية: لماذا لا يكفي الإسراع؟

  1. قفل تقني/سيادي: عقود طويلة بلا نقل مهارات/ملكية فكرية تُحوّل الاعتماد إلى تبعية.
  2. العدالة الرقمية: منافع الاستثمار قد تتركّز إن غابت مؤشرات قياس اجتماعية ملزمة.
  3. تأخيرات التنفيذ: فجوة “الإعلان ← التسليم الفعلي” تهدّد الجدول الزمني والعوائد.
  4. توترات جيو-تقنية: الوصول للبيانات والحوسبة يمسّ الأمن القومي والعقوبات ومسارات التجارة.
  5. مخاطر تشغيلية/سيبرانية: مركزية الحوسبة ترفع كلفة التأمين ضد توقف القدرة وفشل النماذج.

توصيات عملية قابلة للتعاقد

  • بنود نقل مهارات إلزامية في كل عقد ((KPIs للتوظيف، ساعات التدريب، نسب التوطين، جزئيات الملكية الفكرية.
  • حوكمة بيانات قطاعية (تعليم/صحة/طاقة) بمجالس مستقلة وتقارير سنوية مُعلنة.
  • Micro-Grants و Sandboxes عربية لتسريع منتجات الذكاء الاصطناعي بالعربية.
  • إطار أمن وطني لبنية الحوسبة (طاقة/شبكات/مراكز/تأمين توقف Compute).
  • معايير كفاءة موحّدة ((PUE/WUE/ الأمن الفيزيائي-السيبراني وربط التمويل بالامتثال.
  • شراكات جامعة-صناعة مُسرّعة (6–12 شهرًا) لإعادة تأهيل القوى العاملة إلى وظائف الذكاء.

يؤشّر FII9 إلى طورٍ تتقاطع فيه الهندسة والتمويل والتشريع لصوغ اقتصادٍ جديد تُقاس قوته بـ القدرة الحاسوبية وحوكمة البيانات وسرعة تحويل الزخم إلى منظومات محلية. ستفوز المنطقة حين تنجح في نقل المعايير والمعرفة واللغة إلى الداخل، لا حين تكتفي باستيراد القدرة. وهنا يتحدّد الفارق بين “منصّة مؤتمرات” ومنظومة اقتصاد-تقنية قيد التصنيع.

*رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية