حين تُدار السياسة بالخوارزميات
الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي
مثلث السلطة الجديد في العالم العربي

18.12.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. خالد عيتاني*

لم يعد النفوذ في العالم يُقاس بما تملكه الدول من أرضٍ وجيشٍ وموارد فقط، بل بما تملكه من بياناتٍ وبنيةٍ رقميةٍ وسيادةٍ سيبرانية. وفي العالم العربي تحديدًا، يتقدّم سؤالٌ سياسي–اقتصادي جديد: هل نريد أن نكون دولًا تُدار بالتكنولوجيا أم دولًا تدير التكنولوجيا لمصلحتها؟

يقول خبير البيانات كلايف همبي: “Data is the new oil” غير أن النفط وحده لا يصنع قوةً إن لم يتحوّل إلى طاقةٍ وصناعة. وكذلك البيانات: لا قيمة لها إن لم تُنقَّح وتُدار وتتحوّل إلى قرار.

المشكلة: فجوة سيادة لا فجوة أدوات

المشكلة في كثير من بلداننا العربية ليست “نقص تطبيقات” أو “ضعف أجهزة”، بل فجوة سيادة رقمية تتجلى في أربع صور مترابطة:

  1. اقتصاد رقمي بلا سياسة اقتصادية رقمية: منصات وخدمات متناثرة بلا رؤية وطنية واضحة (نمو، إنتاجية، تنافسية، تصدير خدمات رقمية).
  2. سياسة بلا عقل بيانات: القرار العام يُتخذ أحيانًا بسرعة سياسية، لكن دون قدرة مؤسسية على قراءة الصورة كاملة عبر البيانات.
  3. اعتماد مفرط على الخارج: سحابات، منصات، مزودون، ومعايير تُحدّد خارج المجال السيادي، فتتحول التكنولوجيا من رافعة استقلال إلى باب تبعية.
  4. أمن سيبراني كوظيفة تقنية لا كسياسة دولة: بينما الهجمات اليوم تستهدف الطاقة والمصارف والاتصالات، أي تستهدف الاستقرار الاقتصادي نفسه.

هذه الفجوة تجعل الاقتصاد الرقمي “زينة تحديث” بدل أن يكون محركًا للنمو ورافعة للقرار.

لماذا الذكاء الاصطناعي سياسي بامتياز؟

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أتمتة؛ إنه قدرة على التنبؤ. والتنبؤ في السياسة يعني: تقليل المفاجآت، إدارة المخاطر، وترشيد القرار قبل أن يتحول إلى أزمة. لذلك لا مبالغة في القول إن الذكاء الاصطناعي بات “عقل الدولة الحديثة” عندما يوضع داخل مؤسساتها، لا على هامشها.

يصف أندرو نغ التحول بعبارة قصيرة: “AI is the new electricity” أي أنه مثل الكهرباء: لا يُنظر إليه كقطاع واحد، بل كبنية تحتية تُعيد تشكيل كل القطاعات—ومنها الحكم والاقتصاد والأمن.

في العالم العربي، حيث الدولة لاعب اقتصادي كبير (مشتريات عامة، خدمات، دعم، تنظيم)، تصبح خوارزميات التحليل والتنبؤ قادرة على:

  • رفع كفاءة الإنفاق العام (من “الإنفاق الواسع” إلى “الإنفاق الذكي”).
  • تحسين استهداف الدعم والخدمات الاجتماعية عبر بيانات موثوقة بدل التقدير.
  • تعزيز الثقة الاستثمارية عندما تصبح الإجراءات أسرع، والحوكمة أوضح، والبيانات أدق.

لكن هذه القوة تحمل وجهًا آخر: إن لم تُضبط، قد تتحول إلى مركزية رقمية مفرطة، أو إلى قرارات “سريعة” بلا عدالة أو شفافية.

الاقتصاد الرقمي: من “خدمة” إلى “سيادة

الاقتصاد الرقمي في المنطقة العربية يمكن أن يكون طريقًا واقعيًا لتقليل هشاشة النماذج الريعية ورفع الإنتاجية. لكنه لن يتحقق بالشعارات ولا بمشاريع متفرقة. هنا تأتي قاعدة مهمة:

التكنولوجيا لا تعوّض غياب السياسة الاقتصادية؛ بل تحتاجها.

أمثلة التحول موجودة عربيًا في الممارسة لا في التنظير: الهوية الرقمية، الدفع الإلكتروني، بوابات الخدمات الحكومية الموحدة، رقمنة الجمارك والمرافئ، وتكامل قواعد البيانات بين الوزارات—كلها أدوات تُترجم فورًا إلى زمن أقل، فساد أقل، كلفة أقل، وثقة أعلى.

لكن الاستثناء الحاسم: عندما تصبح الرقمنة “واجهة” بلا تكامل بيانات وبلا إعادة هندسة إجراءات، تتحول إلى بيروقراطية إلكترونية بدل أن تكون إصلاحًا.

الدبلوماسية الرقمية: تحالفات تُبنى بالبيانات

نحن أمام شكل جديد من العلاقات العربية–العربية والعربية–الدولية: الدبلوماسية الرقمية. ليست فقط اتفاقيات سياسية، بل:

  • تبادل خبرات تقنية ومعايير تشغيل.
  • تعاون سيبراني يتجاوز البيانات إلى “أمن الدولة”.
  • منصات مشتركة (تدريب، ربط خدمات، أو حلول قطاعية) تخدم التجارة والاستثمار وتقلل كلفة التكامل.

الفرق هنا جوهري: التحالف التقليدي قد يتبدّل بتبدّل السياسة، أما الترابط الرقمي العميق فيخلق مصالح يومية يصعب تفكيكها بسهولة.

الأمن السيبراني: شرط الاستثمار والاستقرار

الاقتصاد الرقمي بلا أمن سيبراني يشبه مدينة بلا شرطة. والأسوأ: أنه يعرض الاقتصاد والسياسة معًا للابتزاز.
المطلوب عربيًا ليس “شراء حلول أمنية” فقط، بل بناء منظومة وطنية: تشريعات، مراكز استجابة، تدريب، إدارة مخاطر، وتمارين جاهزية.

هنا أيضًا يوجد استثناء مهم: الإفراط في الأمن دون حوكمة قد يخنق الابتكار والاستثمار. المطلوب توازن: أمن قوي + قواعد واضحة + ثقة عامة.

تقييم الفكرة: أين نكسب وأين نخسر؟

نربح عندما نحول الاقتصاد الرقمي إلى إنتاجية:

  • تقليل كلفة الدولة.
  • زيادة كفاءة الخدمات.
  • جذب استثمارات نوعية.
  • خلق وظائف جديدة في البيانات والبرمجيات والأمن السيبراني.

ونخسر عندما نخلط بين “التحول الرقمي” و“شراء منصات”:

  • تتوسع التبعية التقنية.
  • تتعمق الفجوة بين الدولة والمجتمع بسبب ضعف الثقة والخصوصية.
  • يظهر اقتصاد رقمي هش قائم على الاستهلاك لا على القيمة المضافة.

وهنا تنطبق عبارة مارك أندريسن الشهيرة: “Software is eating the world.”

لكن السؤال العربي الأهم: هل “البرمجيات تأكل العالم” لمصلحتنا أم على حسابنا؟

توصيات جامعة وإبداعية للعالم العربي

  1. عقد سيادة رقمية عربي جديد
    تعريف واضح: البيانات السيادية، أين تُخزن، كيف تُدار، ومن يملك قرارها.
  2. مركز قرار اقتصادي–سياسي قائم على البيانات
    وحدة وطنية مشتركة بين الاقتصاد/المالية/التخطيط + التحول الرقمي + الأمن السيبراني، مهمتها تحويل البيانات إلى سياسات قابلة للقياس.
  3. سحابة سيادية/هجينة للقطاعات الحساسة
    ليس بالضرورة إلغاء الشراكات الدولية، بل ضبطها: قطاعات سيادية داخل نطاق سيادي، وباقي الخدمات وفق معايير واضحة.
  4. الأمن السيبراني كميزة تنافسية للاستثمار
    إعلان معايير وطنية، اختبارات امتثال، واستجابة سريعة للحوادث—لأن المستثمر لا يبحث عن “تطبيقات جميلة” بل عن استقرار قابل للتنبؤ.
  5. سياسة صناعية رقمية لا “رقمنة خدمات” فقط
    تحويل التقنية إلى إنتاج: تصدير خدمات رقمية، دعم شركات محلية، ومشتريات حكومية ذكية تخلق سوقًا داخليًا للشركات العربية.
  6. حوكمة وأخلاقيات للذكاء الاصطناعي تبني الثقة
    قواعد شفافية، عدالة خوارزمية، حماية خصوصية، وآليات تظلم—لأن الاقتصاد الرقمي بلا ثقة مجتمع اقتصادٌ قصير العمر.

العالم العربي لا يحتاج مزيدًا من الكلام عن الذكاء الاصطناعي؛ يحتاج ترجمة سياسية–اقتصادية له: كيف يرفع النمو؟ كيف يحمي السيادة؟ كيف يعزّز الاستقرار؟ في العقد القادم، سيُقاس النفوذ العربي بقدرة دوله على امتلاك “العقل الرقمي” وتوجيهه ضمن حوكمة رشيدة. فالذكاء الاصطناعي ليس مستقبلًا بعيدًا؛ إنه لغة القوة الآن.

من يمتلك اقتصاده الرقمي وذكاءه الاصطناعي… يمتلك قراره السياسي وموقعه في المستقبل.

* رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية