د. خالد عيتاني*
في خضم أزمات اقتصادية ومالية غير مسبوقة، يجد لبنان نفسه أمام مفترق طرق مصيري. لم تعد الموازنة العامة مجرد جداول أرقام أو حسابات محاسبية، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس جدّية الدولة في خوض معركة الإصلاح الشامل. البُعد الاقتصادي يتقاطع هنا مع السياسي، إذ إن نجاح موازنة 2026 سيُحدد ليس فقط قدرة الحكومة على إدارة أموالها، بل أيضًا مدى استعدادها لإعادة بناء الثقة الداخلية والخارجية. فالتوازن المالي اليوم أصبح شرطًا للبقاء، والإصلاحات الهيكلية باتت مدخلًا إلزاميًا لاستعادة الاcستقرار، فيما تبقى الأنظار مركّزة على وزارة المالية التي تتحمل عبء إدارة مرحلة دقيقة يترابط فيها الاقتصادي بالسياسي، والمالي بالاجتماعي.
وفي هذه اللحظة المفصلية التي يمرّ بها الاقتصاد اللبناني، تبرز وزارة المالية كرافعة للانضباط المالي ومختبر للإصلاح المؤسسي. الوزير ياسين جابر، الذي تولّى الحقيبة في شباط/فبراير 2025، أطلق منذ اليوم الأول شعارين حاكمين: وقف الإنفاق العشوائي (سلف الخزينة) وتغليب الشفافية والمكننة على إدارة المال العام. وانطلاقًا من هذه الرؤية، تأتي هذه الورقة لتقدّم قراءة تحليلية نقدية لمشروع موازنة 2026 وما رافقه من إصلاحات معلنة، مع مقارنته بالوقائع المتاحة حتى تاريخ اليوم (21 أيلول/سبتمبر 2025)، وطرح حلول ابتكارية قابلة للتنفيذ
نُقارب الموضوع عبر أربع حلقات مترابطة:
- تشريح الأرقام: بنية الموازنة وإيراداتها ونفقاتها.
- اختبار الفرضيات: ما الذي يؤكَّد بالبيانات وما الذي يبقى وعودًا أو مسودات؟
- تحليل السببيات: كيف تتداخل السياسات المالية مع القطاع المصرفي وإعادة الإعمار؟
- حلول مبتكرة: حزمة أدوات تمويل وإصلاح تُوازن بين الواقعية والطموح.
الحلقة الأولى: تشريح الأرقام – نحو موازنة “منضبطة” بلا ضرائب جديدة؟
حجم الموازنة ولغة “التوازن”
تبلغ أرقام مشروع 2026 نحو 505.72 تريليون ليرة قرابة 5.65 مليارات دولار على أساس 89,500 ل.ل/د. أ، مع توجّهٍ لإبقاء العجز “صفريًا” اسميًا عبر شدّ براغي الجباية وضبط الإنفاق. هذه القفزة تعادل زيادة بين 13 في المئة و18 في المئة مقارنة بأرقام 2025 الأولية، بحسب اختلاف خط الأساس المعتمد. وتتقاطع الرسائل الرسمية والإعلامية مع تأكيد سياسي على عدم فرض ضرائب جديدة والتركيز على تحسين التحصيل بدل رفع المعدلات.
تركيبة الإيرادات
تشير الملاحق التحليلية إلى أن الإيرادات الضريبية قد تشكّل أكثر من أربعة أخماس الإجمالي (نحو 416 تريليون ليرة)، مع اعتماد أكبر على الضرائب غير المباشرة والرسوم، وتوسيع إنفاذ القواعد عبر المكننة والفوترة الإلكترونية، ومقترحاتٍ مثل اقتطاع 3 في المئة على الاستيراد عند الحدود بآلية تحاكي “اقتطاعًا عند المنبع” لاجتثاث الشركات الوهمية ورفع الشفافية. هذه الخطوات قيد النقاش الفني ولم تُستكمل تشريعيًا بعد، لكنها منسجمة مع توجهات مكافحة التهرّب وتوسيع القاعدة الضريبية.
بنية الإنفاق
يظلّ بند الرواتب والأجور (للعاملين والمتقاعدين) الكتلة الأثقل، وقد قُدِّر في الحوار بنحو 3 مليارات دولار. على الضفة الاستثمارية، تحاول الحكومة مواءمة اعتمادات الموازنة مع قروضٍ ميسّرة لردم فجوات البنى التحتية:
- 250 مليون دولار من البنك الدولي كتمويل تأسيسي لصندوق إعادة إعمار البنى الأساسية المتضرّرة (طرق، مدارس، مستشفيات، كهرباء ومياه).
- 75 مليون يورو من فرنسا دعمًا لمسار الإعمار ضمن برنامج البنك الدولي.
- حِزم قطاعية وردت في الحوار: 200 مليون للزراعة (تفعيل “المشروع الأخضر” ودعم “كفالات” والصرف الصحي)، 250 مليون للكهرباء (شبكات النقل ومحطات التحكّم والتقوية ضمن تطبيق القانون 462 وإشراك القطاع الخاص في التوزيع والجباية وجزء من الإنتاج)، و275 مليون للمياه (مشاريع أنفاق ونقل مياه لبيروت).
- تخصيص 40–50 مليون دولار لترميم نحو 500 مبنى متصدّع ضمن برنامج إعادة الإعمار المرحلي.
هذه البنود تُقارب الاستثمار كرافعة نموّ، لكن إنفاقها سيكون تراكميًا على عدّة سنوات لا دفعة واحدة.
سياسة صناعية وزراعية محلية
تتضمّن الرؤية مناطق صناعية نموذجية بتمويل 200 مليار ليرة على أراضٍ تملكها الدولة، مع إعفاء ضريبي لعشر سنوات للمشاريع الصناعية الجديدة وإتاحة استئجار الأرض لخفض الكلفة الرأسمالية، مع فكرة موازية لإقامة مجمعات زراعية تُمنح حوافز مماثلة.
رسالة الانضباط
الخطوة الأكثر وقعًا سياسيًا وماليًا كانت وقف سلف الخزينة والامتناع عن الإنفاق خارج الموازنة، وربط أي نفقات إضافية بمشاريع قوانين فتح اعتماد ممولة بإيرادٍ موازٍ؛ وهو تحوّل سلوكي طال انتظاره في المالية العامة.
الحلقة الثانية: اختبار الفرضيات – بين المُعلَن والمؤكَّد
- المكننة والشفافية: ثمة تقدّم ملموس في الخدمات الإلكترونية (تصاريح، دفعات، استعلامات)، وتوجه لتوسيع الفوترة الإلكترونية وربطها برقمنة الجمارك. على المعابر، يجري تثبيت ماسحات حديثة للع Containers مع قدرة تشغيلية تصل إلى 60 حاوية بالساعة وتقنيات ذكاء اصطناعي لتقييم المخاطر. هذه نقاط قوّة قابلة للقياس.
- لا ضرائب جديدة: أُعيد تأكيدها علنًا في أكثر من مناسبة. لكن مشروع 2026 يضم تدابير “تقنية” (تحسين تحصيل، حدود لاقتطاعات الضريبة على القيمة المضافة، رسوم إجرائية) قد تبدو بلا زيادة معدلات، لكنها تشدّد التحصيل وتحجّم التساهل؛ وهو نهجٌ سليم إن طُبّق بعدالة وبدون أثرٍ انكماشي مفرط.
- حماية الفقراء: ذُكر في الحوار تخصيص 50 مليون دولار اجتماعيًا، والاستمرار في برنامج “أمان” وتوسعة المظلّة بعد الحرب (منح 300 دولار للإيجار و500 دولار لمصاريف مدرسية لـ 10 آلاف عائلة نازحة)، مع سعيٍ لاتفاق 200 مليون إضافي للدعم. مبدئيًا، ينسجم ذلك مع توسعات فعلية في أمان خلال 2025، غير أنّ القِيَم الدقيقة وآليات الصرف تتطلب قرارات تنفيذية وموازنات ملحقة.
- طاقة وكهرباء: رُصدت تمويلات خارجية (بينها قرض طاقة منفصل بقيمة 250 مليون دولار)؛ لكن جوهر الإصلاح في الكهرباء هو الحوكمة وعقود الشراكة وتخفيض الهدر الفني والتجاري—وهي عناصر حاسمة لا يقوم الاستثمار دونها.
- “الفجوة” المصرفية والودائع: يتردّد رقم 70 مليار دولار كحجم تقريبي للخسائر المتراكمة في النظام المالي. طُرحت أفكار لإعادة 100 ألف دولار الأولى للودائع عبر بطاقات خصم (Debit) ضمن جدولٍ زمني، مع جدولة المبالغ الأعلى. حتى اليوم تبقى هذه مقترحاتٍ قيد الإعداد لا قرارات نهائية، فيما أُقرّ قانونٌ مُحكمٌ للسرية المصرفية، وعُيّن حاكمٌ جديد لمصرف لبنان (كريم سويد/Souaid) بعد شغورٍ دام نحو سنتين—خطواتٌ تعزّز الثقة لكنها لا تُغني عن خطة توزيع خسائر واضحة.
الحلقة الثالثة: السببيات الكبرى – كيف تتشابك المالية العامة مع المصارف والإعمار؟
- الموازنة والانكماش: تحسين التحصيل دون رفع المعدلات يُحدِث انضباطًا غير انكماشي إذا ترافق مع تحسين العدالة الأفقية (سدّ التهرّب) بدل إرهاق الملتزمين أصلاً.
- المصارف والودائع: من دون قانون حلّ المصارف وجدولة عادلة للخسائر تُحافظ “قدر الإمكان” على حقوق المودعين، ستبقى الكلفة الاجتماعية عالية والقنوات الائتمانية معطّلة، بما يخنق الاستثمار الخاص الذي تعوّل عليه الموازنة في قطاعات الكهرباء والاتصالات والنقل.
- الإعمار كرافعة نمو: 250 مليون دولار أقرّها البنك الدولي + 75 مليون يورو من فرنسا + مساهمات مرتقبة في صندوق يستهدف مليار دولار؛ كلها يمكن أن تدفع النمو إذا ترافقت مع إصلاحات شراء عام وحوكمة مشاريع تمنع تسرّب الموارد، وتضمن اختيار المشاريع ذات المضاعف الأعلى (شبكات نقل الكهرباء والمياه، الطرق الرابطة للمناطق الإنتاجية، مرافق الصحة والتعليم).
- الإشارة الائتمانية: رفع S&P لتصنيف العملة المحلية إلى CCC (منCC) يعكس تحسّنًا طفيفًا في إدارة الدين بالليرة وتوقعات الانضباط، لكنه لا يبدّل جذريًا شروط التمويل الخارجي ما لم تُحسَم ملفات المصارف والديون ويُنجَز اتفاقٌ مع صندوق النقد.
الحلقة الرابعة: تقييم نقدي بنّاء
- قوة الطرح: إيقاف سلف الخزينة، التزام “لا ضرائب جديدة”، مكننة الجباية والجمارك، توجيه الإنفاق الاستثماري لبنى تحتية حرجة، إحياء الشراكة مع القطاع الخاص وفق قانون 462، وإطلاق صندوق إعمار مُراقَب دوليًا—كلها اختيارات صحيحة الاتجاه.
- نقطة ضعفٍ أولى: الاعتماد المرتفع على الضرائب غير المباشرة يُبقي عدم العدالة قائمًا إن لم تُرفَق بإصلاح ضريبي قاعدي (توسيع دخل/أرباح/ثروة، وإدخال ضريبة أرباح رأسمالية انتقائية، ومعالجة التهرّب الكبير.)
- نقطة ضعفٍ ثانية: غياب خطة مُحكمة ومُعلَنة لتوزيع الخسائر في القطاع المالي وجدولة ردّ الودائع—مع معالم فنية واضحة وآجال ومصادر تمويل—يُبقي الثقة معلّقة ويكبّل التعافي الائتماني.
- نقطة ضعفٍ ثالثة: الكهرباء—من دون عقود تشغيلية - تنظيمية شفافة تخفّض الهدر الفني والتجاري وتضبط التعرفة على مسارٍ يُوازن الكلفة والقدرة على الدفع، ستتبدّد مكاسب التمويل في هوامش الهدر.
- نقطة ضعفٍ رابعة: الصناعات والمجمعات الزراعية تحتاج حزم سياسات مكمّلة (خدمات لوجستية، تمويل سلسلة القيمة، مواصفات وجودة، أسواق تصديرية، ربط بحثي-تقني)، لا إعفاءات وحدها.
من صندوق الأدوات إلى التنفيذ: حلول ابتكارية قابلة للتطبيق
- صندوق سيادي للودائع«Deposits Resolution Facility»
تجميع أصولٍ تجارية للدولة (عقارية، اتصالات، مرافئ محددة غير سيادية، حصص بشركات طاقة متجددة) في صندوقٍ مُحكَم الحوكمة، يصدر صكوك استرداد مضمونة بالتدفقات (Revenue-backed Notes) تُخصَّص تدريجيًا لشرائح المودعين، تبدأ فعليًا بـشريحة 100 ألف دولار عبر بطاقات خصم ذات ضوابط سحب، ثم ترتّب الجداول للشرائح الأعلى. يُحظى الصندوق برقابة تدقيقية دولية ومجلس مستقلّ، ويُمنع استخدامه لخصخصة جائرة. - تمويل أخضر-اجتماعي مشروط (Sustainability-Linked)
إطلاق سندات خضراء/اجتماعية محلية بالعملة الأجنبية الخفيفة (محلية-دولارية) مضمونة بجزء من إيرادات مشاريع الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، مع مؤشرات أداء (خفض فاقد الشبكة، ساعات تغذية، انبعاثات)، تُخفض كلفة التمويل عند تحقيق الأهداف. - جماركذكية “Customs-as-a-Service”
تحويل الماسحات والذكاء الاصطناعي إلى منصة خدمة تتشارك البيانات لحظيًا مع “السجلّ الضريبي الموحّد” والفوترة الإلكترونية، مع هوية رقمية للمكلّف وخوارزميات مخاطر تطابق بيانات الاستيراد مع الإقرارات الضريبية؛ ما يبرّر فنيًا اقتطاع 3% عند الحدود كتسوية على الحساب تُسوّى لاحقًا في ضريبة الدخل/القيمة المضافة. - تعاقدات PPP رشيقة للكهرباء والمياه
تقسيم التعاقد إلى حزم صغيرة قابلة للقياس (وحدات توزيع/تحصيل، مناطق خدمة مياه)، مع مدفوعات على أساس النتائج (KPI-based) وحقّ فسخ سريع عند الإخفاق، وتثبيت مراقبة مدنية-مهنية للعقود عبر بوابة شفافية آنية.
- مناطق صناعية-زراعية ذكية
ربط الحوافز الضريبية بمؤشرات قيمة مضافة محلية، وتشغيل النساء والشباب، والتصدير، وإتاحة مختبرات جودة وخدمات لوجستية داخلية؛ ومواءمة التمويل الميسّر عبر “كفالات” مع حسابات جارية مضمونة الطلب (Forward Purchase Agreements) للمنتجات المعيارية (ألبان، تجهيزات غذائية، مكوّنات بلاستيكية/معدنية).
- شبكة أمان اجتماعي صامدة للصدمات
توحيد قواعد بيانات المستفيدين (Aman/NPTP) في سجل اجتماعي وطني، وربط تحويلات 300$ للإيجار و500$ للتعليم بآليات تحقق رقمية (إيصالات إيجار/مدرسة) ومنصّة شكاوى عامة، مع مؤشّر تغطية يُعلَن شهريًا لقياس الكفاءة والوصول.
سيناريوهات الاثني عشر شهرًا المقبلة
- سيناريو إصلاحي متسارع: إقرار قانون حلّ المصارف، إطلاق صندوق الودائع، تفعيل PPP في الكهرباء، تمرير موازنة منضبطة بلا عجز اسمي، توقيع “اتفاق-إطار” مع IMF— ينعكس انخفاضًا بعلاوات المخاطر وازديادًا تدريجيًا في الائتمان.
- سيناريو تعثّر: تباطؤ تشريعي في توزيع الخسائر وتأجيل عقود الطاقة—يؤدي إلى استمرار الاختناق الائتماني وتآكل ثقة المستثمرين بالرغم من تمويل الإعمار.
- سيناريو جمود: الحفاظ على الانضباط المحاسبي دون إصلاحات بنيوية—يحافظ على الاستقرار الهشّ لكن من دون نموّ نوعي أو تحسّن معيشي ملحوظ.
من “لغة الوعود” إلى “اقتصاد الأفعال”
أثبتت التجربة أن الانضباط المالي شرطٌ لازم لكنه غير كافٍ. وتؤشّر موازنة 2026، مع إيقاف سلف الخزينة والمكننة وتفعيل الجمارك وتمويل الإعمار، إلى اتجاهٍ سليم. غير أنّ التعافي القابل للاستمرار يمرّ عبر ثلاثيةٍ لا بدّ منها:
- حسم ملف المصارف والودائع بخطةٍ عادلة وشفافة،
- حوكمة الكهرباء والمياه بعقود نتائج لا شعارات،
- تحويل الحوافز الإنتاجية إلى قيمة مضافة وتصدير لا إلى إعفاءات مفتوحة.
عندها فقط تتحوّل الموازنة من ميزان أرقام إلى برنامج نموّ يعيد الثقة ويستردّ تدريجيًا ما تبعثر من مدّخرات وطاقات.
*رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية