 د. خالد عيتاني*
د. خالد عيتاني*
في كلّ حقبة من التاريخ، كان الإنسان يبتكر أدوات تغيّر طريقة عمله، لكن ما نعيشه اليوم يتجاوز حدود الابتكار إلى تحوّل حضاري شامل تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي. فهي لم تعد مجرّد أدوات تنفيذ، بل أصبحت شريكًا مفكّرًا يشارك الإنسان في التحليل، واتخاذ القرار، وتشكيل المستقبل الاقتصادي.
إنّها المرة الأولى التي تمتدّ فيها آثار التكنولوجيا إلى عمق المهنة ذاتها، فتعيد تعريفها وتغيّر مهاراتها.
 وفي عالمٍ تُدار فيه المصانع بخوارزميات، وتُكتب فيه التقارير بواسطة الذكاء الاصطناعي، لم يعد السؤال: هل ستختفي الوظائف؟ بل أصبح: كيف نعيد تعريف العمل في زمن الذكاء الاصطناعي؟
خلفية تاريخية: مراحل التحوّل في العمل
- مع الثورة الصناعية الأولى والثانية، انتقل العمل من الزراعة والمصانع اليدوية إلى خطوط الإنتاج.
- مع الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0) وظهور الروبوتات، الإنترنت، والتحليل الرقمي، بدأ “العمل المعرفي” أيضًا يتغير عبر الحوسبة والتشغيل الآلي.
- اليوم، ومع بزوغ الذكاء الاصطناعي التوليدي، نحن أمام ما يمكن تسميته “مرحلة ما بعد الأتمتة” — حيث لا تقتصر الأداة على تنفيذ المهام بل توليد المحتوى، تحليل البيانات، وتفسير السياقات. هذا يُحدث تغيّراً ليس في “أين نعمل” فقط، بل في “ماذا يعني أن نعمل”.
التحوّل الراهن: التوصيف المنطقي للتغيّر
القوى المحرّكة
أظهرت دراسات حديثة أن تحوّل سوق العمل لا يعود فقط للتكنولوجيا، بل لمحاور متداخلة:
- التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي: وفق تقرير Future of Jobs 2025، نحو 86 في المئة من أصحاب العمل يرون أن تقنيات المعلومات والذكاء الاصطناعي ستُحوّل أعمالهم بحلول عام 2030.
- الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة: الأدوار المرتبطة بالطاقة المتجددة والمدن الذكية أصبحت من أسرع القطاعات نمواً
- التغيرات الجغرافية-الاقتصادية (geoeconomic) والديموغرافية: التغير في سلاسل الإنتاج، التوزّع العالمي للعمالة، وتفاوت الجاهزية التقنية بين الدول كلها تسهم في كيفية استجابة الدول للعمل الجديد
التحليل الراهن: ماذا تقول الأرقام؟
- المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF 2025):
 نحو 83 مليون وظيفة ستُلغى أو تُعاد صياغتها بحلول 2027، مقابل 69 مليون وظيفة جديدة — أي تحوّل صافي يعتمد على سرعة التبنّي التقني.
- منظمة العمل الدولية (ILO 2025):
 ربع الوظائف عالميًا (≈25 ٪) معرضة لتأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي، لكن الأتمتة الكاملة لا تتجاوز 2.3 في المئة من سوق العمل؛ التأثير الأساسي هو تحويل المهام لا استبدال الإنسان.
- ماكينزي 2025:
 بين 400 و 800 مليون شخص سيحتاجون إلى تطوير مهاراتهم أو تغيير وظائفهم بحلول 2030 مع توسّع الأتمتة.
النتيجة العامة: الذكاء الاصطناعي لا “يُزيل” الوظائف بالضرورة، بل يُعيد صياغة المهام: مثلاً، مهام إدخال بيانات أو فرز بسيطة أصبحت معرضة للأتمتة، بينما المهام التي تتطلب حكمًا إنسانياً، تفاعلاً، إبداعاً تبقى محمية نسبيًا.
- هناك انتقال صافي: خلق وظائف جديدة (في تحليل البيانات، هندسة الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، الطاقة الخضراء) مع تعرّض وظائف تقليدية للخطر أو التحول.
- الأثر ليس موحداً: الدول ذات البنية التحتية الرقمية المرتفعة وأكثر استعداداً التقنيًا تستفيد أسرع، في حين الدول الأخرى تواجه تحديات أكبر. هذا منطق “الجاهزية” الاقتصادي-التكنولوجي.
القطاعات الأكثر تأثّرًا
 
 
مهارات المستقبل: ما الذي يجب أن يُكتسب؟
من خلال الدمج المنطقي بين التكنولوجيا والاقتصاد والإنسانية، يمكن تحديد مهارات رئيسية:
- المهارات التقنية المتقدمة: تحليل البيانات، الذكاء الاصطناعي، هندسة الأنظمة، الأمن السيبراني.
- المهارات الناعمة (Soft Skills): الإبداع، التفكير النقدي، التواصل، القيادة، التعامل مع التغيير.
- التعاطف وفهم الإنسان: حتى أفضل خوارزميات الذكاء الاصطناعي لا تملك تجربة الحُكم الأخلاقي أو العلاقة الإنسانية، لذا فهؤلاء الذين يجمعون المهارات التقنية والإنسانية سيحظون بميزة تنافسية.
- القدرة على التعلّم المستمر وإعادة التأهيل (Reskilling): يجب أن يكون الفرد مؤهّلاً تماماً لتعلّم أدوات وتقنيات جديدة بوتيرة سريعة.
- فهم “التعاون مع الذكاء الاصطناعي” (Human-AI teaming): ليس الهدف أن تُنافس الآلة، بل أن تعمل معها لتحقيق نتائج أفضل.
"83  مليون وظيفة ستتلاشى أو تتحوّل بحلول 2027، مقابل 69 مليون وظيفة جديدة ستولد في مجالات تحليل البيانات، الأمن السيبراني، الذكاء الاصطناعي، والطاقة الخضراء."
 بعبارة أخرى، العالم لا يفقد وظائفه — بل يستبدلها بذكاءٍ أكثر.
هذه الثورة الرقمية ليست مجرد موجة عابرة، بل مرحلة جديدة من التاريخ الإنساني تتطلب استعدادًا فكريًا، ومهاريًا، ومؤسساتيًا. الذكاء الاصطناعي لن يُقصي الإنسان بل يرفع سقف المنافسة نحو ما لا تستطيع الآلة فعله: الإبداع، الحدس، التعاطف، وصناعة المعنى.
وفي خضمّ هذا التحوّل، تظهر ثلاث حقائق كبرى:
- أنّ من يمتلك المهارة، لا يخشى الأتمتة.
- أنّ من يستثمر في الإنسان، يضمن البقاء في السوق.
- أنّ الذكاء الحقيقي ليس في الخوارزميات، بل في من يعرف كيف يستخدمها.
التوصيات
- للحكومات وصنّاع القرار
- الاستثمار في التعليم المستقبلي، وإدراج مهارات الذكاء الاصطناعي والتفكير النقدي في المناهج منذ المراحل المبكرة.
- تطوير سياسات "التحوّل المهني الذكي" (Smart Reskilling) لدعم انتقال العمالة من القطاعات المتراجعة إلى المتنامية.
- بناء شراكات بين القطاعين العام والخاص لتطوير مراكز تدريب وطنية للذكاء الاصطناعي والمهارات الرقمية.
للمؤسسات والشركات:
- اعتماد الذكاء الاصطناعي كشريك في القرار لا كبديل للموظفين، مع إعادة هيكلة المهام نحو مجالات تحليلية وإبداعية.
- تعزيز ثقافة "التعلّم مدى الحياة" داخل بيئة العمل، وربط الترقية المهنية بالقدرة على التعلّم والتكيّف.
- الاستثمار في أدوات الذكاء الاصطناعي المسؤولة أخلاقيًا التي تضمن الشفافية وتُحافظ على القيم الإنسانية.
للأفراد والعاملين:
- تعلّم مهارات التعامل مع الذكاء الاصطناعي Prompt Engineering، تحليل البيانات، التفكير النقدي
- دمج المعرفة التقنية مع المهارات الإنسانية — فالقيمة المضافة للإنسان تكمن في خياله وتعاطفه.
- عدم مقاومة التغيير بل قيادته؛ فمَن يتقن العمل مع الآلة سيكون قائدها لا تابعها.
*رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية
 
							  







