صفحة جديدة بين بيروت ودمشق
من التباعد إلى التكامل

15.10.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

داود رمال

تدخل العلاقات اللبنانية السورية مرحلة جديدة من التبدّل والتطوّر السياسي والدبلوماسي بعد سنوات طويلة من الانقطاع والتوتر، مع بروز مؤشرات جدية على إعادة بناء الثقة بين الدولتين، انطلاقاً من لقاءات واتصالات متسارعة تُوَّجت بزيارة وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني إلى بيروت بصفته الرجل الثاني في الحكم السوري الجديد بعد الرئيس أحمد الشرع. هذه الزيارة، التي حملت أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية، بدت بمثابة الإعلان غير الرسمي عن عودة العلاقات بين البلدين إلى مسارها الطبيعي بعد عقود من التعقيد والتباعد.

فاللقاءات التي عقدها الوزير الشيباني مع رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في قصر بعبدا، ومع رئيس الحكومة الدكتور نواف سلام والوزراء المعنيين، أعادت إلى الواجهة مناخاً مختلفاً عن السنوات السابقة، يقوم على الحوار والانفتاح والرغبة في معالجة الملفات العالقة ضمن إطار مؤسساتي متوازن. وقد بدا واضحاً من خلال المداولات أنّ الجانبين يتعاملان بجدية مع ضرورة الانتقال من مرحلة "التعليق" التي سادت العلاقات الثنائية إلى مرحلة "التفعيل"، بدءاً من إعادة النظر بالاتفاقيات القديمة وتقييمها بما يتناسب مع المتغيرات التي فرضها الزمن، مروراً بتشكيل لجان مشتركة تبحث في القضايا الحساسة كالمعابر والحدود والموقوفين، وصولاً إلى فتح آفاق التعاون الاقتصادي والتجاري مجدداً.

في المقابل، عكست المواقف اللبنانية والسورية المتبادلة رغبة مشتركة في طيّ صفحة الماضي وإرساء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما شكّل تحولاً نوعياً في اللهجة السياسية بين بيروت ودمشق. فالحديث لم يعد يدور حول "وصاية" أو "هيمنة"، بل عن "شراكة" و"مصلحة متبادلة"، وهو ما يعطي للعلاقات بعداً جديداً يتلاءم مع التحولات الإقليمية ومع السياسة الواقعية التي يتبعها النظام السوري الجديد، الساعي إلى الانفتاح على جواره بعد رفع العقوبات واستعادة بعض من دوره الإقليمي.

أما على الصعيد الاقتصادي والمالي، فقد فتحت الزيارة الباب أمام نقاش معمّق حول إمكانية تطوير التعاون في مجالات عدة، أبرزها إعادة الإعمار في سوريا، حيث يمكن للبنان أن يلعب دوراً محورياً عبر قطاعاته المصرفية واللوجستية والخبرات الهندسية، إضافة إلى تنشيط حركة التبادل التجاري عبر المعابر البرية والبحرية، بما يعيد وصل الأسواق اللبنانية بالسورية والعربية. كما أن مسألة خط الغاز والربط الطاقوي بين البلدين عادت لتطرح بقوة، في ظل حاجة لبنان الماسّة إلى مصادر طاقة مستقرة، وحاجة سوريا إلى منفذ اقتصادي جديد يعيد إدماجها في المنطقة.

وتكتسب هذه التطورات أهمية مضاعفة في ظل الأوضاع الاقتصادية الدقيقة التي يعيشها لبنان، إذ يشكّل الانفتاح على سوريا فرصة لتوسيع دائرة التنفس التجاري والمالي، خصوصاً أن رفع العقوبات عن دمشق قد يتيح للبنان الاستفادة من مشاريع إقليمية كبرى تتعلق بالنقل والطاقة وإعادة الإعمار. كذلك فإنّ التنسيق في ملف اللاجئين السوريين، الذي طالما كان نقطة خلاف، بدأ يأخذ مساراً عملياً أكثر من كونه سياسياً، مع تأكيد الطرفين على العودة الكريمة والآمنة بإشراف الأمم المتحدة، ما يعكس تحوّلاً جدياً في مقاربة هذا الملف المعقّد.

وفي البعد الأمني، يبدو أن التنسيق بين الأجهزة المعنية في البلدين سيأخذ منحى أكثر تنظيماً من السابق، من خلال اجتماعات تقنية متبادلة تهدف إلى ضبط الحدود ومنع التهريب، بما ينعكس إيجاباً على الأمن الوطني وعلى استقرار القرى الحدودية في الجانبين. كما أن معالجة ملف الموقوفين السوريين في لبنان والمفقودين اللبنانيين في سوريا تشكّل مؤشراً إلى نية حقيقية في طيّ صفحة مؤلمة من العلاقات الثنائية، واستبدالها بآلية مؤسساتية قائمة على الشفافية والتعاون.

هكذا، تأتي زيارة الوزير الشيباني إلى بيروت في توقيت إقليمي بالغ الدقة، لتعلن بداية مرحلة جديدة من العلاقات اللبنانية السورية، عنوانها الأساسي "تصحيح المسار"، ومرتكزها الحوار المتكافئ والمصالح المشتركة. فلبنان الخارج من أزماته السياسية والاقتصادية يرى في هذا الانفتاح فرصة لتثبيت استقراره الداخلي من خلال شبكة مصالح إقليمية واقعية، فيما ترى سوريا في لبنان البوابة الطبيعية نحو العالم العربي والأسواق الدولية. وبين هذين المنظورين، تتكوّن ملامح شراكة جديدة بين بلدين جمعتهما الجغرافيا والتاريخ وتفرقهما السياسات، لكنهما اليوم يعودان إلى نقطة الالتقاء على قاعدة أن مستقبل المنطقة لا يُصنع إلا بالتفاهم بين أشقائها.