الكبار لا يموتون ... غائبون بأجسادهم نعم، لكنهم حاضرون في الروح. ريمون عوده واحد من هؤلاء الكبار الذين رحلوا عن هذه الدنيا إلا انه باقٍ في أعماله ونجاحاته وبصماته والأهم الأهم في روحه التي نشرها في كل مؤسساته وترك أثراً منها في كل شخص تعرّف عليه أو تعامل معه.
ريمون عوده، الذي كان من صنّاع الزمن المصرفي الجميل رحل وفي قلبه حسرة على قطاعٍ آمن فيه وأعطاه من قلبه وروحه وكان شاهداً على أمجادٍ ساهم شخصياً فيها قبل أن يتمكن منه المرض ويجعله عاجزاً عن التعاطي المباشر مع العاصفة الأخيرة التي هبّت على القطاع المصرفي في لبنان، البلد الذي رفض ريمون عوده حتى في عزّ الحرب أن يغادره ويترك مؤسسته لاعتباره أن القبطان لا يجوز أن يترك سفينته.
فالمصرفي العريق الذي دوّن في سجلات مسيرته المهنية نجاحات في الداخل والخارج، أنسن العمل المصرفي كونه لم يكن ينظر إلى الأرقام والحسابات والمال إلا من زاوية حجم الثقة التي منحها الناس للقطاع عامةً ولبنك عوده بشكل خاص، هذه الثقة التي افتخر فيها ريمون عوده ووضعها في فريق عمله، فكانت وساماً على صدره عُلّق الى جانب العديد من الجوائز والأوسمة التي استحقها عن جدارة.
تسعون عاماً هي رحلة العمر الذي انتهى لتبدأ حكاية رجلٍ اتّسم بتواضع الكبار. هو الذي بنى امبراطورية مصرفية مشغولة بالثقة والدقة والتفوق، شكّل علامةً فارقة بتميّزه في المجال الإنساني والاجتماعي والثقافي، فكان مجموعة طاقات في رجل.
بعد مشوار غني بالانجازات، يرحل ريمون عوده تاركاً وراءه بصمةً مضيئة في كل مجال دخل فيه، فضلاً عن إرث مصرفي تفتخر به أسرة "بنك عوده" كما يحلو لابنته شيرين أن تسميه رافضةُ أية تسمية أخرى. أما الرسالة التي تختصر كل حكاية والدها فهي روحه التي أريد أن تبقى إلى الأبد، وأملي أن أساهم في الحفاظ على هذه الروح كما تقول.
ما بين 1932 و2022 عاش ريمون عوده أعماراً مصقولة بالتجارب والخبرة والحكمة والإنفتاح. في مدينة صيدا أبصر النور، ومن شركة للصيرفة أسسها والده انطلق مع شقيقيه جورج وجان ليكمل المسيرة فتتحول الشركة في مطلع الستينات الى مؤسسة بنك عوده كأول مصرف تجاري في لبنان، ما لبث أن توسّع وانتشر في الخارج وبالتحديد مع مساهمين كويتيين في الإمارات العربية المتحدة ومن ثم في غيرها من البلدان العربية والأوروبية ليحجز البنك لنفسه مقعداً في صدارة لائحة المصارف اللبنانية.
وريمون عوده الذي امتهن الصناعة المصرفية، تولى رئاسة مجلس إدارة البنك خلفاً لشقيقه الراحل جورج منذ العام 1998 حتى 2008 تاريخ تعيينه وزيراً لشؤون المهجرين قبل أن يعود الى رئاسة مجلس الإدارة في أواخر 2009، وظلّ في هذا المنصب لغاية 2017، ليبقى رئيساً فخرياً للبنك حتى تاريخ وفاته قي 16 تموز 2022.
إذاً، المصرفي البارز الذي يُعدّ من أركان الرعيل الأول الذي أسس القطاع المصرفي في لبنان، والذي انتخب في العام 1994 رئيساً لجمعية المصارف، برز رجل خيال وإقدام وتوسع، فكان محطّ ثقة قوية لدى الكثير من المستثمرين العرب الذين ساهموا في البنك لإيمانهم بقدرة ريمون عوده وبشخصه وشخصيته المحببة التي مكّنته من نسج شبكة علاقات واسعة لبنانياً وعربياً ودولياً.
المثقف المبدع
ومثلما اقترن اسمه بالتميّز في عالم المال والمصارف، كذلك برز في ساحات الخدمات الانسانية والاجتماعية وفي عالم التراث وتشجيع الإبداع الثقافي والفني بشغفٍ قلّ نظيره.
ففي عزّ الحرب، عندما كانت بيروت تتعرض للقصف، كانت هناك فيلا سكنية عريقة معروضة للبيع في منطقة الأشرفية، اشتراها البنك وبفكرة ثورية آنذاك جعلها ريمون عوده مركزاً رئيسياً للمصرف وأطلق عليها اسم فيلا عوده، ولأنها باتت ضيقة على البنك الذي كبر وتوسّع كثيراً، حوّلها لاحقاً إلى متحف منحوتات ولوحات ذات قيمة عالية وفسيفساء وبنى لبنك عوده مركزاً رئيسياً جديداً في وسط بيروت (البلازا) الذي نقل تصميمه من مبنى أعجبه في لندن، فطلب من المهندس الاسترالي نفسه أن يأتي الى بيروت ليشرف على العمل. والجدير ذكره، أن ريمون عوده قام بتزيين المكاتب في البلازا بلوحات لرسامين لبنانيين علّقها شخصياً على الجدران الداخلية. وفي إحدى المرات قال لأصدقائه إنه أقرب إلى مهنة المهندس المعماري منه إلى رجل المصارف.
ولأنه يقيّم الأعمال الفنية والثقافية، قدّم عوده المساعدة والدعم الى جمعية التراث اللبناني إنطلاقاً من اهتمامه بالتراث وضرورة حمايته. هو أيضاً حوّل منزل العائلة القديم في صيدا إلى متحف للصابون منفذاً بذلك وصية والده الذي كان يعمل في هذا المجال، فوُضع المتحف على الخارطة السياحية في لبنان، وفيه يتم تنظيم المحاضرات بالإضافة الى الحفلات الموسيقية. أما الذوق الرفيع الذي طبع الهندسة هناك فكان معدياً إذا جاز التعبير، إذ عمد أصحاب المنازل في ذلك الحي الى اعتماد الاسلوب نفسه في ترميم البيوت والنوافذ.
وفي فقرا أيضاً، كانت له بصمة نجاح أنيقة، ففي تلك المنطقة التي هرب اليها الكثيرون في الحرب هرباً من القصف، قرر إقامة مشروع ما لبث أن صار من أهم المشاريع السياحية في لبنان وهو ما يُعرف بـ "فقرا كلوب".
الشغف المعدي
شغف ريمون عوده بالفنون على أنواعها انتقل إلى نجليه بيار وبول حيث برع الأول ولمع في عالم الأوبرا حاصداً العديد من الجوائز العالمية، والثاني في الفلسفة والكتابة والفكر وله العديد من المؤلفات القيّمة. هذا الأمر لم يشكل مشكلة إطلاقاً مع الوالد الذي وإن كان يتمنى أن يكمل نجلاه أو أحدهما مسيرة البنك، إلا أنه شجعهما في خياراتهما وساعدهما لأنه كا مقتنعاً بأن الشخص يبدع في المجال الذي يحبه ولا سيما اذا كان يملك قدرات قوية ومميزة فيه. أما ابنته شيرين فهي الوحيدة من أبنائه التي خاضت معه غمار العمل المصرفي في باريس.
ريمون في عيون شيرين
بالصدفة، دخلت شيرين ريمون عوده المجال المصرفي ومن دون تحضير عندما بدأت تتدرّب في فصل الصيف مع افتتاح فرع المصرف في باريس حيث كانت تعيش مع والدتها وشقيقيها بعد ان أجبرتهم ظروف الحرب على الإنتقال من لبنان، لكن والدها رفض المغادرة وقرر الصمود في مؤسسة بنك عوده لاعتقاده بأن القبطان لا يجب أن يغادر السفينة، كما تقول. وبالتالي لم تتعرف شيرين إلى والدها بشكل حقيقي إلا من خلال عملها في البنك حيث كانت تسمع بإستمرار عن الاستاذ ريمون والجميع يخبرها عنه وعن ميزاته. وتوضح: هناك تعرفت أكثر على والدي الذي لم يعاملني كابنته في العمل ولم يدعمني أو يتدخل في مسيرتي المهنية، لأنه كان مصرّاً على أن أتعلّم بمفردي وأتحمل المسؤولية، ولاحقاً أُعجب بعملي وأنا فخورة بذلك.
لا تخاف شيرين على المؤسسة وخطها برحيل المؤسس، لأن والدها المعروف بطيبته وتواضعه ولطفه ترك شيئاً من روحه في كل شخص في البنك، من الناطور إلى المدير، وفي كل من تعاون معهم. وعلى هذه الروحية، تتّكل شيرين وترى أن الجيل الأقدم في البنك سينقل هذه الروح الى الجيل الجديد ويكون قدوة له، فالمؤسسات لا تعيش بلا روحها. وتؤكد شيرين أنها فخورة بأن تكون أحد أعضاء فريق العمل لمؤسسة بنك عوده وشاهدة على الروح التي تركها ريمون عوده، وتقول إننا جميعاً كفريق نأتي ثانياً ويبقى بنك عوده أولاً، فالمؤسسة هي الأهم وهي الهدف، هي التي تؤمن بأن النجاح لا يمكن أن يكون فردياً بل جماعياً، مشيرةً إلى أن الفضل في النجاح يعود الى فريق العمل مجتمعاً، كما إنها ترفض أن تطلق على أعضاء هذا الفريق صفة الموظفين أو الأجراء، بل ترى فيهم عائلة بنك عوده باعتبار أن هذه المهنة وإن كانت تتعلق بالمال، إلا أنها مبنية على الثقة على حدّ تعبيرها.
إنساني بإمتياز
فخورة هي شيرين بوالدها الذي لم يحصر اهتمامه بالمال والمباني والحجر فقط، بل أبدى عنايةً استثنائية بالبشر من خلال العديد من النشاطات الثقافية والاجتماعية والإنسانية والخيرية. وتقول إن عينيه كانت تلمعان عندما يتعلق الأمر بالجانب الصحي أو التربوي.
وانطلقت باكورة أعماله الانسانية بعد وفاة شقيقه جان باكراً، إذ قدّم هو ووالدته وشقيقه جورج أرضاً في الزيدانية (صيدا) لبناء ميتم ومعهد تقني ليتمكن الاولاد الأيتام من التعلم فيه، وأطلق عليه اسم دار العناية. بعدها كرّت سبحة الأعمال الانسانية ولا سيما في مركز الرعاية الدائمة مع السيدة منى الهراوي وأيضاً في جمعية فرسان مالطة اللبنانية وغيرها العديد من الجمعيات والمؤسسات. وعدا عن تشجيعه كل مشاريع الإبتكار لدى الشباب اللبناني، كانت له مساهمات مع العديد من مدارس وجامعات لبنان من خلال تقديمه منحاً تربوية للطلاب المتفوقين.
وعندما نسأل شيرين ماذا خسرت بخسارة والدها، تأخذ نفساً عميقاَ قبل ان تجيب بصوت خنقته الغصة: أنا خسرت أباً وصديقاً وسنداً كبيراً وخسارته لا تُعوّض.
في الختام، لا نغالي إذا قلنا إنه، برحيل ريمون عوده، خسر القطاع المصرفي واحداً من أعمدته، أغنى سيرته بالكثير من المحطات الانسانية والثقافية المضيئة، فكان الوسام في حدّ ذاته، هو الذي استحق الأوسمة الفخرية وجوائز التقدير التي عُلقت على صدره في لبنان وكذلك في فرنسا وبلدان عدة.
رمزا عساف الخوري
العم ريمون
عندما طلب مني الكتابة عن عمو ريمون، تبادرت إلى ذهني العديد من الأفكار والذكريات. ومع ذلك، فإن ما كان له أقوى تأثير علي منذ سن مبكرة، هو قدرة عمو ريمون على جعل أي شخص يشعر بالراحة. لقد أعجبت بكونه دائما محباً ومهتماً، مع ابتسامة كبيرة على وجهه، مع إعطاء نفس الأهمية للناس من مختلف فئاتهم. على الرغم من فارق العمر بيننا، فقد جعلني دائماً أشعر وكأنني صديق له.
كان لدى عمو ريمون تلك الهالة التي يسعى الأشخاص الناجحون إلى امتلاكها، كرجل راض عن كل ما أنجزه في حياته.
وعلى الرغم من نجاحه، ظل متواضعاً ورحيماً ومليئاً بالعواطف. كان لدى عمو ريمون أيضاً إيمان قوي جداً. خلال رحلتنا مع منظمة فرسان مالطة، تأثرت بالطريقة التي يتعامل بها مع الجميع. لقد رأيت كل الدعم الذي قدمه للأخوات اللبنانيات في حرم سيدة لورد في فرنسا. الشيء الذي أعجبت به شخصياً هو حبه للفن والتراث. لقد فهم أهميتهما في المجتمع وكيف يساعدان المجتمعات على الازدهار. ومن الأمثلة البسيطة على ذلك تحويل مصنع الصابون العائلي القديم إلى متحف للحفاظ على الثقافة والتراث الحرفي لمدينة صيدا.
سيبقى لعمو ريمون مكانة خاصة في قلبي دائماً، بسبب الصداقة الاستثنائية التي شاركها مع جدي الراحل سعيد. كانت صداقتهما قائمة على الاحترام المتبادل والحب والعطاء دون توقع أي شيء في المقابل. من المؤكد أنهما وضعا معياراً عالياً بالنسبة لنا حول ما تبدو عليه الصداقة الحقيقية. كان لدى كليهما نفس طريقة التفكير، ويعرف أهمية الأسرة، ويهتم دائما بالآخرين. كانا يعملان بجد ومثابرة: كانت شركة إتحاد المقاولين وبنك عوده عائلتيهما الثانية. كلاهما يؤمنان بلبنان الحبيب وشعبه وما كان عليه أن يقدمه للعالم. لقد فعلا كل ما في وسعهما لرؤيته يزدهر مرة أخرى.
في المناسبات السعيدة والحزينة، كان عمو ريمون دائما بجانبنا. ستبقى ذكراه خالدة. لن ننسى عمو ريمون أبداً. لقد لمس الكثير من الناس بطرق أكثر مما سنعرفه عنه في أي وقت مضى.
ساجي سامر خوري
مع "الإقتصاد والأعمال"
برحيل ريمون عوده تفقد مجموعة الاقتصاد والأعمال واحداً من أوائل مؤسسيها، وينضم إلى مؤسسين آخرين سبقوه إلى العالم الآخر. وهم السادة دولة الرئيس عادل عسيران، المستثمر السعودي الكبير صالح كامل، عميد المقاولين العرب سعيد خوري، ورجل الأعمال السعودي محمد الفريح والرئيس الأسبق نجيب الخطيب، والسادة: جوزف غره، جوزيف عبده الخوري، أحمد كباره، وناصيف كرم رحمهم الله جميعاً. وبهذا الرحيل، تشعر المجموعة بفقدان النواة الأولى من المؤسسين بل من المؤمنين برسالة الاقتصاد والأعمال كمجلة وكمجموعة.
أما علاقة ريمون عوده مع مجلة الاقتصاد والأعمال ومع مؤتمراتها، فكانت أكثر من وثيقة ولاسيما منها رعايته لحفل العشاء السنوي الذي كان ينعقد عشية انعقاد منتدى الاقتصاد العربي والذي شكّل ركيزة من ركائز المنتدى. ويعود الفضل الأكبر في دخول ريمون عوده شركة "الاقتصاد والأعمال" إلى سعيد خوري ونال جائزة الاقتصاد والأعمال في مُلتقى القاهرة للاستثمار، وفي منتدى الاقتصاد العربي في بيروت، وقلما يمرّ مؤتمر للمجموعة إلا ويكون ريمون عوده في طليعة المُشاركين والمتحدّثين.
وصدف في العام 1993 أن بادرت مجموعة الاقتصاد والأعمال إلى إقامة مأدبة غداء في كازينو الصفا الكبير في جبل لبنان على شرف فؤاد السنيورة بعد تعيينه وزير دولة للشؤون المالية. وكدليل على شغف ريمون عوده بالطبيعة والبيئة، فما إن وطأت قدمه مدخل الكازينو حتى رأى فيه أشجار الصنوبر والمياه المتدفقة فقال: أنا أنفقت 100 مليون دولار حتى خلقت الطبيعة في منطقة فقرا، في حين أن المكان هنا كلّه طبيعة لا يمكن خلقها إلا في المكان الذي تكون به.
وكان ريمون عوده واحداً من المصرفيين القلائل ممن يحرصون على القراءة المتنوعة ويتابع التحاليل ويناقش فيها. ومن بين المطبوعات التي كان يتابعها بإهتمام مجلة الاقتصاد والأعمال، لا لأنه مساهم في الشركة المالكة لها ولكن من حرصه على الإفادة من معطياتها العربية الشاملة.
وداعاً أيها الصديق، وتعازينا الحارّة لأسرة آل عوده ولأسرة بنك عوده وعلى رأسها الصديق سمير حنا .