هل يقود الذكاء الاصطناعي منطقتنا
من الاستهلاك إلى الإنتاج؟

23.10.2025
خلال لقاء صفدر نذير مع الزميل إياد ديراني
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

كتب إياد ديراني

في الوقت الذي يهتزّ فيه العالم على وقع زلزال الذكاء الاصطناعي، الذي تغذيه المخاوف والتحديات والفرص الاقتصادية والأخلاقية، تتكشف أمام الدول العربية وخصوصاً الخليجية فرص لم يسبق لها مثيل، لإعادة تعريف اقتصاداتها من الجذور. فبينما تُعيد الاقتصادات الكبرى من واشنطن إلى بكين رسم خرائط القوة المبنية على من يملك أكبر مراكز البيانات والمعرفة وأسرار الشرائح الالكترونية، يمكن للمنطقة العربية أن تضع نفسها في قلب هذه الثورة، شرط أن تتحرك بسرعة، وبعقلية اقتصادية منفتحة وشجاعة، إنتاجية لا استهلاكية، وبمقاربات مقدامة في عالم التعليم والتدريب.

الذكاء الاصطناعي اليوم ليس مجرد تقنية، بل محطة انعطاف تاريخية حادة في مسار تطور الاقتصاد العالمي الذي يعيش مخاض الثورة الصناعية الرابعة، حيث قد تنتقل القيمة من ندرة الموارد المادية إلى وفرة البيانات، ومن الأسواق التقليدية إلى المنصات الخوارزمية التي تدير تدفقات العمل والإنتاج والاستهلاك. وفي عالم الذكاء الاصطناعي، القوة لا تأتي من النفط أو الحديد، بل من العقول والرموز والبيانات. وهنا، تظهر ملامح عالم جديد سيُعاد فيه تعريف البديهيات في كل المجالات، وسيشكل فيها الذكاء الاصطناعي قوة خطيرة وخلاقة في آن معاً، تَعِدُ بوفرة غير مسبوقة لكنها تحمل خطر تركّز الثروة والمعرفة، ما لم ترافقها سياسات توزيع عادلة وديمقراطية اقتصادية جديدة. ولهذا ثمة إجماع على أن الإصلاحات الوطنية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وسواها من المجالات الوطنية، ستكون بوابة العبور الاجبارية للتعامل مع عالم الذكاء الاصطناعي الوليد. 

من الرؤى الوطنية إلى الاقتصاد الخوارزمي

كثير من البلدان العربية، وفي مقدمتها بلدان خليجية كالسعودية والإمارات وقطر، وضعت استراتيجيات طموحة لإعادة بناء اقتصاداتها بعيدا عن الاعتماد على الموارد التقليدية، أو ما يُعرف بالتنويع الاقتصادي. لكن وكما تشير التحولات الحالية، فإن الذكاء الاصطناعي بات العمود الفقري الحقيقي لهذه الرؤى القائمة على تنوّع مصادر الثروات.

د. محمد مدكور، نائب رئيس شركة هواوي لاستراتيجية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، يلخّص المشهد في لقاء خاص على هامش جيتكس، بقوله: "الذكاء الاصطناعي لم يعد موضوعاً للنقاش أو ترفا تقنيا، بل أصبح الركيزة الأساسية لأي عملية تحول حقيقية نحو المستقبل".

ويضيف أن هواوي لا تكتفي بتزويد المعدات، بل تبني "منظومة متكاملة تشمل تطوير الكفاءات والتعاون في صياغة السياسات وتمكين المطورين". عمليا، وكما يقول د. مدكور، فإن هذا التحول من بيع التكنولوجيا إلى تمكين المنظومات هو ما يميز المرحلة الجديدة من الثورة الصناعية الرابعة، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع التنمية البشرية والسياسات الاقتصادية في نسيج واحد، من الصعوبة تجزئته.

في هذا السياق، تبرز فكرة "الذكاء الشامل" All Intelligence التي تتبناها هواوي كمفهوم يتجاوز الأجهزة والبرمجيات ليطال المجتمع بأكمله. وكما يشرح د. مدكور، أصبح الذكاء الاصطناعي مدمجا في كل طبقة من طبقات التكنولوجيا، من الاتصال والتخزين إلى تجربة المستخدم، ذلك أن الهدف في النهاية هو "تحقيق المزيد بموارد أقل، وبكفاءة أعلى".

المدن الذكية.. كائنات رقمية حية

أما صفدر نذير، النائب الأول لرئيس القطاع العام في هواوي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فيذهب أبعد من ذلك في لقائنا معه. فهو يرى أن التحول من المدن الرقمية إلى "المدن المعرفية" ثم "المدن المستقلة" سيغيّر جذريا مفهوم النمو الاقتصادي. ويقول: "في المستقبل، سنرى المدن قادرة على اكتشاف المشاكل بنفسها، وإصدار أوامر العمل، وإرسال روبوتات أو وكلاء ذكاء اصطناعي لمعالجتها". وهذه ليست رؤية خيالية، بل مشاريع حقيقية تعمل عليها هواوي في الصين وبعض البلدان الخليجية.

وربما يمكننا القول هنا أن المدن تصبح كائنات رقمية حية تتعلم، وتتكيف، وتنتج، ما يعني أن الاقتصاد بأكمله يتحول إلى منظومة ذاتية التشغيل والأهم أنه يغذي نفسه بالبيانات التي يحتاجها، إنه أمر مرعب بدون أدنى شك، خصوصا إذا كانت هناك ثغرات على مستوى الجوانب الأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والحوكمة الرشيدة وقيادة الدول.

من البنية إلى الكفاءة

يؤكد د. مدكور أن البيانات هي "الأساس الجديد للاقتصاد"، وأن الحلول الذكية للتخزين والتحليل التي تقدمها هواوي "تجعل النظام يتعلّم مرة واحدة ويتذكّر"، وما يقصد قوله نذير هنا، هو أن الحلول الذكية تختزل الجهد والطاقة عبر تراكم المعرفة، وعلينا هنا التوقف قليلا وأن نتذكر أن هذه الفكرة تتقاطع تماما مع ما تتطلبه الاقتصادات العربية في المرحلة المقبلة، أي تحويل البنى التحتية إلى أصول معرفية. فعوضا عن استيراد التكنولوجيا وتشغيلها بشكل استهلاكي، يمكن للدول أن تملك بياناتها الوطنية، كما يدعو صفدر نذير، عبر مبادرة "السحابة الوطنية" و"السيادة الرقمية"، لتصبح قادرة على تدريب نماذجها الخاصة وتطوير تطبيقاتها بما يخدم أولوياتها وسيادتها وأمنها الاقتصادي والوطني.

ويشير نذير أيضا إلى أن هواوي ترى الشرق الأوسط كـ "منطقة ريادية في تبنّي التكنولوجيا الجديدة" Early Adopter، أي أنها لا تكتفي باقتناء التكنولوجيا بل تطبقها فعليا لتحسين حياة الناس. لكنه يلفت إلى أن المرحلة المقبلة يجب أن تتمحور حول تحقيق الاستقلال المعرفي، ويقول: "ندعو الدول إلى تبني سحابة وطنية وتولّي الوصاية على بياناتها. هذا يجعلها أكثر اعتمادا على الذات وقادرة على استخدام بياناتها لتدريب النماذج واستغلالها بطرقها الخاصة ووفقا لخصوصياتها المحلية".

رأس المال البشري: الشرط الحاسم

غير أن كل هذه التحولات لن تُثمر دون الاستثمار في الإنسان، كما يقول د. مدكور: "البنية التحتية والطموح لا يكفيان دون كفاءات بشرية قادرة على قيادة المستقبل". وهنا تبرز أهمية ما تسميه هواوي "التكنولوجيا كخدمة" و"الخبرة كخدمة"، أي نقل المعرفة وليس فقط المعدات. فالذكاء الاصطناعي ليس سلعة، بل نظام بيئي من المهارات والتجارب التي تحتاج إلى البناء على المدى البعيد. هذا الاستثمار في الكفاءات هو ما سيحدد قدرة الدول العربية عموما والخليجية خصوصا على الانتقال من اقتصاد استهلاكي إلى اقتصاد إنتاجي قائم على التكنولوجيا والمعرفة، وقادر على تحقيق التنويع الاقتصادي بجدارة.

فرصة تاريخيةأم خطر جديد؟

الذكاء الاصطناعي سيُعيد تعريف الأسواق والقيمة الاقتصادية، لكنه قد يزيد أيضا من هشاشتها بسبب سرعة التغير والتفاوت في توزيع القوة والثروة. لذلك فإن التحدي الأكبر أمام الحكومات ليس فقط تبني الذكاء الاصطناعي، بل ضبطه وتوجيهه بما يخدم العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.

وفي النهاية، الذكاء الاصطناعي يشبه الطاقة النووية في القرن العشرين، من يستخدمه أولاً وبذكاء، سيكتب مستقبل البشرية لعقود.

وإذا استطاعت بلدان المنطقة أن تجعل من هذه الموجة فرصة لتوحيد جهودها وإطلاق ورشة وطنية كبرى لإعادة تعريف الاقتصاد، فإنها قد تتحول من مستهلكة للثورات الصناعية إلى مساهمة فيها. العالم يتغير بسرعة، والذكاء الاصطناعي هو قطار المستقبل. والسؤال الأخطر هنا هو: هل سنكتفي بمشاهدة مرور قطار الذكاء الاصطناعي، أم سنقوده؟ أو على الأقل المشاركة في قيادته. لن يمر وقت طويل لنعرف، لأنه من الواضح أن التطورات أسرع بكثير من توقعاتنا.