يرصد المهتمون بالأسواق الخليجية عموماً، وفي السعودية والامارات خصوصاً، تبدلات ممنهجة في إدارة الأولويات الاقتصادية والخطط التنموية، بما يفرض تبديلات موازية في أنماط التعاملات على المستويين الحكومي والخاص وآليات العمل والتعاون بينهما.
إنه «الواقع الجديد The New Normal»، كما يصفه رئيس ومدير عام شركة CFH الاستثمارية، والتي تتواجد منذ سنوات في هذه الأسواق ولديها شبكة علاقات وصداقات مع كبار المستثمرين ورجال المال والأعمال من أفراد ومؤسسات.
في التقييم المبدئي، يلاحظ فرح «تشدداً غير مسبوق في السياسات والإجراءات لإنهاء ظواهر الهدر التي طافت لعقود طويلة على الفوائض المالية للموارد النفطية. ومن الواضح أن هذا التوجه يمثل جانباً من المشهد الجديد الذي يتضمن تحولات هيكلية تتسم بالجدية في النماذج الاقتصادية في المنطقة، وخصوصاً في بلدان الخليج بعد أن شهدت السنوات الثلاث الماضية إنكماشاً في النشاطات الاقتصادية الرئيسية في القطاعات الأساسية بما في ذلك قطاع المقاولات والنشاطات المتمّمة له كما في التجارة وبخاصة تجارة التجزئة».
ماذا عن الأسباب الرئيسية وراء هذا التراجع الاقتصادي ؟
يقول فرح:«من الواضح أن التراجع الحاد في أسعار النفط إلى 30 دولاراً للبرميل وتأرجحه في فترة تالية ما بين 45 و50 دولاراً، وبدرجة تأثير أقل ساهمت الحرب في اليمن في تفاقم تعقيدات الوضع الاقتصادي على المدى القصير، مما اضطر الحكومات الى إعادة النظر في الأولويات، واعتماد سياسات مالية أكثر فعالية واستدامة، وكان الخيار الأسلم أمام الحكومات المباشرة بإعداد موازنات أكثر إتزاناً وأكثر عقلانية، واتجهت بشكل اساسي الى خفض الإنفاق والتنوع الاقتصادي وتخفيف الدعم ووقف الهدر وتعزيز المساءلة على المستويات كافة، كل هذه الخطوات الايجابية أدت، برأيي، الى الواقع الجديد، ومن هذا المنطلق كان على جميع القطاعات الاقتصادية التكيّف مع هذا الواقع الجديد ».
وما الذي تحقق على المستوى الحكومي؟
يجيب:«في حقيقة الأمر، نحن نشهد حالياً «صحوة» حقيقية، ضمن رؤية متكاملة لإقتصاد جديد» وفي اعتقادي، أن النموذج الإقتصادي السابق يعاني من ثغرات ولم يعد ذا جدوى فعلية في تحقيق النمو المستدام المستهدف، كذلك تدنت الوفورات المتاحة ولم تعد الحكومات قادرة على تحمل تبعات النموذج السابق على المدى الطويل لذا، باشرت الحكومات في المنطقة العمل على مبادرات إصلاحية جذرية . ويمكننا تصنيف رؤية 2030 التي أطلقتها المملكة العربية السعودية، كمبادرة نموذجية ومثال يُحتذى لمبادرات مماثلة في المنطقة، بالإضافة الى عمليات الدمج والتقنين في دولة الامارات، في دولة الامارات، كل هذه الخطوات هي في الطريق الصحيح، وهي تعكس أهمية المرحلة التي تمر بها اقتصادات الخليج ».
في المضمون «أصبحت الحكومة ملزمة بإتّباع مقاربات عقلانية بما يخص مشاريع البُنية التحتية وغيرها من المشاريع التي كانت تستنزف الجزء الأكبر من الموارد المتاحة. بكلام آخر، ليس المطلوب دوماً أن تكون هذه المشاريع على رأس الأولويات التي يتوجه إليها الإنفاق العام، وبإمكان الحكومات إعادة برمجتها وترتيب أهمية تنفيذها وتأجيل بعضها في الوقت الحاضر بهدف التخفيف من الضغوط على المالية العامة للدولة، كذلك أصبح ممكناً، بل ربما من الضروريات، النظر في جدوى بعض مجالات الدعم وإعادة توزيعه لحصر الاستفادة منه بالفئات المستهدفة، وايضاً رفع الدعم حيث يمكن ذلك والأهم السعي إلى تنويع مصادر الدخل بعيداً من الاعتماد الكلي على النفط بإتجاه قطاعات أخرى تساعد على تسريع النمو في المستقبل. وفي هذا السياق نشير إلى أن الحكومة السعودية قد استثمرت أكثر من 130 مليار دولار في الصناعة (الصناعات العسكرية والبتروكيماويات والمدن الصناعية) إضافة إلى قطاعات رئيسية أخرى».
تشدد في سياسات إنهاء ظواهر الهدر
«على خط مواز في الأهمية وبهدف تعظيم الايجابيات، يبرز الدور المنشود للقطاع الخاص، فمن الواضح أن حكومات المنطقة تبذل المساعي الجدية والهادفة الى تطوير منصة القطاع الخاص وآليات الشراكة في النمو والتنمية. تتنبه التوجهات الجديدة الى أهمية تأهيل المواطنين ورفع قدراتهم التعليمية والتدريبية ليصبحوا قادرين على الإنخراط في قطاعات متنوعة وبخاصة في شركات القطاع الخاص، كما تسعى إلى حفز وإغراء القطاع الخاص للدخول في مشاريع الشراكة والخصخصة، واجتذاب المستثمرين الأجانب واستصدار القوانين الضرورية لمواكبة هذه المبادرات، وكل هذا يشكّل تحدّياً أساسياً أمام الحكومة بإعتباره «السيناريو الوحيد» المتاح لتصحيح المسار الاقتصادي والإنتقال من وضع التخمة والاسترخاء والهدر الى حال العمل والانتاج وترشيق الهيكليات الفضفاضة في القطاعين العام والخاص، وعلى القطاع الخاص أن يدرك حقيقة هذا التحول في النموذج الإقتصادي. وخلاصة الأمر: الأولويات تغيّرت وباتت «ثقافة الطفرة» من الماضي وبتنا في مرحلة ما يمكن تسميتها بـ «الواقع الجديد».
وماذا عن إستجابة القطاع الخاص؟
يبدو واضحاً أن هذه المبادرات على صعيد الحكومات كان لها وقعها على القطاع الخاص بدرجات متفاوتة، فالشركات واجهت تحدّياً جدّياً في إدارة السيولة بعد حصول تحوّل حاد في دورة المدفوعات النقدية من 90 إلى أكثر من 300 يوم، يضاف إلى ذلك تزايد المخزون (الستوك) وتراجع الطلب، وهذا دفع بالمصارف إلى الضغط على زبائنها وإلزامها بتسوية بعض التسهيلات الائتمانية، وهذا التحدّي الأساسي الذي واجهه القطاع الخاص على مدى السنوات القليلة الماضية، وبخاصة قطاع المقاولات الذي افتقد الى مشاريع كبيرة كان يمكن السعي إلى الفوز بها لمساعدته على الاستمرار.
يرى فرح انه «من مصلحة القطاع الخاص المواكبة الكفوءة والفعالة لتغيير المفاهيم والرؤية، ففي صلب هذه التوجهات وأهدافها ما يحقق مصالحه الاستراتيجية وخصوصاً لجهة الإرتقاء بالكفاءة الى مستويات المعايير والمتطلبات الدولية. لقد شهدت السنوات الماضية تطورات مذهلة في مهام ادارة الأموال وإدارة التدفقات النقدية والتعليمات المحاسبية والرقابية، فضلاً عن تطوير مماثل في منصات الإدارة وتنفيذ المشاريع والتسويق وإدارة المخزون والمكاتب الاستشارية وعمليات الشراكة والإندماج وسواها .
والمفارقة في هذا الأمر« تكمن في ردود الفعل المختلفة التي صدرت عن القطاع الخاص نتيجة لما حصل، فالواضح أن الإدارات التي اتّسمت بعدم الفعالية الكافية وسعت إلى استرضاء زبائنها، وضعت اللوم على الحكومات واعتبرت أنها كانت الضحية. ففي الأيام العادية كل شخص بإمكانه أن يكون مديراً ناجحاً، أما في الأزمات فإن المدراء الأذكياء هم وحدهم الذين يملكون مفاتيح الكفاءة والخبرة لإتخاذ الأحكام الصحيحة، وقد استطاعوا تجاوز الأزمة والمضي قُدماً، وهنا نسجل أن العديد من الشركات كانت قادرة على الإستمرار وتجنّب الأسوأ، وذلك بإتخاذ القرارات السليمة والمزيد من الفعالية في قرارات التسعير وخفض النفقات غير الضرورية وإدارة السيولة وتعزيز مراكزها المالية عن طريق ضخّ أموال جديدة».
«رؤية 2030» مثال يُحتذى لتنوع الدخل وإشراك القطاع الخاص
إذاً، الكلمة الفصل تكمن في مدى قدرة أصحاب المؤسسات والمدراء على استيعاب المرحلة وفهم «النموذج الجديد» ولا خيار أمام الشركات سوى الاستيعاب والتأقلم والمواكبة، أو الخروج من السوق. يؤكد فرح: «بقدر ما يستوعب القطاع الخاص هذا التوجه الجديد، بقدر ما تكون فرص النجاح مؤكدة ».
هل ثمة فرص أعمال مجدية للقطاع الخاص للمساهمة في عملية النمو؟
يردّ فرح:«حكماً هناك فرص استثمارية وتجارية واعدة في هذا النموذج الجديد ولكن ينبغي إجراء الدراسة الوافية واستنباط الجدوى الاقتصادية للتأكد من عامل الربحية في مناخ تنافسي حاد جداً، وذلك قبل الشروع في إلتزامها وتنفيذها، والإستناد الى الإمكانات الحقيقية المتوفرة، وهذه أيضاً فرصة مناسبة لإعادة تقييم مجمل العمليات السابقة وفهم مكامن القوة والضعف، والقياس عليها في العمليات الجديدة.
فمن الناحية الإستثمارية، بدأنا نشهد عمليات دمج مصرفي وإقامة مؤسسات ذات سيولة والإطلالة على عمليات شراء وأو تجميع بهدف الوصول إلى وفورات الحجم، أضف إلى ذلك أن المؤسسات التجارية الكبرى تأخذ في الإعتبار حالياً ضرورة البيع والتحرر من المحافظ غير المُربحة. ومن الفرص المُتاحة أيضاً التطلع إلى مشاريع الشراكة بين القطاعين لم تكن مأخوذة في الحسبان في المرحلة السابقة.
الشركات تتجه نحو الإندماج والتجميع وتتطلع إلى مشاريع الشراكة
يمكن توصيف الحال بأنها تسير تحت يافطة «التفاؤل الحذر»، وطالما أن تدفقات النفط مستمرّة، وإجراءات تنويع الدخل في الصناعات واستمرار النمو السكاني، أعتقد أن هناك فرص أعمال قائمة ولكنها ليست كثيرة كما في الماضي.
وفي ظل إستمرار سياسة الإصلاح الحكومي التي بدأت قبل سنتين، فإن الفرص المُتاحة ينبغي أن تكون واقعية وعقلانية، والتحدّي أمام القطاع الخاص أن يتمكن من التحول نحو «العقلية الجديدة» والتعامل وفق مقتضياتها ».
الخلاصة، «على قدر أهلية القطاع الخاص في مواكبة التغيير والتأقلم مع المناخ التنافسي الجديد، تكون العوائد أعلى ومجزية أكثر، ومستندة الى معايير علمية ومهنية، وفي تقديري ستكون هناك فرص استثمارية وتجارية جاذبة
لآجال غير محددة ».