القمة الخليجية في البحرين
ولادة الخليج الجديد

15.12.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. سوليكا علاء الدين

احتضنت مملكة البحرين القمة السادسة والأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، بمشاركة قادة وممثلي الدول الأعضاء، حيث تناولت السبل الكفيلة بتعزيز التكامل بين دول المجلس وتطوير شراكاتها الاستراتيجية مع القوى الدولية. وقد شكلت القمة محطة مفصلية في مسار التعاون الخليجي، إذ عكس بيانها الختامي، الذي تضمن 162 بندًا، تحولًا جوهريًا من خلال ترسيخ مبدأ "الأمن الكلي" الذي ينظر إلى أمن دول المجلس بوصفه منظومة متكاملة، وتفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك، وتطبيق رؤية الملك سلمان بن عبد العزيز للوحدة الاقتصادية والدفاعية والأمنية للدول الست، إضافة إلى تنسيق المواقف السياسية بما يسهم في ترسيخ الاستقرار الإقليمي وتعزيز قدرة دول المجلس على مواجهة التحديات العالمية.

وتجاوز الطموح الأمني حدود التنسيق التقليدي، مؤكّدًا في البيان التوجه نحو مرحلة الاتحاد استكمالًا لمبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز، كما كُلّف المجلس الوزاري بوضع الأطر التنفيذية اللازمة لعرضها في القمة المقبلة، في خطوة تعكس التزام دول المجلس بتحويل الرؤى المشتركة إلى واقع ملموس.

رؤية شاملة للعمل الخليجي

قدّم البيان الختامي رؤية متكاملة تجمع بين الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والبيئية، في إطار تصور شامل لمستقبل العمل الخليجي المشترك. على الصعيد الاقتصادي، يعكس البيان رغبة واضحة في تعزيز التكامل من خلال إنشاء أدوات مؤسسية مشتركة، مثل هيئة الطيران المدني، والمنصة الصناعية لتطوير سلاسل الإنتاج، ومشروع سكة الحديد الخليجي، والقواعد الموحدة لملكية العقارات، مع تحديد جداول زمنية لإنجاز المشاريع مثل منصة تبادل البيانات الجمركية ومعرض "صُنع في الخليج"، لتعزيز اقتصاد إنتاجي متكامل ودعم القطاع الخاص، وربط المبادرات باستراتيجية شاملة للنمو الاقتصادي.

في البيئة والطاقة، يؤكد البيان على دعم استقرار أسواق الطاقة عالميًا، ويبرز مبادرات مثل "السعودية الخضراء" و"الشرق الأوسط الأخضر"، مع الالتزام بالاقتصاد الدائري للكربون واستخدام تقنيات حديثة مثل الهيدروجين النظيف وتخزين وإعادة استخدام الكربون، بما يعزز التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي الصديق للبيئة.

أما على الصعيد السياسي الإقليمي، فأكد البيان دعم القضية الفلسطينية، مع الالتزام بوقف إطلاق النار ودعم الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. كما جدد البيان دعم سيادة الإمارات على الجزر الثلاث المحتلة من إيران، وأكد ملكية حقل الدرة المشتركة بين السعودية والكويت، ورفض أي ادعاءات لطرف ثالث، مع التأكيد على احترام سيادة دول المنطقة ورفض التدخلات الخارجية، والدفع نحو حلول سياسية مستدامة.

وعلى المستوى الدولي، أشاد البيان بدور دول الخليج كوسيط في الأزمة الروسية–الأوكرانية، وعزز الشراكات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وآسيان، والصين، مؤكدًا حرص المجلس على توسيع دوره ضمن منظومة دولية معقدة ومتنامية التحديات.

نحو كتلة خليجية موحدة

شهدت دول الخليج منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 تحولات عميقة سرّعت مسار تحويل المجلس إلى اتحاد رسمي، في خطوة تعكس إدراكًا خليجيًا ناضجًا بالتحديات العالمية المعقدة. ويأتي هذا التحول في ظل بيئة إقليمية ودولية متقلبة، تتقاطع فيها التهديدات الأمنية مع صراعات النفوذ والتنافس الاقتصادي بين القوى الكبرى، مما يستدعي من دول المجلس تعزيز قدرتها على حماية مصالحها ومواطنيها وضمان مكانتها الاستراتيجية.

ويأتي البعد الأمني في صدارة هذه الرؤية، إذ يتحول الاتحاد من مجرد تنسيق بين الدول إلى كتلة دفاعية موحدة، تجعل أي تهديد لدولة خليجية تحديًا مشتركًا لجميع الأعضاء. ويشكّل هذا الاستقرار الأمني قاعدة صلبة لتعزيز التكامل الاقتصادي وتحقيق الطموحات المشتركة، من خلال بناء سوق خليجية موحدة وتشريعات استثمارية متناسقة تمكّن الدول الأعضاء من التفاوض ككتلة قوية مع القوى الكبرى، مستفيدة من قوتها الاقتصادية المتوازنة.

كما يعكس هذا التوجه رؤية واضحة للتحول نحو اقتصاد إنتاجي مستدام لمرحلة ما بعد النفط، عبر دعم الصناعات المحلية، وتعزيز التكامل اللوجستي والتقني، وإطلاق مشاريع مشتركة مثل سكة الحديد الخليجية ومنصات تبادل البيانات، بما يعزز القدرة التنافسية ويؤسس لاقتصاد خليجي متكامل وفاعل.

ومع التحولات الجيوسياسية العالمية، يسعى الاتحاد الخليجي إلى إعادة صياغة استراتيجيته من الاعتماد على الحماية إلى تبني شراكة واستقلالًا استراتيجيًا كاملًا، يمنح دول المجلس مرونة أكبر في إدارة علاقاتها شرقًا وغربًا، ويحافظ على مكانتها السياسية ويعزز تأثيرها في المعادلات الإقليمية والدولية.

وعلى الصعيد الداخلي، يسهم الاتحاد في تعزيز استقرار البيت الخليجي عبر آليات ملزمة لإدارة الخلافات وتنسيق السياسات الخارجية، ويقوي الهوية الخليجية الجامعة ويعزز أواصر التكامل بين شعوب الدول الأعضاء. كما يخلق بيئة مستقرة للتنمية المستدامة والتعاون المشترك، ويزيد القدرة على مواجهة الضغوط كافة.

قوة حقيقية وجيوسياسية

تمتلك دول مجلس التعاون الخليجي مجموعة من العوامل الاستراتيجية الاستثنائية التي تجعل مشروع "الاتحاد" أكثر من مجرد طموح سياسي. اقتصاديًا، تعتمد الدول الست على ثروات نفطية وغازية ضخمة، مدعومة بصناديق سيادية تدير أصولًا تقارب 5 تريليونات دولار، ما يمنح الاتحاد قوة استثمارية ومالية هائلة، تتعزز بريادة المنطقة في مشاريع طاقة المستقبل مثل الهيدروجين والطاقة الشمسية. ويتكامل هذا الثقل الاقتصادي مع موقع جيوسياسي فريد يربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، ويسيطر على ممرات مائية حيوية، مما يؤهل الخليج ليكون مركزًا لوجستيًا عالميًا ونقطة استراتيجية محورية.

تشير بيانات مجلس التعاون لعام 2024 إلى أن دول الخليج تمتلك قاعدة اقتصادية قوية وقدرة تنافسية عالية، فقد حقق المجلس المرتبة الخامسة عالميًا في حجم التبادل التجاري السلعي، بقيمة 1.6 تريليون دولار، وحصة 3.2 في المئة من التجارة العالمية، مع نمو 7.4 في المئة مقارنة بالعام السابق، وبلغت الصادرات السلعية نحو 850 مليار دولار، فيما سجلت الواردات 739.9 مليار دولار بنمو 12.3 في المئة.

وتعزز هذه النتائج القوة الاقتصادية الجماعية لدول المجلس، وتمكّنها من بناء سوق خليجي موحد يوفر ركائز صناعية وتجارية قابلة للتطوير والمنافسة من خلال مشاريع مشتركة، ويتيح الانخراط الفعّال في التجارة الدولية. كما يفتح نمو الواردات والصادرات غير النفطية المجال لتنويع الاقتصاد في مجالات الصناعة والخدمات والتكنولوجيا والطاقة المتجددة، مؤسسًا بذلك اتحادًا اقتصاديًا مستدامًا يتمتع بالقدرة على الاستقرار والتأثير الإقليمي والدولي.

الاتحاد أمام تحديات الوحدة

رغم الطموح والدعم الذي يزخر به الإتحاد الخليجي لتعزيز قوته ووحدته، تثير الخلافات السابقة بين الدول الأعضاء والتحديات الراهنة هواجس حول قدرته على تحقيق التكامل السياسي والأمني والاقتصادي المرجو، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي تتصاعد فيها الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية على المستويين الإقليمي والعالمي، ما يجعل الاتحاد أمام اختبار حقيقي يضع على المحك قدرته على ترجمة رؤيته الموحدة وتحقيق أهدافه المستقبلية.

ولادة جديدة

 لا شك أن ما شهدته المنامة تجاوز كونه مجرد إجراء تنظيمي، ليصبح إعلانًا حقيقيًا عن ولادة "الخليج الجديد"، الذي يحوّل تحالفات الضرورة إلى شراكات قوية واستراتيجية. ويُمثّل هذا التحول نحو "الاتحاد الخليجي" خطوة محورية نحو بناء قوة خليجية موحدة، قادرة على الصمود والتأثير في النظام العالمي الجديد، بما يجعل من الخليج كتلة اقتصادية وسياسية كبرى لا يمكن تجاهلها أو استبعادها في أي معادلة إقليمية أو دولية مستقبلية.