د. سوليكا علاء الدين
على الرغم من الظروف المعقّدة وسلسلة التقلبات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة، فضلًا عن التهديدات الأمنية المستمرة، لا يزال لبنان يحتفظ بموقعه الاستراتيجي كنقطة جذب أساسية للاستثمارات الواعدة. وتبرز مؤشرات إيجابية من خلال استمرار انعقاد المؤتمرات الاقتصادية الكبرى، وفي مقدّمها مؤتمر "بيروت واحد Beirut One"، الذي شكّل منصة استراتيجية لإعادة توجيه البلاد نحو مسار الاستثمار والنمو المستدام، وساهم في تعزيز شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص في خطوة محورية لاستعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني بعد سنوات من الأزمات.
رؤية طموحة
قدّم المؤتمر رؤية اقتصادية ترتكز على أهداف طموحة، من أبرزها مضاعفة الناتج المحلي من 23 مليار دولار عام 2025 إلى 78 مليار دولار بحلول عام 2035، ورفع الصادرات إلى ما بين 20 و30 مليار دولار خلال الفترة نفسها. كما تسعى الرؤية إلى زيادة حجم الاستثمارات إلى 29 في المئة من الناتج المحلي، وخفض نسب الفقر تدريجيًا وصولًا إلى القضاء عليه قبل عام 2030.
وتستند هذه الرؤية إلى برنامج استثماري واسع تبلغ قيمته نحو 7.5 مليارات دولار حتى عام 2030، موزّعة على عدة قطاعات استراتيجية تشمل الطاقة المتجددة، النقل، إدارة النفايات، الاتصالات، المياه، التعليم، والصحة. كما أبرز المؤتمر بوادر تحسّن في البيئة الاستثمارية في لبنان، ولا سيما من خلال المشاركة السعودية التي مثّلت عودة بارزة بعد سنوات من الفتور، تزامن معها إطلاق مشاريع استثمارية كبرى تعكس الثقة المتجددة بالاقتصاد الوطني.
وقد فتحت هذه الخطوة الطريق لمعالجة معوقات تصدير المنتجات اللبنانية، ولا سيما الزراعية، حيث تسعى الحكومة إلى تحسين سلاسل التوريد ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة عبر تمويلات ميسّرة وتسهيل الوصول إلى الأسواق الخليجية والدولية. وبفضل هذه العوامل، تشكّل عودة الاستثمارات الخليجية رافعة مهمة لقطاعات السياحة والخدمات والبنية التحتية، بما يسهم بشكل ملموس في إعادة رسم مشهد الاقتصاد اللبناني وتحفيز فرص العمل.
ولم يغفل المؤتمر التأكيد على أن الاستثمار مرتبط جوهريًا بالاستقرارين السياسي والأمني، حيث يشكّل الأمن وسيادة القانون شرطًا أساسيًا لأي نهضة اقتصادية. وقد بدأت الدولة تنفيذ سلسلة إصلاحات هيكلية، شملت تعديل قانون السرية المصرفية، وإقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي للتعامل مع خسائر تُقدَّر بـ72 مليار دولار، بالإضافة إلى إقرار قانون استقلالية القضاء وتعيين هيئات ناظمة لقطاعات الطيران والكهرباء والاتصالات. كل هذه الإجراءات من شأنها تعزيز الشفافية وجعل البيئة الاستثمارية في لبنان أكثر جاذبية، بما يتيح تحقيق النمو والتعافي الاقتصادي.
بين الاستثمار وإشارات التعافي
بينما تسعى الحكومة اللبنانية إلى تنفيذ خطة اقتصادية شاملة تهدف إلى إعادة إطلاق عجلة النمو، تتقاطع تقديرات البنك الدولي ومؤسسة BMI التابعة لـFitch Solutions حول دخول لبنان مرحلة انتقالية دقيقة تتراوح بين بوادر التعافي ومخاطر الانتكاس. وتشير هذه التقديرات إلى احتمالية تحسّن النمو خلال السنوات المقبلة، بشرط استمرار الإصلاحات الهيكلية والحفاظ على الاستقرارين السياسي والأمني. ويعد انتظام السياسات النقدية والمالية جزءًا أساسيًا من هذه العملية، نظرًا لتأثيره المباشر على التضخم وثقة المستثمرين المحليين والأجانب.
نمو أولي في 2025
بحسب البنك الدولي، وبعد انكماش تراكمي تجاوز 40 في المئة بين 2019 و2024، يُتوقَّع أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموًا بنسبة 3.5 في المئة عام 2025، مدفوعًا بانتعاش قطاع السياحة، وارتفاع التحويلات من المغتربين، وتحسّن الاستهلاك المحلي، إلى جانب بدء الحكومة تنفيذ إصلاحات مالية وإدارية أساسية.
