الفضة تسرق الأضواء:
استثمار ذكي في عالم متقلب

28.10.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. سوليكا علاء الدين

في مشهد غير معتاد لأسواق المعادن الثمينة، خطفت الفضة الأضواء في عام 2025، حيث تمكّنت من اختراق حاجز الخمسين دولارًا للأونصة للمرة الأولى منذ عام 1983، لتبلغ ذروة تاريخية قاربت الـ 55 دولارًا في تشرين الأول/أكتوبر 2025، وهو أعلى سعر يسجّله المعدن الأبيض في تاريخه الحديث.

هذا الارتفاع اللافت لم يكن صدفة، إذ ارتفعت أسعار الفضة منذ بداية العام بنسبة 70.1 في المئة، متفوقةً بارتفاعاتها القياسية التي لم تُسجَّل منذ أكثر من أربعة عقود على مكاسب الذهب، التي ناهزت ما يقارب الـ 54 في المئة خلال الفترة نفسها. وقد أسهم هذا الأداء القوي في تعزيز مكانة المعدن الأبيض كأحد أبرز محركات السوق في عام استثنائيٍ لقطاع المعادن الثمينة، ليكرّسه كأحد أكثر الأصول ديناميكية وجاذبية للاستثمار على الصعيدين الصناعي والمالي، ووجهة مفضلة لأولئك الباحثين عن فرص نمو مستدامة ومزيج متوازن من الأمان والقيمة في آن واحد.

صعود مدعوم بأسس صلبة

إذًا، صعدت الفضة في عام 2025 نتيجة تراكم الزخم على مدار الأشهر التسعة الأولى، حيث سجّل الربع الثالث وحده مكاسب بلغت 27.5 في المئة، وحقق شهر أيلول/ سبتمبر ارتفاعًا إضافيًا بنسبة 16.1 في المئة، ما جعل موجة صعود 2025 واحدة من أقوى فترات الأداء المستدام والقيمة السوقية في تاريخ المعدن الأبيض، متجاوزة ذروتي عامي 1980 (50.36 دولارًا) و2011 (49.80 دولارًا للأونصة).

ولم يكن هذا المسار التصاعدي نتيجة مضاربة قصيرة الأجل كما حدث سابقًا، بل جاء مدفوعًا بعدة عوامل أساسية مترابطة. وكان أول هذه العوامل هو الطلب الصناعي القوي. وفقًا لتقرير "المسح العالمي للفضة 2025"، بلغ الطلب الصناعي العالمي نحو 681 مليون أوقية في 2024، مع توقع نموه بنسبة 4 في المئة سنويًا. ويستمر هذا الطلب في دفع أسعار الفضة للأعلى، لا سيما مع نمو قطاعات الألواح الشمسية، صناعة الالكترونيات، السيارات الكهربائية، وأشباه الموصلات. ويبرز القطاع الشمسي كأكبر مستهلك للفضة، حيث استهلك نحو 195.7 مليون أوقية في عام 2025، أي ما يمثل أكثر من 28 في المئة من إجمالي الطلب الصناعي العالمي، مما يؤكد أن الطلب على الفضة ليس مؤقتًا، بل جزء من التحول الصناعي العالمي نحو الطاقة النظيفة.

يتمثل العامل الثاني في محدودية العرض، إذ أظهرت بيانات سوق لندن للمعادن وجود عجز هيكلي في المعروض العالمي من الفضة يقدّر بنحو 187.6 مليون أونصة في عام 2025، أي أقل بنحو 75 في المئة مقارنة بذروة العجز التي تجاوزت 850 مليون أونصة في منتصف عام 2019. هذا النقص الحاد أسهم في ارتفاع العلاوات السعرية وزيادة الضغوط على الأسعار الفورية، الأمر الذي عزز مكانة المعدن الأبيض وقوته في الأسواق العالمية.

أما العامل الثالث فيتعلق بالبيئة الاقتصادية الكلية، حيث ساعدت سياسات البنوك المركزية، مثل خفض أسعار الفائدة وضعف الدولار الأميركي مقابل سلة العملات الرئيسية، على إعادة توجيه رؤوس الأموال نحو المعادن النفيسة. وقد انعكس ذلك في زيادة مشتريات المستثمرين الأفراد والمؤسسات من الفضة بنسبة تتراوح بين 15 و20 في المئة خلال النصف الأول من 2025، مما رسّخ الطلب الاستثماري على المعدن الأبيض.

كما ساهمت التدفقات في صناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) في دعم صعود الفضة، حيث ارتفعت الأصول المحتفظ بها بهذه الصناديق بأكثر من 40 في المئة مقارنة بنفس الفترة في 2024، ما أضاف مزيدًا من الزخم للفضة في السوق الفورية، مؤكدًا أن الأداء التصاعدي للمعدن في 2025 قائم على أسس متينة تجمع بين الطلب الصناعي المستدام والقيود العرضية والطلب الاستثماري المتزايد.

كذلك تلعب الاختلالات التجارية وارتفاع التعريفات الجمركية، إلى جانب تراجع الثقة في الأصول الورقية وتصاعد التوترات الجيوسياسية، دورًا رئيسيًا في رفع علاوة الأمان، ما يدفع المستثمرين نحو الملاذات الآمنة ويعزز الطلب على المعادن النفيسة ضمن دورة تحوّط مستمرة تغذيها حالة عدم اليقين العالمي..

موجة تصحيح حادة وسط التقلبات

رغم الزخم الإيجابي للفضة، سجّل المعدن الأبيض تراجعًا حادًا بعد الفترة القياسية، بفعل تداخل عوامل خارجية وفنية، في حين ما تزال الأساسيات طويلة الأجل للفضة قوية ومتماسكة. انحسرت المخاطر السياسية الأميركية مع ظهور توقعات بتوصل الجمهوريين والديمقراطيين إلى اتفاق قريب، ما يمهّد لاستئناف عمل الحكومة ويخفف الضغوط الجيوسياسية التي كانت تدعم أسعار المعادن الثمينة. في الوقت نفسه، عززت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول اتفاقية تجارية مع الصين، وخططه للقاء الرئيس الصيني شي جينبينغ، التفاؤل التجاري في الأسواق. ومن الناحية الفنية، ساهم اختراق السعر لخط الاتجاه الصاعد المتسارع في دفع موجة البيع الأخيرة، ليعكس المشهد الحالي مزيجًا متكاملاً من العوامل السياسية والتجارية والفنية المؤثرة على حركة المعادن الثمينة

رغم هذا الانخفاض الحاد، تظل النظرة طويلة الأجل للفضة إيجابية، خاصة مع استمرار الطلب الصناعي من قطاعات الطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية، وقيود المعروض العالمي. كما ساهمت تدفقات صناديق الاستثمار المتداولة وسحوبات مستودعات COMEX في زيادة التقلبات السعرية، حيث استمرت المخزونات في التراجع وسط طلب مرتفع.

ويرى الخبراء أن الفضة على مشارف استعادة زخمها الصعودي خلال الأسابيع المقبلة، مدعومة بتوجه البنوك المركزية الكبرى نحو سياسات تيسير نقدي وتزايد تدفقات المستثمرين إلى الأصول غير المدرة للعوائد. وفي الوقت نفسه، يثير الجمود السياسي والاغلاق الحكومي المستمر في واشنطن مخاوف من ركود محتمل، ما يدفع المستثمرين للبحث عن ملاذات آمنة، لتبقى الفضة والذهب في صدارة الخيارات الأكثر جاذبية في الأسواق العالمية.

أسعار الفضة تحت المراقبة

تُعد الفضة ملاذًا آمنًا ومخزنًا محتملاً للقيمة، لما تتمتع به من دور مزدوج؛ فهي أداة للتحوّط النقدي ضد التضخم، وفي الوقت نفسه عنصر أساسي في التقنيات المتقدمة، ما يجعلها متميزة في عالم يواجه تقلبات اقتصادية وتحديات عدم اليقين. ومن هذا المنطلق، تُطرح أهداف سعرية مستقبلية طموحة للفضة، تتراوح بين 75 و100 دولار للأونصة بحلول الفترة 2027–2030.

على المدى الأقرب، توقّع مصرف ANZ وصول سعر الفضة إلى 57.50 دولارًا للأونصة بحلول منتصف عام 2026، مع تحذير من أن موقف الفيدرالي المتشدّد أو نمو الاقتصاد الأمريكي بأعلى من المتوقع قد يشكّل خطرًا سلبيًا على هذه التقديرات. وفي الوقت نفسه، يتوقع بنك أوف أمريكا أن يصل سعر الفضة إلى 65 دولارًا للأونصة في 2026، معبّرًا عن تفاؤله حيال استمرار الطلب الصناعي والاستثماري على المعدن الأبيض.

كما رفع بنك HSBC توقعاته لأسعار الفضة، مشيرًا إلى احتمالية ارتفاعها بشكل كبير على المدى القريب وفي النصف الأول من 2026، مدعومة بطلب الملاذ الآمن الذي دفع الذهب إلى مستويات قياسية. وحدد البنك نطاقًا سعريًا للفضة بين 45 و53 دولارًا للأونصة لبقية 2025، وبين 40 و55 دولارًا للأونصة لعام 2026.

وبالمثل، توقع محللو صندوق "إندستريال كود"، أن يصل سعر الفضة في 2026 إلى 55 دولارًا للأونصة في ظل استمرار ارتفاع أسعار الذهب وتوالي التوترات السياسية الدولية. أما ساكسو بنك، فقد توقع أن تواصل الفضة ارتفاعها نحو 100 دولار للأونصة بحلول عام 2026، مدعومة بتزايد الطلب الصناعي والتحوّل العالمي نحو الطاقة النظيفة.

في المقابل، حذر محللو غولدمان ساكس من تقلبات الفضة على المدى القصير، مشيرين إلى أن المعدن الأبيض قد يواصل مكاسبه على المدى المتوسط بدعم توقعات خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي. ومع ذلك، أكدوا أن الفضة أكثر تقلبًا من الذهب، نظرًا لارتباطها بالدورات الاقتصادية واستخداماتها الصناعية، مثل الألواح الشمسية، ما يجعلها أقل استقرارًا كأداة تحوّط. كما أشاروا إلى أن الفضة تفتقر إلى الدعم المؤسسي والاعتراف الاقتصادي الذي يتمتع به الذهب، فهي ليست جزءًا من احتياطيات صندوق النقد الدولي أو محافظ البنوك المركزية الحديثة، كما أن ارتفاع أسعار الذهب لا يشكل دافعًا للبنوك المركزية للتحوّل نحو الفضة. وأضاف المحللون أن أي تراجع مؤقت في التدفقات الاستثمارية، بالتزامن مع انحسار أزمة شح المعروض في لندن، قد يؤدي إلى تصحيح مبالغ فيه لأسعار الفضة، رغم استمرار الأساسيات طويلة الأجل قوية.

أصل استراتيجي واستثماري

تعكس تحركات الفضة خلال عام 2025 التفاعل المعقد بين العوامل الاقتصادية والجيوسياسية والصناعية، ما يجعلها أكثر من مجرد أداة لتحقيق الربح السريع، بل أصلًا استراتيجيًا مرتبطًا بالتحولات العالمية نحو الطاقة النظيفة والتكنولوجيا المتقدمة. وقد أثار الانخفاض المفاجئ في أسعار الفضة استغراب المستثمرين بعد أن سجلت مستويات قياسية مؤخرًا، إلا أن المعدن الأبيض لا يزال يحتفظ بجاذبيته الاستثمارية رغم تقلباته.

ويظل التفاؤل طويل الأجل قائمًا، مدعومًا بالطلب الصناعي المستمر وقيود المعروض، إلى جانب المخاوف التضخمية. ومن هذا المنطلق، يتوقع الخبراء أن تتفوق الفضة على الذهب في 2026، حيث تظل مرشحة لموجات صعود جديدة بدعم الطلب الصناعي والاستثماري، مع التحذير من تصحيحات قصيرة الأجل نتيجة تقلبات المعدن الحساس.

وفي ضوء هذه المعطيات، ينصح المحللون بمتابعة عوائد السندات الأميركية وقوة الدولار والتطورات الجيوسياسية، بالإضافة إلى المستجدات العالمية في مجالات الصناعة والطاقة والسياسة النقدية، لتحديد فرص الشراء عند أي تراجعات إضافية. كما يشددون على أن الفضة تتحرك عادة بوتيرة أسرع وأكثر حدة من الذهب، وعلى أهمية تنويع الاستثمارات بين الفضة والذهب، واعتماد استراتيجيات دقيقة تتماشى مع واقع السوق، لضمان تحقيق عوائد مستدامة وتقليل المخاطر في بيئة استثمارية متقلبة.