د. خالد عيتاني*
في عالمٍ تتحكّم فيه الخوارزميات بسلاسل الإمداد، وتوجّه فيه البيانات سياسات الحكومات، يتحوّل التحوّل الرقمي من خيارٍ إداري إلى ضرورة وجودية لأي اقتصاد يريد البقاء في المنافسة.
ولبنان، الذي يملك أحد أكثر المجتمعات العربية إبداعًا في التكنولوجيا وريادة الأعمال، يجد نفسه أمام سؤالٍ مصيري:
هل يستطيع تحويل “الذكاء الاصطناعي” من شعارٍ في المؤتمرات إلى أداةٍ فعلية للإصلاح والنمو؟
الوزير جورج شحادة عبّر بوضوح: "لا يمكن بناء اقتصاد حديث على مؤسسات قديمة". لكنّ الواقع الميداني يضع هذه العبارة أمام اختبارٍ قاسٍ، بين الطموح والقدرة على التنفيذ.
أولاً: التحوّل الرقمي بين الطموح والسياسات
إعلان وزارة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي شكّل نقطة تحوّل رمزية في مسار لبنان الرقمي، خصوصًا مع الحديث عن خطة وطنية تشمل:
- بناء هوية رقمية موحّدة للمواطن؛
- رقمنة الخدمات الإدارية الأساسية؛
- إنشاء مناطق تكنولوجية معفاة ضريبيًا لجذب الاستثمارات؛
- وضع إطار تشريعي للذكاء الاصطناعي والبيانات.
لكن التحدّي الأكبر يكمن في الانتقال من مرحلة الرؤية إلى مرحلة التطبيق التنفيذي، وهي الحلقة الأضعف تاريخيًا في الإدارة اللبنانية.
ثانيًا: المنطق الاقتصادي للتحوّل الرقمي
في علم الاقتصاد العام، تُعتبر الرقمنة واحدة من أكثر الاستثمارات كفاءة من حيث العائد على الكلفة (ROI).
تشير تقديرات وزارة التحوّل الرقمي إلى أنّ استثمارًا لا يتجاوز 50 مليون دولار يمكن أن يخفض زمن المعاملات الحكومية بنسبة 60 في المئة خلال عام واحد، ويرفع الكفاءة التشغيلية للدولة بنسبة 30 في المئة.
هذه الأرقام، إذا تحققت، تعني وفورات مالية بمئات ملايين الدولارات سنويًا، ناهيك عن زيادة الشفافية وجذب المستثمرين.
لكن العبرة ليست بالأرقام المعلنة، بل بآلية التنفيذ والمساءلة: هل هناك مؤشرات أداء واضحة؟ هل يتمّ نشر تقارير فصلية لقياس التقدّم؟ هذه الأسئلة تحدّد مصداقية المشروع أكثر من أي خطاب رسمي.
ثالثًا: الذكاء الاصطناعي كأداة إصلاح لا رفاهية تقنية
يدخل الذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة من ثلاثة مسارات:
- تحليل البيانات الحكومية لتوقّع المخاطر والازدحام الإداري؛
- أتمتة الخدمات عبر روبوتات محادثة ذكية ونظم دعم القرار؛
- مكافحة الفساد عبر تتبّع الأنماط غير الطبيعية في المعاملات.
إلا أن هذه القدرات لا تُثمر إلا إذا رافقها تشريع لحماية البيانات الشخصية، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للحوكمة الرقمية، تضمن النزاهة والشفافية في استخدام الذكاء الاصطناعي.
رابعًا: التحديات البنيوية ومسارات الحل
رغم الطموحات الكبيرة، فإن قطاع التحوّل الرقمي في لبنان يواجه أزمات متشابكة يمكن تصنيفها في أربعة مستويات:
1. البنية التحتية الرقمية:
- انقطاع الكهرباء الدائم وانخفاض سرعة الإنترنت يشلّ أي خدمة رقمية.
- الحل: إنشاء مراكز بيانات وطنية هجينة (Hybrid Data Centers) تعمل جزئيًا بالطاقة الشمسية وتدار بشراكة مع القطاع الخاص.
2. الإطار التشريعي:
- غياب قانون متكامل لحماية البيانات، وتأخّر اعتماد توقيع رقمي رسمي.
- الحل: إقرار “قانون الحكومة الرقمية” على غرار التجربة الإستونية، وربطه بآليات مساءلة واضحة.
3. نقص الكفاءات التقنية في القطاع العام:
- هجرة المهندسين والمبرمجين جعلت الإدارات تعتمد على متعاقدين مؤقتين دون خطة استدامة.
- الحل: برنامج “لبنان كود 2030” لتدريب موظفي الدولة على المهارات الرقمية، مع حوافز مالية ومعنوية للكوادر التقنية.
4. فجوة التنسيق بين الجهات:
- تعدّد اللجان والمبادرات دون مرجعية موحّدة يؤدي إلى هدر الموارد.
- الحل: تأسيس “المجلس الوطني للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي”، ليكون الجهة العليا المخوّلة بوضع الأولويات ومراقبة التنفيذ.
خامسًا: رأس المال البشري واسترجاع العقول
المعادلة الرقمية لا تكتمل من دون الكفاءات. لبنان يمتلك واحدة من أعلى نسب المهندسين والمبرمجين في العالم العربي، لكن أكثر من نصفهم يعمل في الخارج. التحوّل الذكي يتطلّب تحويل الهجرة إلى شبكة إنتاج:
تعاقدات عن بُعد، مشاريع مشتركة مع الجامعات، ومناطق تكنولوجية تستقطب الشركات الناشئة.
المغترب اللبناني لا يحتاج دعوة عاطفية، بل بيئة عمل رقمية شفافة تعيد ربطه بوطنه مهنياً لا شعورياً.
إنّ التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي ليسا مجرّد ملفين تقنيين، بل خطة إنقاذ اقتصادي وسياسي للبنان.
فكل معاملة تُنجز رقمياً تعني دقيقة إضافية للإنتاج، وكل قرار مبني على البيانات يعني خطوة أقل نحو الفساد.
الطريق شاق، لكنّ البداية ممكنة إذا تحوّلت البيانات إلى قرار، والقرار إلى أثر، والأثر إلى ثقة.
حين تصبح الدولة اللبنانية قادرة على قياس أدائها رقمياً، عندها فقط يمكن القول إن لبنان انتقل من اقتصاد الورق إلى اقتصاد الفكر.
* رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية




