* د. خالد عيتاني
في قاعة الأمم المتحدة بنيويورك، حيث تختلط أصوات القادة وهموم الشعوب، ارتفع صوت الرئيس الأميركي دونالد ترامب حادًا، مثيرًا للجدل، ومحمَّلًا بوعود كبرى لا تخلو من التناقض. خطاب بدا وكأنه مزيج من التحدي والمصارحة، من السخرية أحيانًا والجدية أحيانًا أخرى، لكنه في كل الأحوال لم يترك أحدًا على الحياد. فمن جهة، شدّد على السيادة الوطنية ودق ناقوس الخطر من "العولمة"، وهاجم سياسات الهجرة والطاقة الخضراء بلا مواربة. ومن جهة أخرى، قدّم نفسه كـ "صانع سلام" وسط عالم يشتعل في غزة وأوكرانيا وغيرهما من بؤر الصراع. بين الطموح والواقع، بين الشعارات والحلول، يقف خطاب ترامب كمادة خصبة للتحليل، يكشف عن رؤيته لمستقبل النظام الدولي، لكنه يطرح في الوقت ذاته أسئلة صعبة حول مصداقية الوعود وحدود القوة الأميركية.
أولًا: قراءة في الإيجابيات
رغم الجدل الكبير الذي أثاره خطاب ترامب، إلا أنه تضمّن نقاطًا تحمل جوانب إيجابية تستحق التوقف عندها:
- إعادة الاعتبار للسيادة الوطنية: شدّد على حق الدول في تقرير مصيرها، وهو طرح يلقى قبولًا لدى دول الشرق الأوسط التي تعبت من التدخلات الخارجية.
- تسليط الضوء على أزمة الهجرة: توصيفها بأنها "القضية السياسية الأولى" يعكس إدراكًا لأهمية الملف الذي يضغط على أوروبا والدول العربية المستضيفة للاجئين.
- نقد البيروقراطية الأممية: أثار نقاشًا جديًا حول إصلاح المنظمة التي عجزت مرارًا عن وقف نزاعات دامية.
- طرح ملف الطاقة بجرأة: ذكّر العالم بأن التحوّل الطاقوي السريع قد يضر بالاقتصادات النامية إن لم يكن مدروسًا.
- الإشارة إلى النزاعات المهمّشة: سلط الضوء على أزمات قد تبدو ثانوية لكنها قابلة للتصعيد، مثل نزاعات القوقاز أو مياه النيل.
ثانيًا: مكامن الخلل والتناقضات
لكن الخطاب حمل أيضًا تناقضات كبرى:
- تباهى بوساطات محدودة بينما تجاهل حروب غزة وأوكرانيا.
- صوّر الأمم المتحدة كيانًا ضعيفًا، متجاهلًا دور الفيتو الأميركي في تعطيل قراراتها.
- أنكر التغير المناخي رغم الإجماع العلمي وخطورة انعكاساته، خصوصًا على مناطق جافة كالعالم العربي.
- اكتفى بعبارات عامة حول غزة دون مبادرة حقيقية، ما قوّض صدقيته كـ "صانع سلام".
- لجأ إلى الاستعراض والمزاح في قضايا وجودية، ما أضعف من جدية الخطاب.
ثالثًا: التحليل والاستنتاج
- سياسيًا: رؤية "السيادة أولًا" قد تعني داخليًا استعادة القرار الوطني، لكنها دوليًا تُضعف التعددية وتفتح فراغًا تستغله قوى مثل روسيا وإيران وتركيا.
- اقتصاديًا: العودة إلى الوقود الأحفوري تخدم مصالح آنية للشرق الأوسط، لكنها تُعرّض اقتصادات المنطقة لمخاطر حين ينتقل العالم قسرًا إلى الطاقة النظيفة.
- استراتيجيًا: تجاهل غزة وأوكرانيا يضعف صورة الولايات المتحدة كقوة قادرة على حل الأزمات الكبرى، وهو معيار القيادة الدولية الحقيقية.
رابعًا: ردود الفعل الدولية والإقليمية
1- أوروبا
- انتقادات حادة، خصوصًا من قادة الاتحاد الأوروبي، الذين رأوا في هجومه على الطاقة الخضراء "ارتدادًا خطيرًا" عن التزامات المناخ.
- في ملف الهجرة، بدت أوروبا منقسمة: دول شرقية أيّدت تشديد الحدود، بينما اعتبرت دول غربية أن خطابه يغذي الشعبوية ويضعف القيم الإنسانية.
2- روسيا
- استقبلت موسكو خطابه بمزيج من السخرية والارتياح.
- سخرت من "إيمانه المفاجئ" بقدرة أوكرانيا على استعادة أراضيها، واعتبرته مجرد "شعار انتخابي".
- في المقابل، ارتاحت لانتقاده الأمم المتحدة، إذ يتقاطع مع الموقف الروسي الداعي لإضعاف المؤسسات متعددة الأطراف لصالح التفاهمات الثنائية.
3- الصين
- انتقدت بكين وصف المناخ بـ “الخدعة"، معتبرة ذلك خروجًا عن الإجماع العالمي.
- رأت أن موقفه من العولمة "انعزالي" ويهدد التجارة الدولية التي تشكّل عصب النفوذ الصيني.
- لكنها رحبت ضمنيًا بضعف التعددية الأممية الذي يفسح لها المجال لتعزيز مبادرات بديلة مثل "الحزام والطريق".
4- الدول العربية
- الموقف كان متباينًا:
- دول خليجية رحبت بحديثه عن حماية الوقود الأحفوري، باعتباره يعزز دورها الاقتصادي.
- دول عربية أخرى، خصوصًا تلك المتأثرة بالنزاعات، رأت في خطابه تناقضًا صارخًا: كيف يتحدث عن السلام بينما يتجاهل المأساة في غزة؟
- الرأي العام العربي على وجه الخصوص استقبل خطابه بكثير من الريبة، معتبرًا أنه خطاب يخدم إسرائيل أكثر مما يخدم القضية الفلسطينية.
خامسًا: حلول وبدائل مبتكرة
- إصلاح مجلس الأمن: تقييد استخدام الفيتو في قضايا الإبادة والنزاعات الكبرى.
- نهج جديد للهجرة: بناء برامج للتنمية المشتركة بدل الاقتصار على سياسات الطرد.
- تحالف طاقوي مبتكر: مبادرة أميركية–خليجية لتطوير تقنيات التخزين الطاقوي ودمج النفط في الاقتصاد الأخضر.
- سلام حقيقي في غزة وأوكرانيا: رعاية مؤتمر دولي مزدوج يُعيد الثقة بواشنطن كوسيط.
- إعادة تعريف القيادة الأميركية: تحويل "أميركا أولًا" إلى "شراكات عادلة" توازن بين المصالح الوطنية والمسؤولية الدولية.
خطاب ترامب في الأمم المتحدة 2025 لم يكن مجرد عرض سياسي، بل محاولة لإعادة صياغة قواعد النظام الدولي على قاعدة السيادة والأحادية. لكن بينما حمل بعض الإيجابيات – من إعادة الاعتبار للسيادة إلى طرح أسئلة مشروعة حول الهجرة والطاقة – فإن تناقضاته كانت أكبر: إنكار المناخ، تجاهل غزة، استخدام الفيتو، وتغليب الاستعراض على الحلول.
ردود الفعل الدولية أظهرت أن العالم لم يعد متلقيًا سلبيًا للخطاب الأميركي: أوروبا تمسكت بالمناخ، الصين بالدفاع عن التجارة، روسيا بالتحايل على التعددية، والعرب انقسموا بين مصالح الطاقة وجرح غزة النازف.
إن أي حديث عن السلام لن يُقاس بالتصفيق أو الانتقادات، بل بقدرة واشنطن على اتخاذ قرارات شجاعة توقف نزيف الدم وتوازن بين الاقتصاد والسياسة. وغزة اليوم هي الاختبار الأول.
*رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية