فيصل ابوزكي
لم تكن القمة الأخيرة التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ في بوسان سوى محاولة لضبط إيقاع حرب جيوسياسية واقتصادية جديدة حولت تقريبا معظم الموارد والقطاعات الى اسلحة مشروعة الاستخدام من كل طرف. إنها هدنة تكتيكية مؤقتة في صراع طويل الأمد، يسعى كل قطب فيه إلى كسب الارجحية في تحديد معالم النظام العالمي القادم.
وقد تمحور جوهر الاتفاق حول تجميد التصعيد المتبادل لمدة عام، وهو ما عكس توازنا هشا في استخدام اسلحة الطرفين؛ ففيما وافقت الولايات المتحدة على التراجع عن فرض رسوم جمركية اضافية بنسبة 100 في المئة التي سبق وهدد بها الرئيس الاميركي قبل اسابيع وخفض الرسوم المفروضة على خلفية "الفنتانيل"، قدمت الصين تنازلا تمثل في تعليق اجراءات ضوابط التصدير على المعادن النادرة، وهي مواد حيوية لا غنى عنها في الصناعات التكنولوجية المتقدمة والطاقة المتجددة، مقابل تعليق اميركا لتوسيع ما يسمى ب"قائمة الكيانات" المحظورة لتشمل الشركات التابعة لها وهي بمثابة قائمة سوداء للشركات الصينية التي تحظر الولايات المتحدة التعامل معها.
الرقائق والمعادن النادرة
هذه الاجراءات المتبادلة كشفت عن نوع من التكافؤ في التأثير التدميري للاسلحة المستخدمة: الصين مستعدة للتخلي مؤقتا عن سلاح المعادن النادرة التي شهرته لاول مرة والتي تسيطر على ما يقرب من 80 في المئة من طاقة انتاجها وتكريرهافي العالم، مقابل تراجع اميركا مؤقتا عن سلاحها توسيع الحظر التكنولوجي، مما يؤكد ان المعادن النادرة اصبحت في هذه المرحلة اداة ردع مضادة للقيود التكنولوجية الاميركية.
لكن هذه التفاهمات لم توقف الصراع الحقيقي، بل ابقت الاسلحة النووية التكنولوجية في حالة تأهب، فالقيود الاميركية الصارمة على تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي الفائقة، مثل وحدات Nvidia و AMD المتقدمة، وبرامج ومعدات تصنيع اشباه الموصلات المتقدمة ظلت سارية، ما يؤكد أن هدف واشنطن الاسمى هو خنق قدرة بكين على انتاج احدث التقنيات عسكريا ومدنيا، فيما واصلت بكين تعميق هيمنتها على سلاحها المضاد، الا وهو الاقتصاد الاخضر. وتُعد هيمنة الصين في هذا القطاع حاسمة، حيث تسيطر على اكثر من 85 في المئة من القدرة العالمية لتصنيع الألواح الشمسية، وتنتج شركاتها ما يقرب من 70 في المئة من السيارات الكهربائية عالميا، مما يمنحها نفوذا جيوسياسيا على وتيرة التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة.
بوبة النظام المالي العالمي
والى جانب التكنولوجيا، يستخدم القطبين اسلحة مالية وعسكرية صارمة؛ فالسلاح الأميركي يتمثل في استخدام موقع الدولار كعملة الاحتياط الرئيسية في النظام المالي العالمي كأداة لفرض عقوبات تحد من امكانيات الوصول الى الدولار وهو ما يتم بشكل اساسي عبر اخراج الدول المعاقبة من شبكة "سويفت". وقد تجسد هذا بوضوح في العقوبات المفروضة على روسيا وايران وفنزويلا وكوريا الشمالية، حيث اظهرت واشنطن قدرتها على تجميد الاصول الخارجية لهذه الدول والتسبب باضرار اقتصادية كبيرة عليها عبر التحكم في البنية التحتية المالية العالمية، وهو ما يدفع الصين إلى تسريع جهودها لفك الارتباط عن الدولار وتعزيز اليوان الرقمي وأنظمة الدفع البديلة مع شركائها التجاريين.
تايوان خارج الهدنة
وفي المقابل، يظهر السلاح العسكري الصريح في المناورات الصينية المتكررة في مضيق تايوان، التي لم تشملها الهدنة، فيما تبقى الجزيرة العقدة الجيوسياسية والعسكرية الاكثر خطورة وتعقيدا التي لا تقبل المساومة لاعتبارات الامن القومي عند الصين ولكونها موطناً لشركة TSMC، الرائدة عالمياً في تصنيع الرقائق التي تقلعن 7 نانومتر، والسيطرة عليها تعني السيطرة على مفتاح الصناعة العالمية.
على المستوى العالمي، بدأت تستفيد الأسواق من انخفاض علاوة المخاطر الجيوسياسية، لكن الاتفاق يزيد الضغط على دول مثل اوروبا لكي تعيد تكييف سياساتها، خوفاً من التحول إلى حضور هامشي في صراع القطبين.
العرب ولعبة "التوازن الدقيق"
هذا التنافس المعقد ينعكس بشكل مباشر ومكثف على المنطقة العربية، التي لم تعد مجرد مورد للطاقة، بل اصبحت ساحة استراتيجية للتنافس التكنولوجي والاقتصادي، حيث تحاول دول المنطقة اتباع سياسات "التوازن الدقيق" بين حاجتها الى المظلة الامنية الاميركية والقدرة على الوصول الى التكنولوجيا الاميركية المتقدمة في تصميم وصناعة الرقائق الالكترونية وحاجاتها للاستثمارات والخبرات الصينية في صناعات مختلفة مثل الطاقة الخضراء والاتصالات المتقدمة والذكاء الاصطناعي والتكامل الصناعي والخدمات اللوجستية وغيرها.
وينقسم التنافس الأميركي الصيني في المنطقة العربية الى نقاط محددة ترسم خريطة نفوذ معقدة؛ اولا، النفوذ المالي والبنية التحتية، حيث تعمل مبادرة الحزام والطريق الصينية كآلية لمد النفوذ عبر الاستثمار في الموانئ وشبكات السكك الحديدية ومشاريع الطاقة الكبرى، وقد تجاوزت قيمة العقود والمشاريع الصينية المبرمة في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا 160 مليار دولار منذاطلاق المبادرة، ما يثير قلق واشنطن من تحول هذه البنية التحتية المزدوجة الاستخدام الى نقاط لوجستية محتملة للجيش الصيني. ثانيا، السيطرة التكنولوجية والاتصالات، حيث تعتبر شبكات الجيل الخامس (5G) التي تقودها شركتا هواوي و ZTE محور تنافس حاد، فالولايات المتحدة تضغط بشدة على حلفائها في المنطقة لفرض حظر على معدات هواوي، وعلى استخدام التقنيات الصينية في الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات الى جانب التقنيات الاميركية، محذرة من مخاطر التجسس وتسرب البيانات، فيما تقدم الصين هذه التكنولوجيا باسعار تنافسية وخيارات تمويل مرنة لدرجة ان العديد من الدول نشرت هذه الشبكات بالاعتماد على التكنولوجيا الصينية. ثالثا، الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والامن الالكتروني، فقد اصبحت الشركات الصينية شريكا رئيسيا في تطوير المدن الذكية والتطبيقات الاخرى في هذا المجال، وهو ما يصب مباشرة في استراتيجيات دول المنطقة بالتنويع الاقتصادي وتطوير محركات جديدة للنمو خارج صناعة النفط، ويخلق نقطة خلاف مستمرة مع واشنطن التي ترى في هذا التعاون تهديدا امنيا طويل الامد. رابعا، التجارة بالعملات المحلية والطاقة، حيث تسعى الصين لترسيخ استخدام اليوان في تجارة النفط والغاز الطبيعي المسال مع دول المنطقة، كجزء من استراتيجيتها لـتفكيك سلاح الدولار وتقليل تعرضها للعقوبات المالية الاميركية، وهو ما يضع واشنطن امام تحد وجودي على الامد الطويل يهدد هيمنة عملتها العالمية في أهم سوق طاقة. الى ذلك تكتسب المنطقة اهمية خاصة الى الصين، فهي ليست فقط مصدر اساسي للنفط والغاز بل هي احد اهم المنافذ العالمية لصادراتها الى العالم.
ادارة الازمة وسياسة النفس الطويل
يُنظر إلى اتفاق بوسان على انه مرحلة ادارة ازمة تمنع الانهيار الاقتصادي الفوري، ولكنه لا يوقف سباق التسلح التكنولوجي والجيوسياسي، الذي تتحول فيه المنطقة العربية إلى مسرح حيوي يحدد من خلاله القطب الفائز قواعد النظام العالمي القادم، وهو نظام يعتمد بشكل متزايد على قوة الرقائق والخوارزميات والبيانات، والتحكم في المعادن النادرة، والنفوذ التكنولوجي الممول عبر مبادرات البنية التحتية، اكثر من قوته التقليدية المتمثلة بالموارد الطبيعية والمواجهة العسكرية المباشرة.
لكن هذه الهدنة ساهمت في ابراز ملامح التحولات الجارية في ميزان القوى بين اميركا والصين. من جهتها نجحت الولايات المتحدة في تعليق الضوابط التي فرضتها الصين على تصدير المعادن النادرة وحصلت على تعهد صيني بالعودة الى شراء المحاصيل الزراعية الاميركية لا سيما فول الصويا منها وبتطبيق قيود اكثر صرامة على تصير المواد الكيماوية التي تدخل في صناعة "الفنتانيل" دون ان تعدل القيود الشاملة المفروضة على تصدير التكنولوجيا الحديثة الى الصين لا سيما الرقائق المتقدمة والمعدات والبرامج والخبرات المرتبطة بها. كما ابقت الولايات المتحدة النقاش بمصير تايوان خارج نطاق البحث.
من جهتها تمكنت الصين من كبح الاندفاعة الاميركية نحو فرض المزيد من الرسوم عليها واحتواء التوسع في فرض العقوبات على المزيد من الشركات الصينية المستوى. لكن الاهم ان الصين جلست مع الولايات المتحدة كندٍ عالمي بعد ان اصبحت اكثر جهوزية من المرة الاولى قبل عشر سنوات عندما بدأ ترمب هجومه الاول وتمكنت من شراء وقت ثمين لتستكمل ما بدأته في خطتها لتحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيات المتقدمة وسلاسل الامداد الحرجة لتكون في وضع اقوى في الجولات المقبلة من هذه المنافسة الشاملة بعد هذه الهدنة التكتيتكية. ومن الواضح ان الصين تلعب لعبة النفس الطويل وهي ترى ان المسألة ليست حول من يملك اليد العليا الان بقدر من سيكون لديه النفس الاطول في هذه المعركة الممتدة.