ويأتي ذلك رغم الضربة التي تلقّاها الموسم السياحي في حزيران/يونيو 2025 نتيجة التصعيد الإقليمي الذي عطّل الرحلات الجوية وخفّض عدد الوافدين. وتُظهر المؤشرات الاقتصادية عالية التواتر، وفقًا لـ BMI، أن النشاط عاد تدريجيًا إلى طبيعته في 2025 بعد انكماش نسبته 7.7 في المئة في 2024. كما ارتفع عدد الوافدين إلى مطار بيروت بنسبة 14.6 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، وتجاوز مؤشر مديري المشتريات (PMI) مستوى 50 لأربعة أشهر متتالية، ما يعكس توسعًا فعليًا في نشاط القطاع الخاص وارتفاع الطلب على الخدمات والسلع الاستهلاكية.

إصلاحات تحت الاختبار
لمواكبة هذا التعافي المتوقع، يشير البنك الدولي إلى أن الحكومة اللبنانية والبرلمان باشرا تنفيذ حزمة إصلاحات مؤجّلة، أبرزها تعديل قانون السرية المصرفية، وإقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يتناول خسائر تُقدَّر بنحو 72 مليار دولار، أي ما يعادل 300 في المئة من الناتج المحلي. إلا أن نفاذ هذا القانون مشروط بإقرار "قانون الفجوة المالية" الذي يحدّد كيفية توزيع الخسائر بين الدولة والبنك المركزي والمصارف والمودعين، وهو ما يشكل تحديًا سياسيًا كبيرًا نظرًا لحساسية الموضوع وتأثيره على ثقة الجمهور بالنظام المصرفي.
كما أُقِرّ قانون استقلالية القضاء، واعتمدت آليات علنية وشفافة للتوظيف في القطاع العام، إلى جانب تعيين هيئات ناظمة وتعيينات مؤسسية أساسية في البنك المركزي ولجنة الرقابة على المصارف ومجلس الإنماء والإعمار، مما يسهم في تعزيز الحوكمة والشفافية ويجعل الاقتصاد اللبناني أكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
نهوض مرهون بالأمن والإصلاح
مع دخول عام 2026، تتوقع BMI أن يرتفع نمو الاقتصاد اللبناني إلى 6 في المئة، مدفوعًا بزيادة الإنفاق قبيل الانتخابات النيابية وباحتمال مرتفع لحصر السلاح بحلول النصف الأول من العام، الأمر الذي من شأنه تحسين البيئة الأمنية ورفع حظر السفر الخليجي وفتح الباب أمام تدفقات تمويل خارجية لعملية إعادة الإعمار، بما يعيد النشاط إلى قطاع البناء والخدمات اللوجستية والمقاولات.
في المقابل، يبقى البنك الدولي أكثر تحفّظًا، إذ يتوقع نموًا "إيجابيًا بحذر" في 2026، بفضل استمرار الإصلاحات وبدء تدفّق أموال إعادة الإعمار المقدّرة وفق تقييم RDNA بنحو 11 مليار دولار، لكنه يحذّر من استمرار الضغط على ميزان المدفوعات واتساع العجز في الحساب الجاري، ما يجعل لبنان لا يزال في حاجة إلى ضبط الإنفاق وتحسين الإيرادات العامة لضمان الاستدامة المالية.
تمويل مشروط واتفاق مؤجَّل
تشير BMI إلى أن التوصل إلى اتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي خلال الربع الأول من 2026 غير مرجّح، إذ ستتجنب القوى السياسية اتخاذ خطوات مالية غير شعبية قبل الانتخابات. لكنها تتوقع أن يؤدي الإنفاق الانتخابي إلى تعزيز الاستهلاك الخاص، مما ينعكس نموًا إضافيًا في النشاط الاقتصادي.
وترى المؤسسة أن أي اختراق سياسي في ملف السلاح - مرجّح في النصف الثاني من 2026 - سيشكّل نقطة تحول، إذ ستساعد عودة الخليجيين إلى لبنان على تنشيط السياحة وفتح قنوات تمويل واسعة لإعادة الإعمار، رغم أن ارتفاع واردات رأس المال سيظل عاملًا يحدّ من النمو الصافي.
تعافٍ محدود وسط التحديات
على المدى الأطول، تتوقع مؤسسة BMI أن يبلغ متوسط النمو في لبنان نحو 3.8 في المئة بين عامي 2027 و2028، مشيرة إلى أن تعافي القطاع المصرفي واستعادة ثقة المودعين سيستغرقان وقتًا طويلًا. كما ستستمر الحاجة الكبيرة إلى واردات الآلات ومواد البناء لإعادة الإعمار في فرض ضغوط على ميزان المدفوعات، مما يحدّ من إمكانية تحقيق معدلات نمو أعلى.
في المقابل، يحذّر البنك الدولي من أن غياب إعادة هيكلة شاملة للدين العام في عام 2026 سيبقي لبنان خارج أسواق رأس المال الدولية، ويزيد من مخاطر التمويل الخارجي، ويجعل أي عملية تعافٍ اقتصادي عرضة للتقلبات السياسية والأمنية. وبذلك، يبرز أن استدامة التعافي الاقتصادي اللبناني ترتبط مباشرة بتنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية، واستعادة الثقة في القطاع المصرفي، وضمان الاستقرار السياسي والأمني، لضمان إمكانية جذب التمويل الخارجي وتحقيق النمو.
سيناريوهان وخيار واحد
وفقًا للتقديرات، يقف مستقبل الاقتصاد اللبناني على مفترق طرق واضح بين سيناريوهين متباينين، يعكسان مدى تأثر البلاد بالاستقرارين السياسي والأمني والإصلاحات الاقتصادية.
في السيناريو الإيجابي، يرتكز التعافي على تحقيق حل سياسي مستدام لملف السلاح، واستمرار الإصلاحات الاقتصادية، وتدفّق التمويل الخارجي. ويسهم هذا المسار في تعزيز السياحة، وجذب الاستثمارات، وتسريع مشاريع إعادة الإعمار، بما يخلق آلاف فرص العمل للشباب ويحفّز النمو الصناعي والخدمي، ليعيد الاقتصاد اللبناني إلى مساره التنموي.
أما السيناريو السلبي، فيتمثل في تأخر الإصلاحات أو تصاعد التوترات الأمنية أو الفشل في تأمين التمويل الخارجي، مما يؤدي إلى تعميق الركود وإطالة أمد الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفقر، ويضعف قدرة لبنان على جذب الاستثمارات ويؤخر مسيرة التعافي.
العودة إلى الخريطة الاقتصادية
يتفق كل من البنك الدولي ومؤسسة BMI على أن لبنان يمتلك فرصة فعلية للدخول في مرحلة تعافٍ تدريجي خلال الفترة بين 2025 و2028، شريطة تحقيق الاستقرار السياسي وتنفيذ إصلاحات جذرية وشفافة وإحراز تقدم حاسم في المسار الأمني، بما يمهّد الطريق لإعادة لبنان إلى الخريطة الاقتصادية الإقليمية والدولية.
وهو ما تؤكده أيضًا مؤسسة "غولدمان ساكس"، التي ترى أن آفاق التعافي الاقتصادي اللبناني ترتبط بشكل وثيق بتنفيذ إصلاحات هيكلية ومصرفية وحل القضايا الأمنية الأساسية، خصوصًا ملف أسلحة الفاعلين غير الدوليين، إذ إن أي تأخير في هذا الملف سيعوق التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أو إعادة هيكلة ديون اليوروبوند، رغم التقدم الملموس في الإصلاحات، مثل تعديل قانون السرية المصرفية وإصدار إطار قانون حل القطاع المصرفي، إضافةً إلى أهمية قانون الفجوة المالية لمعالجة خسائر النظام المصرفي وتوزيعها بعدالة.
وتظل تحديات كبيرة ماثلة في تسلسل المطالب البنكية وإعادة هيكلة الودائع وفائض وزارة المالية لدى مصرف لبنان، ما يعقّد التوافق مع صندوق النقد الدولي، في حين تشير التقديرات إلى نمو تدريجي للناتج المحلي بين 2.3 في المئة عام 2025 و4.47 في المئة عام 2029، مع معدلات تضخم متوسطة تتراوح بين 11.7 و15 في المئة على المدى المتوسط.
الإصلاح والاستقرار مفتاح التعافي
يتقدّم لبنان بخطوات حذرة نحو التعافي، محتفظًا بإمكاناته للتحوّل إلى اقتصاد جاذب للاستثمار ورفع الناتج المحلي إلى مستويات طموحة على المدى الطويل. غير أن هذا التعافي لا يمكن أن يكون مستدامًا إلا من خلال التزام فعلي بالإصلاحات الهيكلية والجذرية، وتحقيق تقدم ملموس على المستويين الأمني والسياسي.
فالاستقرار يشكّل مفتاحًا حاسمًا لاستعادة ثقة المستثمرين والمغتربين وفتح أبواب التمويل الخارجي، مما يمنح الاقتصاد اللبناني فرصة ليصبح منصة للنمو والفرص المستقبلية. وفي هذا السياق، يظل الالتزام بالإصلاحات، جنبًا إلى جنب مع الشفافية وسيادة القانون، السبيل الوحيد لاستعادة موقع لبنان على الخريطة الاقتصادية الإقليمية والدولية، وتحويل الخطط الوطنية إلى نتائج ملموسة تخدم المواطنين وتؤسس لمستقبل أفضل للأجيال القادمة.
لقد وضع مؤتمر "بيروت واحد" لبنان عند مفترق طرق استراتيجي، مقدمًا رؤية متكاملة للاستثمار مدعومة بخطط واضحة وإشارات إيجابية من البيئة الإقليمية والدولية. ومع ذلك، تظل هذه الفرص مرتبطة بالاستقرار الأمني والسياسي. فغياب الأمان أو تصاعد التوترات قد يقوّض الإنجازات الاقتصادية ويثني المستثمرين عن ضخ رؤوس الأموال، كما يعرّض المشاريع التنموية لمخاطر جسيمة. لذلك، يبقى تعزيز الأمن والحفاظ على الاستقرار السياسي شرطًا أساسيًا لضمان تحويل الخطط الطموحة لمؤتمر "بيروت واحد" إلى واقع مستدام، مؤكدًا أن الإصلاح والأمن هما الوجه الآخر للفرصة الاقتصادية.




