إتفاق سلام أثيوبي أرتيري برعاية سعودية

09.10.2018
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
رشيد حسن

وطدت المملكة العربية السعودية أواصر التحالف الاستراتيجي مع دول القرن الأفريقي عبر اتفاقية شاملة للسلام بين أثيوبيا واريتريا، تمّ توقيعها في مدينة جدة برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وحضور ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان. ووقّع الاتفاقية كل من الرئيس الأريتري آسياس أفورقي، ورئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد علي، بحضور وزير الخارجية والتعاون الدولي في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إضافة إلى حشد من كبار المسؤولين وشخصيات دولية مؤثرة. 

وقد وضعت المملكة بتوقيع هذه الاتفاقية خاتمة إيجابية لنزاع مسلح استمر منذ انفصال أريتريا عن البلد الأم أثيوبيا، لكنها أغلقت في الوقت نفسه الأبواب على الجهود الإيرانية المستمرة منذ عقود لبناء قواعد نفوذ في هذه الدول المهمة استراتيجياً. 

لكن الجهد السعودي-الإماراتي في إنهاء ملف النزاع الأثيوبي-الأريتري المستمر منذ عقود (والذي كلف البلدين نحو 80 ألف قتيل واستنزافاً لمواردهما الاقتصادية) هو فقط حلقة في سلسلة نجاحات للدبلوماسية السعودية-الخليجية في شرق أفريقيا كانت ثمرة لإستراتيجية سعودية جديدة اتسمت بالتصميم وبتسخير كافة المعطيات والموارد لإخراج إيران من منطقة القرن الأفريقي وفي الوقت نفسه نسج منظومة من التحالفات الاقتصادية والسياسية والدفاعية تحقق المصالح الطويلة الأمد الاقتصادية والأمنية للطرفين.

إنقلاب الحظوظ

اللافت أن النجاح السعودي-الخليجي في حسم ملف القرن الأفريقي يتم وسط انتكاسات كبيرة لإيران تمثلت خصوصاً في انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية الرئيسية مع فرض أشد حصار مالي واقتصادي، ونفطي على طهران يستهدف من حيث المبدأ تحسين شروط الاتفاق النووي بفرض المزيد من الشروط على طهران مع إلزامها وقف برنامج تطوير الصواريخ الباليستية ووقف التدخل وإثارة القلاقل و«دعم الإرهاب» في الدول المجاورة أو ما يتعداها. وبالنظر الى صعوبة قبول إيران بهذه الشروط، فإن طهران تعدّ نفسها لمرحلة صعبة جداً وتساورها الشكوك في أن الهدف الحقيقي لإدارة الرئيس دونالد ترامب المتشددة هو تفجير الوضع الإيراني وقلب نظام الحكم. 

يتناقض الوضع الحالي في القرن الأفريقي بصورة كبيرة مع ما كان عليه قبل سنوات قليلة عندما سعت إيران لاستخدام عدد من الأوراق الإقليمية في المواجهة التي كانت في تصاعد بينها وبين المجتمع الدولي قبل بدء المفاوضات النووية في العام 2014. واستفادت طهران يومها من الأوضاع المضطربة في الصومال ومن النزاعات الإقليمية بين اريتريا وأثيوبيا وبين أريتريا وجيبوتي لتعزيز مواقعها على الأرض في القرن الأفريقي، وهي تمكّنت أولاً من استقطاب حكومة الرئيس البشير الذي تعرّض لعقوبات دولية وأميركية نتيجة لتدهور الوضع الإنساني، وتمكنت أيضاً من عقد تحالف مع أريتريا وعززت مواقعها في الصومال من خلال دعم حركة الشباب الإسلامية المتطرفة المصنّفة كحركة إرهابية. وبدأت السفن الحربية الإيرانية ترسو في ميناء عصب أو موانئ السودان وتستخدم تلك الموانئ كنقطة انطلاق لنقل الأسلحة إلى حزب الله وحركة حماس. وكشفت تصريحات عسكرية إيرانية يومها أن هدف طهران من خلق قواعد بحرية لها في اريتريا والسودان هو اكتساب القدرة على إعاقة التجارة الدولية من خلال تهديد الملاحة في باب المندب. وحاولت إيران استكمال عملية التمدد في القرن الأفريقي عبر توظيف النتائج الإيجابية للاتفاق النووي والذي أدى إلى رفع الحصار عنها وتحسن كبير في مواردها المالية ونوع من التسامح تجاه خططها الإقليمية من قبل واشنطن وحلفائها الأوروبيين. 

حرب اليمن

لكن الحدث الأهم الذي قلب الموازين وجعل الموقف السعودي والخليجي يتجه بصورة حاسمة إلى مواجهة شاملة مع إيران في القرن الأفريقي كان ولاشك الانقلاب الحوثي على حكومة عبد ربه منصور هادي منصور في سبتمبر 2014  والذي أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الحالية وانزلاق إيران بصورة شاملة في الحرب إلى جانب الحوثيين، ويمكن أن نضيف أن انفجار الاحتجاج السعودي الخليجي على الدور القطري في نزاعات المنطقة بما في ذلك دور مهم لعبته الدوحة في العلاقة بين أريتريا وجيبوتي كان أيضاً من العوامل التي حفّزت المملكة وحلفاءها الخليجيين على إجراء تبديل شامل في استراتيجية التعامل مع القرن الأفريقي. 

