* د. خالد عيتاني
العراق بين الماضي والتطلعات الجديدة
منذ سنوات طويلة ظلّ العراق يُنظر إليه من زاوية الأزمات: أزمات أمنية وسياسية واقتصادية جعلت منه بيئة طاردة لرؤوس الأموال. لكن في بغداد، في أواخر أيلول/سبتمبر 2025، بدا المشهد مختلفًا. فقد تحوّل ملتقى العراق للاستثمار إلى إعلانٍ عن مرحلة جديدة، ليس للعراق وحده، بل لمنطقة تبحث عن مراكز ثقل اقتصادي جديدة.
هذا الملتقى الذي رعاه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لم يكن مجرّد مؤتمر بروتوكولي؛ بل منصة عملية جمعت أكثر من 600 شخصية اقتصادية عربية ودولية، عرضت خلالها 160 فرصة استثمارية بقيمة تتجاوز450 مليار دولار. فما الذي يجعل هذا الحدث نقطة انعطاف؟ وما الذي يمكن أن ينتج عنه على مستوى العراق والمنطقة؟
أهداف الملتقى – رؤية أبعد من الاقتصاد
في كلمته الافتتاحية، قال السوداني: إن سياسات الحكومة المتوازنة في علاقاتها الخارجية وتقديم مصلحة العراق صنعت بيئة مثالية للعمل الاستثماري." كما شدّد على أن توجّه الحكومة نحو تعديل قانون الشركات المساهمة وقانون الشركات القابضة، وإضافة مواد تدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والصناديق الخاصّة، وزيادة وتيرة رقمنة الإجراءات الحكومية لتقليص البيروقراطية."ولفت إلى أن عمل الحكومة على إصلاح النظام المصرفي ليكون قطاعاً بمعايير دولية، حيث سجل العراق ارتفاعاً بمؤشرات الاندماج مع الاقتصاد العالمي، وتوسيع أنظمة الدفع الإلكتروني، وحوكمة القطاع المالي."
وأكد أيضًا أن جهود ترسيخ الأمن والاستقرار مهّدت لصناعة بيئة مثالية وواعدة للاستثمار وبشكل يحمي ويطمئن الشركاء.
النتائج الملموسة – بين الطموح والتنفيذ
وأوضح السوداني أن الحكومة تتجه إلى جعل العراق منصة جاذبة، مُشيرًا إلى أن حجم الاستثمارات تجاوز الـ100 مليار دولار، ما يؤكّد صحّة قراراتنا في تنوع البيئة الاستثمارية الوطنية."
وتابع: أطلقنا مبادرة -ريادة- التي انخرط فيها أكثر من 500 ألف شاب وشابة، وتدريب 92 ألفاً، أنتجوا 12 ألف مشروع جديد من القروض و20 ألف فرصة عمل." وأضاف أن الشراكة في الاستثمار تحقّقت مع شركات عالمية، لاسيما مشاريع الأسمدة والكبريت والفوسفات وصناعة الحديد والصناعات الإنشائية والغذائية."
وأشار بفخر إلى أن العراق شهد إنجازًا هامًا تمثّل في تحقيق نجاح استثماري وصناعي في مجال صناعة الأدوية، وهو إنجاز غير مسبوق في تاريخ الصناعة العراقية.
المشاركات الدولية – استعادة الموقع
الميزة الأساسية في هذا الملتقى لم تكن داخلية فقط، بل دولية الطابع:
- الحضور العربي: وفود من الإمارات، السعودية، قطر، الكويت، الأردن، مصر ولبنان، أكدت أن العراق يعود إلى قلب الدورة الاقتصادية العربية.
- الأوروبيون: مشاركة مجلس الأعمال العراقي–البريطاني (IBBC) مع وفد من شركات بريطانية متخصصة في الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا.
- الآسيويون: ممثلون عن شركات صينية وتركية وهندية أبدوا اهتمامًا خاصًا بقطاعي الصناعة واللوجستيات.
- المؤسسات المالية العالمية: حضور مصرفي واستثماري دولي إلى جانب البنك المركزي العراقي فتح نقاشًا حول دمج العراق في النظام المالي العالمي.
- الدبلوماسية الاقتصادية: سفراء وملحقون تجاريون من الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، واليابان، حضروا لمتابعة فرص الشراكة المستقبلية.
الفرص والتحديات
الفرص:
- العراق يمتلك ميزة تنافسية هائلة: ثروات طبيعية، موقع جغرافي محوري، وقاعدة بشرية شابة.
- وجود دعم سياسي واضح للاستثمار يعكس رغبة في تجاوز "اقتصاد الريع النفطي".
- التوجه نحو الرقمنة والإصلاح المصرفي يقلل كلفة الدخول إلى السوق العراقي.
التحديات:
- الأمن الإقليمي: التوترات في المنطقة قد تعيد خلط الأوراق سريعًا.
- البيروقراطية: رغم الحديث عن الرقمنة، تبقى الإجراءات المعقّدة عقبة رئيسية.
- الثقة الدولية: المستثمرون يحتاجون إلى ضمانات قانونية وتأمينية قوية.
- المنافسة الإقليمية: دول مثل السعودية والإمارات تعرض بيئة أكثر استقرارًا وجاذبية.
من بغداد إلى الإقليم
أشار السوداني في كلمته إلى أن الحكومة تخطّط إلى تأسيس مجلس دائم من المستثمرين العرب والأجانب، يوفّر الاستشاراتِ والمعلومات التي تخدمُ تطويرَ الاستثمار في العراق، ويرتبط برئاسة الوزراء."
إذا نجح العراق في تحويل هذه الإعلانات إلى مشاريع واقعية، فإننا أمام خريطة اقتصادية جديدة للمنطقة:
- بغداد كمركز لوجستي يربط الخليج بتركيا وأوروبا عبر "طريق التنمية".
- قطاع صناعي واعد يوفّر للعراق مكانة تصديرية جديدة.
- تحول في سوق العمل يقلل من اعتماد الشباب على الوظائف الحكومية ويزيد من الإنتاجية.
توصيات استراتيجية
- نافذة استثمار إلكترونية موحدة تختصر التراخيص والمعاملات.
- مجلس دائم للمستثمرين يرتبط برئاسة الوزراء لضمان التواصل المباشر.
- ضمانات قانونية وتأمينية للمستثمرين الأجانب والعرب.
- تركيز على القيمة المضافة: التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، المدن الذكية.
- تسويق دولي نشط للفرص العراقية عبر المنتديات العالمية.
- مراقبة شفافة للتنفيذ عبر تقارير دورية تعزز الثقة.
العراق كمنصة للنهضة الإقليمية
ملتقى العراق للاستثمار لم يكن محطة بروتوكولية، بل إعلانًا عن ولادة رؤية جديدة: عراق ما بعد النفط، ما بعد الأزمات، عراق التنمية والشراكة.
إن نجحت الحكومة في ترجمة هذه الطموحات إلى وقائع، فقد يتحوّل العراق من دولة "فرص ضائعة" إلى دولة "فرص مُعاشة"، ومن هامش الأزمات إلى مركز للنمو الإقليمي.
وتكمن الرسالة الأبرز: من بغداد، يمكن أن يبدأ طور جديد يعيد للعراق مكانته، ويمنح المنطقة كلها أفقًا للتنمية المشتركة.
*رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية