سوريا الجديدة:
من هندسة الفوضى إلى صناعة السلطة

16.12.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. وسام صافي – عميد  متقاعد

بعد أربعة عشر عاماً على اندلاع الثورة السورية، يمكن القول إن المشهد بات أكثر وضوحاً مما كان. فالدولة التي كانت تُقدَّم يوماً كمشروع قابل لإعادة البناء تحولت عملياً إلى ساحة اختبار مفتوحة أمام القوى الدولية، وتجربة يُعاد من خلالها اعتماد مقاربات قديمة في معالجة الحركات العقائدية، ولكن بأدوات جديدة وبيئة مغايرة .

فخلال السنوات الأخيرة، برزت سلسلة تطورات، من إعادة تدوير شخصيات محسوبة على الإسلام السياسي، إلى تحويل فصائل جهادية إلى سلطات أمر واقع، وصولاً إلى التسريبات الاستخباراتية واللقاءات الدولية اللافتة، لتكشف جميعها عن مقاربة تستند إلى فكرة بريطانية قديمة مفادها أن الحركات العقائدية لا تُهزم بالقوة… بل بجرها إلى الحكم لكشف محدوديتها.

ولم يكن لقاء أسعد الشيباني وزير الخارجية السوري مع توني بلير في دافوس، في كانون  الثاني/ يناير 2025 ، مجرد مصافحة عابرة. فاللقاء حمل إشارة واضحة إلى انتقال التجربة من إدارة غير مباشرة إلى توظيف مباشر لمقاربات يجري العمل عليها منذ سنوات، ضمن مشروع أوسع يهدف إلى إنتاج سلطة هجينة يجري تسويقها كخيار "واقعي" في ظلّ انهيار مؤسسات الدولة السورية.

من إيرلندا الشمالية إلى المشرق

تستند المقاربة البريطانية إلى تجربة التسعينات في إيرلندا الشمالية، حين خلُص جوناثان باول، كبير مفاوضي توني بلير، إلى قاعدة اعتُبرت لاحقاً ركيزة في التعامل مع الحركات المؤدلجة: لا يمكن هزيمتها عسكريا،ً بل عندما تُجبر على الحكم.

وفي عام 2011 ، أسس باول منظمة Inter Mediate لتطبيق هذه الفكرة في مناطق النزاع، وكانت سوريا إحدى الساحات التي عملت فيها المنظمة، وفق وثائق صادرة عن وزارة الخارجية البريطانية سمحت لها بالتواصل مع جهات مصنّفة على أنها "محظورة ".

سوريا كمنصة اختبار: سلطة تُصنع ولا تُنتخب

منذ 2012 وحتى 2020 ، جرى العمل عبر قنوات متعددة على إعادة تدوير فصائلوشخصيات ذات خلفية دينية، وصياغة بدائل "معتدلة" من الإسلام السياسي، والدفع نحو نموذج حكم يستمد شرعيته من الخارج. وبحلول 2020 ، وصفت Chatham Houseالحالة السورية بأنها "سلطة بلا شرعية".

وفي السياق نفسه، رُفع اسم أحمد الشرع تدريجياً، لا بوصفه صاحب قاعدة اجتماعية حقيقية، بل باعتباره اختباراً عمليا لقدرة التيارات الإسلامية على تقديم نموذج حكم يمكن أن يستقر.

واشنطن، احتواء عبر التضخيم ودرس أفغانستان

تختلف المقاربة الأميركية عن البريطانية. فواشنطن تعتمد سياسة تُعرّفها مراكز أبحاث أميركية بأنها "الاحتواء عبر التضخيم": أي ترك المشروع العقائدي يتقدم، ثم عرضه أمام الرأي العام الدولي ليتبين مدى قدرته على الإدارة الفعلية.

وهو ما ظهر في التعامل مع الشرع: سماح بالظهور الإعلامي، رسائل ملتبسة حول إمكانية استقباله رسمياً، من دون اعتراف سياسي حقيقي .

وتتقاطع هذه المقاربة مع التقرير الشهير للمفتش العام الأميركي لإعادة إعمار أفغانستان (( SIGAR  الذي خلص إلى أن مشروع بناء دولة ديمقراطية مستقرة في أفغانستان كان محكوماً بالفشل بسبب الفساد وسوء الإدارة وعدم واقعية الأهداف. والرسالة غير المعلنة هي: "لن نكرر خطأ صناعة دولة على مقاس جماعة عقائدية. دعوا التجربة تكشف حدودها بنفسها".

MI6  وهيئة تحرير الشام: هندسة محسوبة

كشفت تقارير نشرتها ال BBC و The Guardian عن تواصل منتظم بين الاستخبارات البريطانية MI6 وقيادات هيئة تحرير الشام منذ 2014.  شمل لقاءات مباشرة، وبرامج دعم تحت عنوان "الاستقرار"، وحملات تلميع لصورة الجولاني. (الشرع).

أما تقرير International Crisis Group عام 2022 فذهب أبعد من ذلك حين وصف الهيئة بأنها "سلطة غير حكومية منضبطة وقابلة للتحول إلى وكيل تفاوضي". أي أن الأمر لم يكن انزلاقا تكتيكياً، بل جزءاً من عقيدة استخباراتية مدروسة.

المعارضة الصامتة والسلطة الهجينة في مواجهة رفض شعبي يتوسع

وفي مقابل هذا المسار الذي يُعاد رسمه خارج الحدود، بدت المعارضة السورية وكأنها شريك غير معلن في عملية إعادة الهندسة، إذ جاء موقفها مزيجا من الصمت والحسابات الضيقة والخشية من خسارة التمويل الغربي، ما جعلها تبدو عاجزة عن مواجهة التحولات التي تُفرض على المشهد السوري. وفي ظل هذا العجز، استمر تشكّل نموذج سياسي هجين لا يستند إلى أي سيادة حقيقية، نموذج تصفه مراكز الأبحاث بأنه "حكم مرتكز على الخارج": شرعية مستوردة، مؤسسات بلا سلطة، اعتماد متزايد على المنظمات الدولية، وتوازنات أمنية وعشائرية هشة لا تُنتج قراراً وطنيا مستقلاً.

غير أن هذا البناء المصطنع بدأ يتصدع من الداخل مع صعود موجات الرفض الشعبي. فقد جاءت انتفاضة السويداء بصوت واضح: رفضٌ للهندسة قبل رفض السلطة، وتمرد على معادلة تحاول تحويل سوريا إلى كيان يُدار من غرف دولية أكثر مما يُدار من مؤسساته. فالاحتجاجات التي توسعت في المحافظة، من قطع الطرقات إلى المطالبة بإنهاء الهيمنة الأمنية، لم تكن صدى لأزمة اقتصادية، بل رفضا لمشروع السلطة المُصنّعة المفروضة على المجتمع السوري.

وتوازياً مع حراك السويداء، برزت تحركات اللاذقية وجبلة وحمص كحلقة مكملة في سلسلة الرفض الشعبي، لتكشف أن الغضب لم يعد محصوراً بمناطق منهكة أو مهمّشة، بل امتد إلى بيئات كانت تُعد أكثر استقراراً. وتذهب بعض مراكز الدراسات إلى وصف هذه الموجة بأنها "ثورة على السلطة المُهندسة"، في إشارة صريحة إلى أن بعض السوريين باتوا يرفضون خارطة الطريق الدولية التي تُرسم لهم، قبل رفضهم للسلطة التي تُنفَّذ عبرها.

سوريا بين لندن وواشنطن: دولة تُختبر… لا تُبنى

عند جمع مختلف العناصر: المقاربة البريطانية، إعادة تدوير الفصائل، دعم الشرع، تواصل MI6 مع الجولاني، الاستراتيجية الأميركية الجديدة، درس أفغانستان، إحتجاجات الساحل، وانتفاضة السويداء، يبرز استنتاج واحد :

سوريا ليست مشروع دولة قيد البناء، بل تجربة سياسية يُراد لها أن تفشل كي تُستخدم لاحقاً كدليل على عجز الإسلام السياسي عن إنتاج نموذج حكم مستدام، سواء كان سنياً أو شيعياً.

وإلى أن ينتهي هذا الاختبار، تُترك البلاد في حالة تعفّن سياسي واجتماعي، بينما تبقى السلطة مفروضة من الخارج، ويتحول السوريون إلى شهود على نموذج يتم التلاعب به في غرف المفاوضات الدولية، حيث "يُبحث عن النموذج وتُنسى الدولة".