من الثورة الصناعية إلى الثورة الاقتصادية الرابعة:
كيف يعيد الذكاء الاصطناعي كتابة معادلة الثروة؟

21.10.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

هل يقود الذكاء الاصطناعي العام انفجارًا في اقتصاد العالم أم أزمة جديدة في التوازن البشري؟

د. خالد عيتاني*

قبل ثلاثة قرون، كانت فكرة النمو الاقتصادي المتواصل ضربًا من الخيال. حتى عام 1700، لم يكن الاقتصاد العالمي يتوسع بأكثر من 0.1 في المئة سنويًا - أي أن مضاعفة الناتج كانت تحتاج إلى ألف عام. ثم جاءت الثورة الصناعية لتقلب المعادلة، ومعها ارتفع النمو في القرن العشرين إلى 2.8 في المئة سنويًا.
واليوم، يقف العالم على أعتاب ثورة ثالثة - هذه المرة ليست بالبخار أو الكهرباء، بل بالعقل الاصطناعي. فهل سنشهد انفجارًا اقتصاديًا يفوق كل ما عرفته البشرية؟ أم أننا أمام فقاعة فكرية شبيهة بفقاعة الإنترنت قبل ربع قرن؟

الذكاء الاصطناعي العام: من حلم الفلاسفة إلى واقع الشركات

في تموز/ يوليو 2025، نشرت مجلة The Economist تقريرًا لافتًا تساءل: "ماذا لو جعل الذكاء الاصطناعي الاقتصاد العالمي ينفجر؟"، مستندة إلى فرضية أن أنظمة الذكاء الاصطناعي العام (AGI) قد تصبح قادرة على تطوير نفسها، وتوليد أفكار جديدة دون تدخل بشري.
سام ألتمان، المدير التنفيذي لـ “OpenAI"، عبّر عن هذه الرؤية بقوله إن "الذكاء الاصطناعي سيصبح قريبًا أفضل موظف مكتبي في التاريخ". شركات وادي السيليكون تراهن على معدلات نمو سنوية قد تصل إلى 30 في المئة من الناتج المحلي العالمي- رقم غير مسبوق في التاريخ الاقتصادي.
لكن السؤال: هل هذا التفاؤل مشروع، أم أنه مقامرة على مستقبل لم يتبلور بعد؟

الواقع بالأرقام: ما بين الوعد والضجيج

تُظهر بيانات Stanford HAI لعام 2025 أن 78 في المئة من المؤسسات حول العالم تبنّت تقنيات الذكاء الاصطناعي في 2024، بارتفاع كبير عن 55 في المئة في العام السابق. الاستثمارات الخاصة في الذكاء الاصطناعي تجاوزت 109 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها.
أما Penn Wharton Budget Model، فيقدّر أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يزيد الناتج المحلي الأمريكي بنسبة 1.5 في المئة بحلول 2035 و3 في المئة بحلول 2055 - أي أثر ملحوظ لكنه بعيد عن “الانفجار الاقتصادي” الذي يتحدث عنه المتفائلون.

وفي تحليل آخر، تتوقع Goldman Sachs أن تسهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في رفع إنتاجية العمل بمقدار يتراوح بين 0.3 و3 نقاط مئوية سنويًا خلال العقد المقبل.

هذه الأرقام تعكس واقعًا تدريجيًا أكثر منه ثورة آنية: التكنولوجيا تتقدم بسرعة، لكن الاقتصادات ما زالت تتأقلم ببطء.

انفجار الاستثمار... أم فقاعة رقمية جديدة؟

يُجمع معظم الاقتصاديين على أن السنوات الخمس المقبلة ستشهد طفرة في الاستثمارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، خصوصًا في مجالات الطاقة، والبنية التحتية الرقمية، ومراكز البيانات.
تقديرات Epoch AI تشير إلى أن الاستثمار الأمثل في الذكاء الاصطناعي في عام 2025 وحده يجب أن يبلغ 25 تريليون دولار، فيما مشروع “Stargate” التابع لـ OpenAI الذي تصل كلفته إلى 500 مليار دولار قد يكون مجرد بداية.

لكن صندوق النقد الدولي (IMF) حذّر مؤخرًا من "تفاؤل مفرط يشبه فقاعة الإنترنت في التسعينيات"، في ظل ارتفاع تقييمات شركات التقنية واندفاع رؤوس الأموال دون ضوابط تنظيمية كافية.
فالاستثمار السريع بلا إطار أخلاقي أو قانوني قد يؤدي إلى "فقاعة ذكاء اصطناعي" جديدة، خاصة مع ارتفاع الفائدة العالمية وتضخم التوقعات.

تحوّل جوهر الإنتاج: من نمو السكان إلى نمو الآلات

النظريات الكلاسيكية ربطت النمو بزيادة السكان- مزيد من الأيدي يعني مزيدًا من الإنتاج.
الثورة الصناعية قلبت المعادلة لتصبح الأفكار هي المحرك الأساسي. أما اليوم، فالتاريخ قد ينعطف مجددًا نحو ما يسميه الباحثون بـ**"نمو الآلات"**:

إنتاجية لا ترتبط بعدد البشر، بل بقدرة الخوارزميات على تطوير ذاتها.
فإذا تمكنت الآلات من تحسين قدراتها بذكاء متزايد ذاتيًا، فإن النمو يصبح نظريًا غير محدود.
لكن هذا السيناريو، كما يوضح باحثو "Epoch AI"، لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة إلى “وكالة إنتاج مستقلة” - وهو احتمال لم يتحقق بعد، وإن كانت بوادره تتشكل في مختبرات الذكاء الاصطناعي المؤتمتة بالكامل المتوقعة بحلول 2027.

المفارقة الاقتصادية الكبرى: نمو بلا عمال

إذا صحت هذه التوقعات، فالتحدي الأكبر لن يكون في زيادة الإنتاج، بل في توزيع العوائد.
البروفيسور ويليام نوردهاوس الحائز جائزة نوبل أشار إلى أن الأتمتة الكاملة ستوجه الأرباح نحو مالكي رأس المال- الشركات، البنى التحتية، البيانات- بينما يتراجع نصيب العمال.
بعبارة أوضح: من لا يملك أصولًا رأسمالية سيبقى متفرجًا على حفلة النمو.
في المقابل، يمكن أن تظهر ما يسميه الاقتصاديون بـ“أمراض باومول المعكوسة”، حيث ترتفع أجور المهن التي لا يمكن أتمتتها بسهولة مثل التعليم والطهي والرعاية.
لكن حتى هؤلاء، قد يواجهون انخفاضًا في القوة الشرائية إذا ارتفعت كلفة الخدمات البشرية مقابل السلع المؤتمتة الرخيصة.

معضلة السوق والمال: بين النمو والعائد

ارتفاع النمو المتوقع يفرض ضغطًا على أسعار الفائدة. فكلما توقّع الأفراد دخولًا أعلى مستقبلاً، زاد إنفاقهم اليوم، ما يرفع الحاجة إلى معدلات فائدة أعلى لجذب الادخار.
هذا التفاعل بين النمو السريع والفائدة المرتفعة يخلق مفارقة اقتصادية:
القيمة الحالية للأرباح المستقبلية قد تنخفض رغم تضاعف الإنتاجية -مما يجعل تقييمات الشركات عرضة لتقلّبات حادّة، كما يحدث الآن في أسواق التكنولوجيا الأميركية.

فجوة الشمال والجنوب: ذكاء غير متكافئ

تقرير حديث من شركة Anthropic (أيول/ سبتمبر 2025) أظهر أن استخدام الذكاء التوليدي ما زال متركزًا في الاقتصادات المتقدمة، بينما تظل الدول النامية في موقع المتلقّي.
إنها فجوة رقمية جديدة لا تُقاس بسرعة الإنترنت فقط، بل بسرعة التفكير الخوارزمي ذاته.
ففي عالم يقوده الذكاء الاصطناعي، من يتأخر عامًا واحدًا في الابتكار قد يتأخر عقدًا في النتائج الاقتصادية.

بين التفرّد والحدود الفيزيائية للنمو

يصف الاقتصاديون “التفرّد الاقتصادي” بأنه اللحظة التي تنتج فيها المعلومات معلومات أخرى دون قيود مادية - نهاية التاريخ الاقتصادي كما نعرفه. لكن الوصول إلى تلك النقطة ما زال موضع جدل، لأن اللانهاية في النمو مستحيلة نظريًا. ومع ذلك، حتى بلوغ نمو عالمي بنسبة 20 في المئة سنويًا - وفق تقديرات “Epoch AI” - سيكون حدثًا مفصليًا غير مسبوق في تاريخ البشرية، يغيّر مفهوم الثروة والعمل والملكية جذريًا.

استنتاج تحليلي: ما الذي يجب أن يفعله الأفراد والدول؟

المعادلة بسيطة على الورق وصعبة على الواقع: من يمتلك رأس المال يفوز.
لكن رأس المال لم يعد فقط مالًا أو أرضًا، بل بيانات، حوسبة، خوارزميات.
التوصيات الاقتصادية الحديثة تتفق على ثلاثة مسارات استراتيجية:

  1. تمكين المهارات البشرية بدل استبدالها - التعليم المستمر في التفكير النقدي، والإبداع، واستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لا كمنافس.
  2. الاستثمار في البنية التحتية التقنية والطاقة، لأن النمو القائم على الذكاء الاصطناعي يحتاج طاقة تفوق ما أنتجته الثورة الصناعية الأولى.
  3. تنظيم التوزيع العادل للعوائد عبر سياسات ضريبية وتمويلية تحافظ على توازن اجتماعي في عالم تتسارع فيه الآلات.

في أحد مقولاته الشهيرة قال الاقتصادي روبرت لوكاس:

"بمجرد أن تبدأ التفكير في آثار النمو على الرفاه البشري، يصعب التفكير في أي شيء آخر."

اليوم، ومع الذكاء الاصطناعي العام، تضاعف هذا الشعور وأصبح أكثر إلحاحًا.
فبين من يؤمن بانفجار اقتصادي سيغيّر التاريخ، ومن يحذّر من فقاعة قد تنفجر قبل أن تنضج، يقف العالم على أعتاب معادلة جديدة: هل نصبح أسرى لذكاء صنعناه، أم شركاء في ثورة تعيد تعريف معنى الإنسان والاقتصاد معًا؟

رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية*