مشروع لإسترداد الودائع
أم لتضليل المودعين؟

16.12.2025
غسان العياش
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

غسان العيّــاش*

من الأفضل أن يستعدّ المودعون في المصارف اللبنانية لصدمة قريبة في موضوع ودائعهم العالقة بين المصارف ومصرف لبنان. فقد أعلنت الحكومة انها باتت على قاب قوسين أو أدنى من إقرار قانون الفجوة المالية، الذي اختارت له اسم " قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع".

مسودّة القانون التي تسرّبت إلى وسائل الإعلام، تبيّن أنه ينطوي على تضليل للمودعين وبيعهم أوهاما جديدة، تضاف إلى الأوهام التي قدّمت لهم في السنوات الست الماضية تحت شعارات وهمية من نوع "قدسية الودائع" وحتمية إعادتها كاملة إلى أصحابها.

السبب الأوّل لهذا التشاؤم مردّه إلى التجارب السابقة التي شهدناها منذ بداية الأزمة المالية والمصرفية غير المسبوقة في لبنان. كان من المفروض بالسلطة أن تصدر التشريعات الضرورية والبديهية لمواجهة الأزمة في الأيام والأسابيع الأولى للانهيار، وأبرزها قانون وضع قيود فورية على السحوبات والتحويلات من المصارف، أو ما يعرف بالكابيتال كونترول، والقانون المتعارف على تسميته بقانون "الفجوة المالية" الذي يحصر الخسائر في القطاع المالي ويحدّد طريقة توزيعها على الدولة ومصرف لبنان والمصارف، والشرائح العليا من المودعين عند الاقتضاء.

وخلافا لضرورات الاستعجال في إصدار هذه القوانين، لجأت الدولة إلى التسويف وإضاعة الوقت، مع ما يلحق ذلك من أضرار فادحة بالاقتصاد اللبناني. منذ حكومة حسّان دياب مرورا بحكومة نجيب ميقاتي، كانت الحكومة تحيل إلى مجلس النوّاب مشاريع قوانين حول الفجوة المالية تصطدم بمعارضة النوّاب، فتستردّها الحكومة وتبدأ بوضع مشاريع قوانين جديدة وترسلها إلى مجلس النوّاب لتلقى مصير المشاريع التي سبقتها، وهكذا دواليك.

ولأن "سوء الظن من حسن الفطن" فقد ساد اعتقادٌ واسع النطاق بأن التراشق بمسودّات القوانين بين الحكومة واللجان النيابية، الذي يشبه "لعبة التنس"، ليس عفويا أو بريئا، بل هو يعكس تواطئا بين الحكومة واللجان. لأن المصارف، على ما يقال، لها نفوذٌ واسع في بعض اللجان وفي الحكومة، بما يمنع وصول أي مشروع إلى خواتيمه السعيدة.

ويقال بأن مشروع القانون الذي تبشّر الحكومة بقرب إحالته إلى المجلس سيلقى المصير نفسه، وأن المصارف بدأت منذ الآن باستنفار "نوّابها" لإجهاضه وردّه إلى مجلس الوزراء. قال أحد أصحاب المصارف الكبرى في مجلس خاصّ بأن هذه المصارف لن تسمح بمرور قانون يجرّدها من رساميلها فيما المسؤولية تقع كليا على الدولة التي عبثت بأموال المودعين وبدّدتها.

   السبب الثاني للتشاؤم بعدم إمكانية توصّل الحكومة، ومن بعدها البرلمان، إلى استعادة حقوق المودعين هو ادّعاء الحكومة بأنها تحضّر مشروع قانون يعيد كل الودائع العالقة في النظام المالي إلى أصحابها  دون شطب أي جزء منها، انسجاما مع الشعار الذي رفعه رئيس الحكومة منذ تشكيلها بأن الهدف هو شطب كلمة شطب، بحيث تستردّ الودائع كاملة.

لكن النسخ التي تسرّبت شكّلت صدمة للرأي العام، ولأصحاب الأموال المودعة في المصارف، لأن مشروع الحكومة مبني على شطب نسب واسعة من الودائع. فالمشروع يقسّم الودائع إلى أربع فئات، نال كل منها نصيبه من الشطب، ولو بصورة غير صريحة.

الفئة الأولى هي التي لا تزيد عن مئة ألف دولار أميركي، ويقضي المشروع بدفع الأموال ضمن هذه الشريحة من خلال أربع دفعات شهرية، بحيث تستردّ خلال أربع سنوات. ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الودائع "الصغيرة" قد تقلّصت كثيرا في الفترة الزمنية السابقة سواء بسبب استفادة أصحابها من التعميمين 158 و166 دون أن يستفيدوا من الفائدة المشروعة على أموالهم، أو بسبب اضطرار المودعين إلى تصفية ودائعهم بسعر صرف ظالم بلغ في حده الأقصى 15 ألف ليرة لبنانية.

وإذا كان مصرف لبنان لا يفصح عن الأرقام والشرائح، فمما لا شك فيه بأن أصحاب الودائع المعتبرة صغيرة قد تعرّضوا للظلم وألحقت بهم خسائر، سواء بسبب حرمانهم من الفائدة على مرّ السنين، أو بسبب اضطرارهم لتصفية ودائعهم بأسعار صرف بخسة.

فئات الودائع الأخرى المعتبرة متوسّطة وكبيرة وكبيرة جدّا، فهي ستسدّد بموجب سندات لفترات تتراوح بين عشر سنوات وعشرين سنة، بفوائد زهيدة. أليس تسديد الودائع خلال فترات طويلة جدا ينطوي ضمنا على شطب للودائع بسبب ذوبان قيمتها مع الزمن؟ كان من الأجدر، حرصا على العدالة، عدم ربط مدّة احتجاز هذه الودائع بفائدة ثابتة قدرها 2% كما ينصّ المشروع بل بربطها بمعدّل فائدة متحرّك مثل الليبور على سبيل المثال.

مشروع الحكومة، كما تسرّب للإعلام لا يتوقّف في تضليل المودعين عند هذا الحدّ بل هو يعدهم بصندوق مزعوم لاسترداد الودائع، يتغّذى بموارد وهمية: فيشير مثلا إلى عبارة مبهمة وهي "عائدات توظيفات المعادن الثمينة".هذه العبارة لا معنى لها إلا إذا كانت الحكومة تتّجه إلى بيع قسم من مخزون الذهب الذي يملكه مصرف لبنان، وهو أمرٌ بعيد الاحتمال، لأن ذهب مصرف لبنان لا يمكن تحريكه بأي شكل إلا بقانون ومن الواضح أن مزاج مجلس النوّاب لن يتقبّل هذه الفكرة.

وتنساب الأفكار والوعود الوهمية لتمويل صندوق استرداد الودائع، فتذكر محفظة مصرف لبنان العقارية وهي ذات قيمة ضعيفة لأنها مكوّنة من ملكيات صغيرة ومتناثرة فيما الأسعار هذه الأيام في الحضيض .أما استثمارات مصرف لبنان الأخرى، مثل شركة انترا للاستثمار التي تملك حصّة في كازينو لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط، فقيمتها ضئيلة قياسا بحجم الفجوة المالية البالغ أكثر من 80 مليار دولار.

لو أردنا تفنيد النسخة المسرّبة لما سمّي مشروع الحكومة للانتظام المالي لواجهنا عشرات الأسئلة الأخرى والنقاط المبهمة والتناقضات. فنكتفي بهذه النقاط الحيوية الآن بانتظار ولادة المشروع رسميا، إذا قدّر له أن يبصر النور.

* نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً