بروفيسور مكي مدني الشبلي*
مدخل: حرب السودان ليست عسكرية فقط
لم تَعُد الحرب المتفاقمة في السودان بعد سقوط الفاشر مُجرّد مواجهة بين قوات عسكرية، بل أصبحت اقتصاداً قائماً بذاته، فشبكات صادر الذهب والماشية والمحاصيل والوقود تموّل الصراع وتُبقيه مشتعلاً، بينما تُضِعف مؤسسات الدولة وتفكك ما تبقى من الثقة العامة.
ولكي يُكتب للهدنة أو وقف إطلاق النار النجاح، يجب أن تمتد وساطة الرباعية من الميدان العسكري إلى الميدان الاقتصادي، حيث تُصنع الحوافز وتُدار الموارد وتُشترى الولاءات.
الطريق إلى السلام يبدأ من تفكيك اقتصاد الحرب وتحويله إلى اقتصاد امتثال، أي منظومة مُحْكَمة تربط الوصول إلى الأسواق والسيولة بالتقدم الفعلي نحو السلام.
وتجدر الإشارة إلى أن الآليات الاقتصادية المقترحة لا تغني عن الآليات الهجينة لمراقبة الهدنة ووقف إطلاق النار، بل تكملها. إذ تمثل هذه الآليات الاقتصادية بعداً موازياً للرقابة الميدانية المباشرة التي تضطلع بها بعثات المراقبة المختلطة، المدعومة بإسناد تقني من الأقمار الصناعية والمسيرات وغيرها من أدوات الرصد الحديثة، بما يحقق منظومة متكاملة للإنفاذ والمتابعة.
الرباعية بين الوساطة والإنفاذ
لقد فشلت الهدن السابقة لأنها عالجت الأعراض دون الأسباب. فالجيش السوداني وقوات الدعم السريع يستمدان مواردهما من التجارة غير المشروعة بالذهب والمحاصيل والماشية، كما يمنعهما الخوف من الملاحقة الدولية من الدخول في مسار سياسي جاد.
لكن «الرباعية»، التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، تمتلك الأدوات القادرة على تحويل نفوذها الاقتصادي إلى نفوذ سياسي منضبط. فهي تتحكم في المنافذ التجارية، والقنوات المصرفية، وشرعية التعاملات الخارجية. ويمكنها، إذا توفرت الإرادة، أن تربط وقف الحرب بـ استمرار التجارة المشروعة فقط.
يقترح إنشاء لجنة الرقابة على تجارة الموارد السودانية (S-RTOC) كآلية مشتركة بين الرباعية، والاتحاد الأفريقي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، إلى جانب البنك المركزي السوداني ووزارة المعادن وخبراء مدنيين من مؤسسات الفكر الوطنية المستقلة.
وتتولى اللجنة مهام مراقبة صادرات الذهب والماشية والمحاصيل والوقود، والتحقق من عائداتها عبر حسابات ضمان تشرف عليها لجنة فنية في بنك السودان المركزي، بحيث لا تُصرف هذه العائدات إلا بعد التحقق من التزام الأطراف بالهدنة ووقف إطلاق النار. وبهذا تجعل الآلية التجارة خاضعة للمساءلة، وتجعل عائدات الصادر مشروطة بالسلام لا بالحرب.
الرافعة الاقتصادية كأداة سلام
تعتمد الآلية المقترحة على منطق المصالح المشتركة لا الشعارات العاطفية. فمصر والإمارات، وهما المستوردان الرئيسيان للذهب والماشية والمحاصيل السودانية، تستطيعان من خلال اللجنة الجديدة أن تضمنان تجارة قانونية آمنة بعيدة عن التهريب والعقوبات. وفي المقابل، يُمنح الجيش والدعم السريع حوافز مشروطة بالامتثال، وتُفرض عقوبات اقتصادية على من يخرق الاتفاق. كما تُنشأ فرق مراقبة حدودية مشتركة في ميناء بورتسودان، ومعبر أرقين (مصر)، وموانئ استيراد الذهب في الإمارات لمراجعة الشحنات المصدّرة والتحقق من اعتمادها رسمياً.
وتُصدر اللجنة نشرة شهرية علنية بأسماء المصدّرين وكميات الصادرات، لتعزيز الشفافية وثقة الجمهور المحلي والدولي.
ومن خلال مأسسة التحقق متعدد الأطراف، والتتبع الرقمي، والتدقيق المستقل، والرقابة المدنية السودانية، يمكن للرباعية ضمان عمل مصر والإمارات العربية المتحدة كضامنين متعاونين، لا مستفيدين منفردين، لإطار تجارة الموارد السودانية. وتعزز هذه الضمانات مبدأ الفائدة للجميع (Win-Win)، وتدعم الشفافية، وتحافظ على الثقة في استدامة عملية إعادة إعمار السودان الأوسع نطاقًا والمرتبطة بوقف إطلاق النار.
وبهذا، يصبح السلام مجدياً اقتصادياً للمتحاربين، وتتحول الحرب إلى عبء مالي لا يمكن تحمله من طرفي الصراع.
بنك السودان المركزي في قلب الإصلاح
رغم التغييرات المتكررة التي طالت قيادة بنك السودان المركزي في السنوات الأخيرة بسبب الصادر وعائداته، يظل بنك السودان المركزي المؤسسة الأقدر على استعادة الضبط المالي والشفافية في تدفقات النقد الأجنبي. وهو مطالب في إطار الرباعية بإدارة حسابات الضمان، ومراجعة عمليات التصدير، وتطبيق ميثاق امتثال مالي يمنع الرخص الاستثنائية والصفقات المزدوجة.
ولضمان استقلاله، يُقترح دعم البنك المركزي بإيفاد مستشارين فنيين من الرباعية عبر الأمم المتحدة، إلى جانب إشراف محلي من مراكز الفكر السودانية المستقلة التي تقدم تقارير دورية للرأي العام.
من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام
تمثل لجنة الرقابة على تجارة الموارد السودانية أكثر من مجرد فكرة تقنية؛ إنها نواة لاقتصاد سلام جديد.
فمن خلال ربط الهدنة بالعائدات، تمنح اللجنة الأطراف المسلحة حافزاً للامتثال، وتعيد في الوقت نفسه تمكين المدنيين من مفاصل القرار الاقتصادي.
وتشارك في الإشراف أيضاً فرقة العمل للانتقال المدني (Civilian Transition Task Force – CTTF) المكونة من خبراء من المجتمع المدني ولجان المقاومة والجهات الفاعلة الإنسانية والتنموية ومراكز الفكر والخبراء الوطنيين، لضمان الشرعية المحلية والملكية الوطنية للعملية.
ومع مرور الوقت، يمكن أن تُعيد هذه المنظومة التوازن إلى الدولة السودانية، وتنقل السيطرة على التجارة والمال من أيدي السلاح إلى مؤسسات الحكم المدني.
خاتمة: الخيار الاستراتيجي أمام الرباعية
الرباعية أمام مفترق طرق: إما أن تظل وسيطاً في هُدَنٍ هشة، أو أن تتحول إلى ضامن فعلي لسلام اقتصادي وسياسي مستدام. حيث إن تَبَنّي آلية لجنة الرقابة (S-RTOC) يعني تحويل نفوذ الرباعية إلى التزام، والدبلوماسية إلى نظام تنفيذ.
فالسلام في السودان لن يُشترى بالتصريحات والمجاملات، بل سيُبنى بأنظمة اقتصادية تربط الامتثال بالمصلحة المشتركة (Win-Win).
لدى الرباعية فرصة أخيرة لإنفاذ الهدنة ووقف إطلاق النار بالتطبيق المتزامن للتنظيم الاقتصادي، والضمانات المشروطة، والملكية السودانية، بما يوفر مساراً واقعياً للانتقال من الجمود الميداني إلى السلام المستدام، باستخدام الآليات الاقتصادية والمؤسساتية المقترحة ودمجها في الترتيبات الانتقالية اللاحقة.
*المدير التنفيذي لمركز الدراية للدراسات الاستراتيجية




