الأنماط التربوية والثقافية الحديثة
في عصر الذكاء الاصطناعي
نحو جيل مُنتِج للمعرفة وصانع للمستقبل

16.11.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. ميلاد السبعلي*

أولاً: مقدمة – ولادة عصر معرفي جديد

نمرّ اليوم بتحوّل حضاري عميق؛ فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرّد أداة تقنية نضيفها إلى عالمنا، بل أصبح بيئة معرفية وثقافية جديدة تعيد تشكيل علاقتنا بالعلم والتعلّم والهوية، بل ودور الإنسان نفسه في إنتاج المعرفة. نحن لا نضيف “برنامجاً ذكياً” إلى منظومتنا القائمة؛ نحن ننتقل إلى مرحلة مختلفة نوعياً: من عصر تراكم المعلومات إلى عصر إعادة تشكيل الوعي.

في هذا العصر، لم تعد المدرسة مجرّد مكان يُلقِّن المناهج، بل يفترض أن تتحوّل إلى فضاء لبناء التفكير والابتكار. لم تعد الثقافة شيئاً نستهلكه، بل شيئاً يمكن أن يتولد ويُعاد تركيبه باستمرار عبر أدوات الذكاء الاصطناعي. أصبحت الآلة قادرة على تحليل ملايين الصفحات في دقائق، وعلى تقديم نماذج تفسيرية معقدة تساعد الباحث على رؤية ما كان خفياً، وتفتح أمامه طرقاً جديدة للفهم والاستشراف.

الطالب لم يعد أسيراً للمحتوى السريع والسطحي القادم من الشبكات الاجتماعية، بل بات يمتلك—إذا وُجّه توجيهاً سليماً—القدرة على أن يشارك في إنتاج المعرفة وهو لا يزال على مقاعد المدرسة. والباحث لم يعد مضطراً لقضاء سنوات في جمع البيانات وتحليلها، بعدما صارت الأدوات الذكية تتيح له قدرات تحليلية لم تكن متخيلة منذ عقد واحد فقط.

ومع ذلك، فإن هذه القفزة ليست بريئة بالكامل. فهي تحمل في داخلها انحيازات لغوية وثقافية وقيمية، وتفتح الباب أمام أشكال جديدة من التبعية المعرفية والهيمنة الناعمة، من خلال منصّات عالمية تتحكم بما نرى ونقرأ ونسمع. وهنا تبرز مسؤوليتنا: كيف نجعل من الذكاء الاصطناعي فرصة للتحرر الثقافي، لا قناةً جديدة لإدامة الهيمنة؟ وكيف نجعله رافعة تربوية للنهضة، لا مجرّد وسيلة لتسريع الحفظ وإنجاز الواجبات؟

تزداد هذه الأسئلة إلحاحاً حين ندرك أن الفئة العمرية بين 14 و18 سنة تعيش يومياً داخل فضاء رقمي كثيف التأثير يوجّه ذائقتها ورؤيتها للعالم وهويتها الذاتية. السؤال الحاسم إذن: هل نترك هذا الجيل مستهلكاً سلبياً لما تنتجه خوارزميات الآخرين، أم نمكّنه ليصبح منتِجاً للمعرفة والثقافة، شريكاً في صياغة المستقبل، لا متفرجاً عليه؟

هذا المقال يحاول أن يرسم طريقاً واضحاً للإجابة: كيف نحوّل الذكاء الاصطناعي إلى بيئة نهضوية ثقافياً وتربوياً، شرط أن نفهم قوانينه، ونطوّع قوته، ونربّي أبناءنا على أن يكونوا فاعلين لا مفعولاً بهم في حضارة تتشكّل الآن.

المحور الأول: تحوّل المقاربات الثقافية في عصر الذكاء الاصطناعي

شهدت الثقافة العالمية خلال سنوات قليلة انتقالاً من إنتاج نخبة محدودة، إلى فضاء تشاركي واسع تساهم فيه ملايين الأصوات. لم تعد الثقافة حكراً على دور النشر الرسمية، أو المؤسسات الكبرى، أو الصالونات الفكرية المغلقة؛ بل دخلنا زمن “الديمقراطية الثقافية الجديدة” التي استطاع فيها مراهق في السادسة عشرة أن يكتب رواية بمساعدة النماذج اللغوية، أو يصمم لوحات وفنوناً رقمية، أو ينتج موسيقى احترافية، أو يبني لعبة إلكترونية، أو يطلق قناة معرفية تصل إلى جمهور يتجاوز حدود بلده.

هذا الانفجار في الإنتاج الثقافي الرقمي أنشأ ما يمكن تسميته “الثقافة الخوارزمية”، حيث تصبح المنصّات—من خلال خوارزمياتها—هي الجهة التي تقرر ما نراه ونسمعه ونقرأه. هنا لا تنتقل النصوص والصور والأفكار بشكل عفوي، بل تخضع لترتيب وتصفية واقتراح، ما يمنح الخوارزميات تأثيراً عميقاً في تشكيل الذائقة الفردية والوعي الجمعي.

في الخلفية، حدث انقلاب جذري في البحث الثقافي نفسه. الباحث لم يعد محكوماً بما يستطيع قراءته وتحليله بجهده الفردي؛ أصبح بإمكانه أن يحلل آلاف النصوص في وقت قصير، وأن يتتبع تحولات ثقافية تمتد لعقود، وأن يمزج بين الدين والسياسة والأدب والإعلام في نموذج تحليلي واحد، وأن يبني خرائط مفاهيمية تُظهر كيف تتطور الأفكار عبر الزمن، وكيف تتشابك الفترات التاريخية والثقافية المختلفة. انتقلنا بذلك من بحث وصفي محدود إلى تحليل متعدد الطبقات واستشراف ثقافي أعمق.

لكن هذه القوة الهائلة تأتي مع ثمن: معظم النماذج المستخدمة اليوم مدرّبة على بيانات غربية، وسرديات غير عربية، وإطارات قيمية قد لا تشبه مجتمعاتنا. النتيجة أن الثقافة العربية قد تُهمَّش، وصورتنا قد تُختزل في أنماط نمطية، وتُقدَّم أجوبة منحازة معرفياً وقيمياً. هنا يظهر ما يمكن تسميته “الاستعمار الخوارزمي”: حين تُعرّف الخوارزميات عنا وعن تاريخنا وعن قضايا منطقتنا من خارج سياقنا.

إذا أردنا حضوراً عربياً فاعلاً في هذه البيئة، فعلينا العمل على أكثر من جبهة: رقمنة الذاكرة الجماعية (شعر، فلسفة، فن، عمارة، مخطوطات، حكايات شعبية)، وإنتاج محتوى معاصر يعكس قضايا الجيل الجديد والعلوم والابتكار والتنمية، وتطوير نماذج لغوية عربية تفهم الفصحى ولهجاتنا وتستوعب قيمنا وسياقاتنا، وتمكين الشباب—خصوصاً بين 14 و18 سنة—من أن يكونوا صناعاً للمحتوى، لا مجرد متلقين. عندها فقط نتحرك من موقع المتفرج إلى موقع المشارك في صياغة الثقافة الرقمية العالمية.

المحور الثاني: التربية في عصر الذكاء الاصطناعي – بناء عقل المستقبل

في عالم اليوم، لا يأتي الطالب إلى المدرسة فارغاً؛ بل محمّلاً بسيل من الصور والمعلومات والتأثيرات القادمة من الشاشة. لكن المفارقة أن هذه الوفرة المعرفية لم تُترجم دائماً إلى وعي أعمق أو تفكير أقوى؛ بل رافقها أحياناً ضعف في التركيز، وتشتّت في الانتباه، وهشاشة في القدرة على التحليل والنقد.

في المقابل، يتغير سوق العمل بوتيرة سريعة: وظائف جديدة تظهر، وأخرى تختفي، وكل مهنة تقريباً تتقاطع اليوم مع الذكاء الاصطناعي. لم يعد المطلوب “كمية معلومات” يحملها المتعلم في رأسه، بل قدرته على التعلّم السريع، والتكيّف، وإعادة بناء مهاراته مرة بعد أخرى. مدرسة تُركّز على الحفظ والامتحان فقط لن تستطيع إعداد جيل مستعد لمثل هذا العالم.

لذلك، تتحوّل التربية في عصر الذكاء الاصطناعي من عملية نقل للمعلومات إلى مشروع بناء للعقل. نحن ننتقل من الحفظ إلى الاستكشاف، من التلقين إلى إنتاج المعرفة، من مسار واحد للجميع إلى مسارات تعلّم شخصية، ومن فصل مغلق على ذاته إلى تعلّم مرتبط بالحياة والمجتمع. الهدف أن نفهم المتعلم كإنسان يكتشف ذاته وقدراته، يبني أدواته الإدراكية، ويصبح قادراً على التعلّم مدى الحياة.

في هذا الإطار، يقدّم نموذج Global Educationمثالاً عملياً متكاملاً لمدرسة المستقبل. فـ GEI، المنصة التعليمية الموحدة، تمكّن النظام التعليمي من فهم ملف الطالب بدقة: نقاط قوته وضعفه، سرعة تعلمه، أسلوبه المفضل، وتاريخ أدائه، لتنتقل المدرسة من “منهج واحد للجميع” إلى مسار يناسب كل عقل. أما GEAI، المرافق الذكي، فيعمل إلى جانب الطالب والمعلّم، يشرح، يبسّط، يوجّه، ويرصد تقدم المتعلم لحظة بلحظة، فيتحول التعلم إلى تجربة شخصية مستمرة، لا تقتصر على زمن الحصة.

ويأتي GEN كنظام ملاحة معرفي يشبه الـ GPS؛ يرصد تعثّر الطالب، ويقترح “تحويلات معرفية” جديدة، فيمنع ضياعه أو بقائه عالقاً في فجوة لم يفهمها. بينما يركّز Energia SOI على الجذور: يقيس 27 قدرة إدراكية في مجالات الإدراك والذاكرة والتفكير، يكشف أسباب صعوبات التعلم، ويضع خطط تدريب فردية. حين تتقوّى هذه القدرات، نرى انعكاساً مباشراً على الأداء الأكاديمي، وعلى قدرة الطالب على التركيز، وعلى نمو الكفايات الأساسية التي بنيت عليها Global Education نموذجها التكويني.

هذه الكفايات الأربعة—كفايات التفكير، وكفايات الشخصية، والكفايات الاجتماعية والعاطفية، وكفايات التعلّم—لا تُدرَّس كعناوين نظرية، بل تُبنى كمنظومة متكاملة: من التفكير النقدي والإبداعي وحل المشكلات واتخاذ القرار، إلى القيادة والريادة والمواطنة والمعرفة الرقمية الواعية، إلى التواصل الفعّال والتعاون والتعاطف واحترام التنوع، وصولاً إلى تعلّم كيف تتعلم، والتفكير كباحث علمي، وإنتاج رأي أصيل، والقدرة على النهوض بعد الفشل. عندها يتحول الطالب من مستهلك للمعلومة إلى صانع للابتكار، وتتحوّل المدرسة إلى حاضنة لمشاريع واقعية في الروبوتيك، والبرمجة، والبيانات، والمبادرات الاجتماعية.

المحور الثالث: منهجيات بحثية جديدة – من الطالب إلى الباحث

الذكاء الاصطناعي لم يغيّر المدرسة فقط، بل أعاد تعريف البحث العلمي نفسه. الجامعات الكبرى اليوم تعتمد منظومة من المنهجيات الجديدة التي تجعل من الذكاء الاصطناعي شريكاً في التفكير لا مجرد آلة حساب.

في منهجية البحث المدعوم بالذكاء الاصطناعي (AI-Assisted Research)، يصبح النموذج الذكي جزءاً من العملية البحثية: يساعد في صياغة الفرضيات الأولى، في تلخيص مئات الأوراق، في مقارنة المدارس الفكرية، في كشف الفجوات، في تحليل بيانات نوعية وكمية معقدة. الباحث الجامعي، وطلاب الماجستير والدكتوراه، والمثقفون، يستطيعون تحليل الخطابات، تتبع التحولات التاريخية، وبناء سيناريوهات مستقبلية تستند إلى بيانات حقيقية، لا إلى حدس مجرد. وحتى طلاب الثانوية يمكن أن يتعلموا من خلالها كيف يحللون المصادر بدلاً من الاكتفاء بنسخها، وكيف يدققون في صحة المعلومات قبل تبنيها.

أما التحليل متعدد الوسائط (Multimodal Analysis) فيسمح بدمج النصوص والصور والفيديو والمقابلات والبيانات الرقمية في تحليل واحد: دراسة ظاهرة اجتماعية عبر السوشيال ميديا، مقابلات ميدانية، وثائق رسمية، وإحصاءات؛ دراسة التراث عبر النص والصورة والصوت؛ تحليل حملات إعلامية معاصرة. هذا الاندماج يعلّم الطالب والباحث أن ينظر إلى الظاهرة من زوايا متعددة، لا من قناة واحدة مسطّحة.

في المقابل، يفتح التجريب التوليدي (Generative Experimentation)باباً واسعاً للخيال العلمي والتطبيقي: يمكن استخدام النماذج التوليدية لتصميم سيناريوهات مستقبلية في الاقتصاد والسياسة والبيئة، أو لإنشاء نماذج أولية لتطبيقات، أو لبناء بيئات محاكاة، أو لإعادة تركيب سرديات تاريخية بغرض فهمها من زاوية جديدة. هكذا يتعلّم الطالب والباحث أن يستكشف إمكانات جديدة قبل الالتزام بمسار واحد في الواقع.

أما الدراسات الميدانية المعززة بالذكاء الاصطناعي (AI-Enhanced Field Studies)، فتجمع بين العمل الميداني الكلاسيكي والأدوات الذكية: تحليل المقابلات الصوتية، تفريغها، استخراج الأنماط، تلخيص الاستبيانات الضخمة، وبناء لوحات تحكم تربط المتغيرات ببعضها. يصبح الميدان “متكلماً” بلغة الأرقام والرؤى، ويتحول المشروع البحثي عند طالب الماجستير أو طالب المدرسة إلى تجربة غنية تجمع بين الملاحظة والتحليل العميق.

نتيجة هذا كله هي ولادة نوع جديد من الخريجين: متعلم مدى الحياة، يعمل مع الذكاء الاصطناعي لا ضده، سريع التكيّف، مبتكر وريادي، منتج للمعرفة لا مستهلك لها، وواعٍ لهويته وقيمه، يوازن بين المحلي والعالمي. للوصول إلى هذا المستوى، نحتاج إلى تدريب مبكر على أدوات البحث الذكية، وإلى بنية رقمية في المدارس والجامعات، ومناهج تسمح بالبحث لا التلقين، وإلى إدماج الطلاب في مشاريع حقيقية تربط المعرفة بحياة الناس.

المحور الرابع: تحصين الوعي من انحيازات الذكاء الاصطناعي

كلما ازداد اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحليل والتخطيط واتخاذ القرارات، ازدادت ضرورة أن نحصّن وعينا من انحيازاته. فالطالب، والباحث، والأكاديمي، والإعلامي، وصانع القرار، جميعهم يستخدمون هذه الأدوات، وجميعهم معرَّضون لأن تتسرب إلى تفكيرهم انحيازات لغوية، أو معرفية، أو قيمية، أو سياسية.

التحصين اللغوي يبدأ من إدراك أن النماذج تفضّل اللغات ذات الحضور الرقمي الأكبر، فتقدم إجابات أغنى بالإنجليزية، وتتجاهل خصوصيات العربية، وتعيد إنتاج بنى لغوية لا تنتمي إلينا. الحل لا يكون بالشكوى، بل بإنتاج محتوى عربي علمي وثقافي غني، وتحسين الكتابة العربية في الأبحاث والمشاريع، وإدماج النصوص العربية في أعمال الطلاب، وتطوير نماذج محلية داخل الجامعات والمؤسسات.

التحصين المعرفي يعني أن لا نقبل أي جواب من النموذج بوصفه “حقيقة”، بل نخضعه لمعايير العلم: نقارن بين مصادر متعددة، نكشف التناقضات، نطلب الأدلة والمراجع، وندرب الطلاب على ممارسة هذا التحقق قبل تبنّي أي معلومة. أما التحصين القيمي والثقافي، فيتطلب أن ندرك أن النماذج تحمل في داخلها قيماً مرتبطة بسياق تدريبها؛ لذا يجب أن نعيد صياغة الأجوبة بما يلائم بيئتنا، وأن نستخدم تحليل الخطاب لكشف الانزياحات، وأن نغرس في المشاريع التعليمية قيماً إنسانية كونية، مع الحفاظ على خصوصية مجتمعاتنا.

ويمتد التحصين إلى المجال الثقافي–المعرفي حين نرفض أن تكون السردية التاريخية والثقافية عن منطقتنا حِكراً على مصادر غربية، فنوثق مصادر عربية بديلة، ونبني مكتبات رقمية محلية، ونشجع الطلاب على إدخال تراثهم الفكري والفلسفي في مشاريعهم. كما يمتد إلى المجال الاقتصادي والإعلامي، عبر تدريب الجيل الجديد على كشف الإعلانات المقنّعة، وفهم اقتصاد المنصّات، وإدراك كيف تعمل نماذج الربح والتسويق داخل التطبيقات الذكية. ثم إلى المجال السياسي، عبر مطالبة النماذج بتقديم أكثر من رواية لأي قضية، وتقييمها وفق الدقة والحياد والتنوع، حتى لا ننزلق إلى “استعمار سياسي خوارزمي” جديد.

بهذا المعنى، التحصين ليس حالة دفاعية، بل مشروع تأسيس لسيادة معرفية عربية حقيقية.

المحور الخامس: ما الذي نحتاجه ثقافياً وتربوياً لصنع الحضارة القادمة؟

إذا كانت الحضارة المقبلة ستتشكل في بيئة الذكاء الاصطناعي، فإن المشاركة فيها تتطلب مشروعاً ثقافياً وتربوياً متلازماً.

ثقافياً، نحن بحاجة إلى مشروع محتوى عربي ضخم: رقمنة التراث الأدبي والفلسفي والفني والموسيقي، وإنتاج محتوى معاصر يعكس تطلعات الجيل الجديد وقضايا المجتمع والعلوم والابتكار، وبناء قواعد بيانات مفتوحة تخدم الباحثين والطلاب والنماذج الذكية. وبحاجة أيضاً إلى نماذج لغوية عربية تحمل بصمتنا الحضارية، وإلى هوية تُحمى بالإنتاج لا بالخطب، عبر جيل يكتب بالعربية بإبداع، ينتج أفلاماً وروايات وألعاباً تعكس واقعه، ويطلق مبادرات شبابية تستخدم الذكاء الاصطناعي لنشر الثقافة العربية إلى العالم. كما نحتاج إلى خطاب عربي عالمي، لا منغلق ولا اعتذاري، بل إنساني ونقدي ومبدع، يقدّم مفاهيم مثل النهضة والمواطنة والتكامل الاجتماعي والكرامة الإنسانية بلغة يفهمها العالم. وإلى منصات للفن والفلسفة الرقمية، تجعل من مدارسنا ومراكزنا الثقافية مراصد للإبداع الشاب لا متاحف للماضي.

تربوياً، نحن بحاجة إلى تحديث جذري في مناهج التفكير، يجعل التفكير النقدي والإبداعي وحل المشكلات واتخاذ القرار والتحليل المعرفي جزءاً من حياة الطالب اليومية، لا عناوين في كتاب. نحتاج إلى دمج الذكاء الاصطناعي في التعلم كمنظومة كاملة: مرافق ذكي لكل طالب، منصات لتحليل الأداء، أدوات لتوليد المحتوى، وتدريب للمعلمين على استخدام هذه الأدوات أخلاقياً وتربوياً، مع اعتماد نماذج عملية مثل Global Education التي حوّلت هذه الرؤية إلى تطبيق واقعي.

كما نحتاج إلى برامج لريادة الأعمال المدرسية، تجعل الطالب في الخامسة عشرة قادراً على إطلاق مشروع أو تطبيق أو منصة، وإلى تحويل المدارس إلى حاضنات مشاريع تضم مختبرات ابتكار، ومراكز برمجة، واستوديوهات محتوى، ومساحات لصناعة النماذج الأولية. وإلى تعزيز مهارات البحث والتحليل حتى يتحول الطالب إلى باحث صغير يجمع البيانات، يحللها، يكتب تقارير علمية، ويدرس الظواهر في مجتمعه. وإلى تعليم البرمجة والبيانات والتفكير الخوارزمي والأمن السيبراني بين 14 و18 سنة، لأن هذه ليست هوايات تقنية، بل لغات البقاء في الحضارة المقبلة.

نحو ثقافة إنسانية جديدة نصنعها… لا نستهلكها

نحن أمام منعطف تاريخي نادر: الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل ميزان حضاري يحدد من يصنع العالم، ومن يكتفي بالعيش في هوامشه. لدينا خياران واضحان: إمّا أن نكون منتجين للمعرفة التي تغذي النماذج الذكية، فنؤثر في اتجاهات الثقافة العالمية ونشارك في تشكيل وعي الإنسان الجديد، أو نبقى مستخدمين نستهلك ما يُنتج في أماكن أخرى، ونسمح لغيرنا بصياغة خطابنا وهويتنا وأدوارنا في المستقبل.

الحضارة المقبلة لن تُكتب بلغة واحدة ولا بعقل واحد؛ ستكون مزيجاً حضارياً متعدد الألوان. الأمم التي تمتلك القدرة على إنتاج محتواها وفلسفتها وقيمها ورؤيتها، هي التي ستجلس إلى طاولة صياغة هذه الحضارة. وفي قلب هذا التحول يقف جيل 14–18 سنة: الأكثر تعرضاً للانفجار الرقمي، والأكثر قدرة في الوقت نفسه على تحويل الأدوات الذكية إلى إبداع ومعرفة ومشاريع.

إذا أحسنا توجيه هذا الجيل، ووفّرنا له الأدوات والمنصات والفرص، سيصبح باحثاً يطرح الأسئلة الصحيحة، ومفكراً يصوغ رؤيته الخاصة، ومبدعاً يبتكر مفاهيم جديدة، وصانعاً للثقافة لا مستهلكاً لها، ورائد أعمال يخلق القيمة، وفاعلاً أصيلاً في تشكيل هوية العالم المقبلة. ما بدأته مؤسسات رائدة مثل Global Education يؤكد أن المدرسة يمكن أن تتحول إلى ورشة تفكير، وأن الطالب يمكن أن يصبح صانع مشروع، وأن العقل يمكن أن يُبنى كما تُبنى المهارة.

الذكاء الاصطناعي ليس وعداً للمستقبل؛ هو الحاضر الذي يحدّد من سيحتل موقع القيادة في الحضارة الجديدة. لن نحمي أبناءنا من السطحية الرقمية وفوضى المعلومة إلا إذا مكّناهم من إنتاج المعرفة، وتشكيل الفكرة، وصياغة السؤال، والتفكير مع الذكاء الاصطناعي، والتفوّق عليه حين ينحاز أو يختزل أو يضلّل.

عندها فقط نستطيع أن نؤسس لثقافة إنسانية جديدة لا تأتي مستوردة ولا تُفرض علينا من الخارج، بل تولد من شعوب تعرف كيف تفكر، وكيف تبدع، وكيف تشارك في بناء الحضارة… لا في استهلاك منتجاتها. 

*رئيس مؤسسة سعادة للثقافة

رئيس مجموعة غلوبال اديوكايشن