السودان أولاً

وقد تكللت الجهود السعودية أولاً بإبعاد السودان عن إيران وذلك عندما قامت الخرطوم العام 2016 بقطع علاقاتها مع إيران رداً على ما اعتبرته الاعتداء الإيراني على سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد، وكان قد سبق ذلك في العام 2015 نجاح السعودية في العمل على رفع العقوبات عن الرئيس البشير وإخراج السودان من عزلة دولية صعبة وذلك عبر استخدام نفوذها وعلاقات الصداقة التي تربطها بالولايات المتحدة الأميركية. وتبع ذلك استثمار السعودية في نحو عشرة آلاف كلم مربع وهو ما يعادل مساحة بلد مثل لبنان، ثم قيامها بإيداع مليار دولار في بنك السودان المركزي لدعم سعر صرف الجنيه السوداني، كما استخدمت السعودية قوتها الاقتصادية أيضاً لخلق التقارب بين كل من الصومال وأريتريا وجيبوتي التي قامت جميعها بقطع العلاقات مع طهران وها هي توطد النظام الجديد في القرن الأفريقي عبر اتفاقية تاريخية للسلام بين أثيوبيا وأريتريا  وهي اتفاقية لا بدّ أن ترتد بنتائج إيجابية على النزاع العبثي الطويل في الصومال وربما ساهمت بقوة في اتفاق سلام صومالي تدعمه اتفاقات ومساعدات تنمية سخية من الدول الخليجية.

وعلى عكس دبلوماسية إيران التي تستند إلى التعامل مع الحركات الانفصالية أو الحركات الشيعية (كما في نيجيريا) ومحاولة بناء قوى مسلحة محلية على نمط حزب الله في لبنان، فإن الدبلوماسية السعودية-الخليجية في القرن الأفريقي تستند بصورة تقليدية الى استخدام قوتها الاقتصادية ومساعدات التنمية السخية وخبرتها الطويلة في شرق أفريقيا لعقد الشراكات الطويلة الأمد وخلق قاعدة واسعة من المصالح الاقتصادية المشتركة تدعم التحالفات السياسية. 

إيران و«الاستثمار في البؤس»

واقع الأمر أن هناك عدم تكافؤ حاد بين إيران والمملكة العربية السعودية في المنافسة الشاملة على القرن الأفريقي أو في غرب أفريقيا، إذ إن إيران تعول كثيراً على وجود أقلية شيعية مثلاً يمكن الاستناد إلى تأييد حقوقها للدخول في الواقع السياسي (نيجيريا) أو على وجود نزاع أهلي كما في الصومال وهو نوع من «الاستثمار في البؤس»  أو في «التفتيت السياسي»، لكن في المقابل، فإن النهج الدبلوماسي الإيراني لا يتسم بالسخاء في توفير المساعدات الاقتصادية كما إن طهران لم تطور خبراتها في مساعدات التنمية وهي لا تملك مؤسسات متخصصة ذات حجم ونفوذ في مجال تقديم المساعدات التنموية أو الإنسانية يمكن أن تدعم استراتيجيتها السياسية في أفريقيا أو الدول النامية الأخرى.  

وأثمرت الاستراتيجية السعودية في القرن الأفريقي ليس فقط إخراج إيران عملياً من المنطقة، بل دعم الشراكات الاقتصادية بوجود عسكري مؤثر للمملكة في دول القرن إذ اتفقت المملكة وجيبوتي في مطلع 2017 على إنشاء قاعدة عسكرية، بينما قامت الإمارات ببناء قاعدة عسكرية في صومالي لاند، وتم بناء قاعدة عسكرية بحرية في ميناء عصب الأريتري بإدارة سعودية إماراتية.  

الأمن الغذائي الخليجي

يبقى القول إن العلاقة السعودية الخليجية بالقرن الأفريقي لا تتعلق فقط بالشأن الأمني بل تمتد إلى الأمن الغذائي أيضاً، إذ إن البلدين يستوردان معظم حاجاتهما من الغذاء من الخارج. وتشير إحصاءات نشرتها غرفة تجارة دبي إلى أن المستثمرين الخليجيين قدموا في المدة ما بين 2004  و2014  استثمارات بنحو 30 مليار دولار في شراء الاراضي الزراعية وفي مشاريع المياه والثروة الحيوانية  في بلدان شرق أفريقيا، كما إن السعودية يمكنها بفضل صداقتها القوية مع أديس ابابا أن تلعب دوراً مهماً في تقريب المواقف بين أثيوبيا ومصر بشأن الخلاف حول سد النهضة الأثيوبي على نهر النيل.

يبقى القول أخيراً إن اتفاق الرياض بين اثيوبيا واريتريا يمثل حجر الزاوية  لقيام منظومة اقتصادية أمنية متماسكة في القرن الأفريقي  ستكون لها نتائج إيجابية بعيدة الأمد على كل دول المنطقة ولاسيما المملكة العربية السعودية التي تستعد لاستثمار مئات المليارات في مشاريع اقتصادية وسياحية في منطقة البحر الأحمر المقابلة للقرن الأفريقي، كما إن هذه المنظومة الاقتصادية الأمنية ستمكّن دول الخليج من أن تدعم دوراً أثيوبياً أريترياً سودانياً في إنهاء القلاقل المستمرة في الصومال وإحياء الدولة والمجتمع في هذا البلد الأفريقي العربي الكبير.إن أريتريا تتطلع الآن إلى تفعيل موانئها المهمة على البحر الأحمر في التجارة الأثيوبية مع العالم وفي التجارة الدولية مع دول القرن ومع أفريقيا.