فيصل أبوزكي
تتجه الأنظار إلى الرياض وهي تفتح فصلاً جديداً في موقعها المالي ضمن المشهد الإقليمي والعالمي. افتتاح بنك "سيتي غروب" مقره الإقليمي في الرياض يوفر إشارة الى انتقال نوعي في إدراك المؤسسات المالية الدولية لمستقبل المملكة.
البنك الاميركي يعود بعد غياب دام عقوداً، منذ خروجه من السوق السعودية في التسعينات اثر بيع حصته في "البنك السعودي الاميركي" الذي كان يديره آنذاك. اليوم يعود من موقع مختلف، ليكون جزءاً من منظومة مالية سعودية آخذة في الصعود، يقودها تفكير استراتيجي يرسم ملامح مرحلة اقتصادية جديدة.
بنك "باركليز" البريطاني يسير في الاتجاه نفسه، بعد أن غادر السوق في العام 2014. ومعه تدخل بقوة أسماء أخرى كبرى في عالم المال والاستثمار: "غولدمان ساكس"، "جي بي مورغان"، "مورغان ستانلي"، و"بي إن واي ميلون". جميعها اختارت أن تعزز أعمالها في السعودية وتجعل من الرياض مركزاً لنشاطها في المنطقة، لتكون قريبة من القرار المالي الجديد الذي يتشكل بقوة في المملكة.
يمكن وصف بعض هؤلاء بأنهم "الاقدمون الجدد"، مؤسسات عرفت السعودية منذ عقود، وتدرك اليوم أن التحول الجاري هو مشروع دولة تُعيد صياغة مستقبلها وموقعها وعلاقتها بالاقتصاد العالمي على أسس مختلفة.
هذا التوجه يندرج في سياق أوسع هو رؤية السعودية 2030، التي لا تسعى إلى تنويع الاقتصاد فحسب، بل الى إعادة تعريف موقع السعودية في سلاسل القيمة المالية والإنتاجية العالمية.
ومن بين ركائز الرؤية، يبرز برنامج تطوير القطاع المالي كإطار لتشكيل منظومة مالية متكاملة تدعم الاستثمار، وتتيح التمويل لمشروعات التحول الكبرى، وتربط الأسواق المحلية بالأسواق العالمية من خلال أدوات أكثر كفاءة وشفافية وحوكمة.
الإقبال المتزايد للمصارف الاستثمارية ومديري الأُصول على السوق السعودية يعبر عن ثقة طويلة الأمد في هذا المسار. فالمملكة باتت تمتلك سوقاً مالية من بين الأضخم في الأسواق الناشئة، تشهد تدفقاً متزايداً لرؤوس الأموال الأجنبية، إلى جانب كونها اليوم أكبر مصدر عالمي للصكوك، ما يمنحها ثقلاً استراتيجياً في مجال التمويل الإسلامي وأسواق الدين.
وفي موازاة ذلك، تستمر الإصلاحات بوتيرة منتظمة لتوسيع جاذبية المملكة أمام المؤسسات المالية والشركات الدولية. الجهات التنظيمية تعمل على فتح السوق على نحو أوسع أمام الاستثمارات الأجنبية، وتشجع إدراج شركات غير سعودية في السوق المحلية، وتطور أدوات تمويل جديدة في مجالات الصكوك والأسواق الخاصة.
هذه الخطوات تترجم نفسها في بناء نظام مالي متكامل ينسجم مع طبيعة الاقتصاد السعودي وطموحاته في أن يكون مركزاً لإدارة رؤوس الأموال.
التحول المالي في السعودية يسير في موازاة تحول أعمق في طبيعة الاقتصاد نفسه. السيولة تتحول الى أصول طويلة الأجل في قطاعات مبنية على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والسياحة والصناعة المتقدمة. هذه القطاعات تشكل ركائز اقتصادية جديدة وتُعيد تعريف العلاقة بين رأس المال والإنتاج.
ولذلك، فإن البنوك العالمية ترى في وجودها في الرياض كمشاركة في بناء اقتصاد جديد يدمج بين التمويل والتقنية والمعرفة في بيئة تتميز بالاستقرار والفرص.
على الصعيد الاستراتيجي، تتحرك السعودية وفق رؤية تنطلق من معطياتها الخاصة، تجمع بين الإصلاح الاقتصادي والانضباط المالي والانفتاح التدريجي على رؤوس الأموال العالمية.
الإصلاحات لا تُدار بمنطق القفزات السريعة، بل وفق تراكم هادئ يراعي توازن النمو والاستدامة. فالسعودية تدرك التحديات الملازمة لمسار التحول، من تنويع القاعدة الإنتاجية الى تطوير الكفاءات الوطنية، وتتعامل معها بواقعية تجعل من كل تحد فرصة لتصحيح المسار وتعزيز الكفاءة.
أما على المستوى الجيوسياسي، فتتحرك المملكة بثقة من موقعها كجسر مالي بين الشرق والغرب. فهي تجمع بين استقرار داخلي راسخ ودور دولي متنام يمنحها وزناً في أسواق الطاقة والتمويل معاً. هذا التوازن يجعل من السعودية محوراً استراتيجياً في شبكة العلاقات الاقتصادية العالمية، ونقطة التقاء بين مصالح القوى الكبرى.
الرياض اليوم تبني نموذجها الخاص: مركز يقوم على الجدوى الاقتصادية والسيادة التنظيمية والارتباط بالتوازنات الجيوسياسية والتحول العالمي في طبيعة رأس المال.
وفي هذا النموذج، تُصبح البنوك العالمية جزءاً من قصة أكبر، قصة دولة تنظر إلى المستقبل كخيار استراتيجي، وتبني مؤسساتها المالية كأدوات لهذا المستقبل.
 
							  







