البروفيسور هاني الشعراني*
يقف لبنان اليوم على مفترق طرق حيث تتراكم فيه الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتتزايد معها معدّلات البطالة والهجرة. وفي ظل هذه الظروف بات من الواضح أن النموذج التعليمي اللبناني لم يعد يواكب التحولات التي اجتاحت سوق العمل المحلي والدولي.
فالنظام المدرسي لم يعد يؤهل الطالب للمرحلة الجامعية بالشكل المطلوب، واصبحت الجامعة تخرّج الطلاب دون أن تجهّزهم بالمهارات المطلوبة الامر الذي ادى الى ظهور نقص حاد في الكفاءات التقنية، وفائض في العديد من التخصصات اضافة الى انقطاع شبه كامل بين الجامعات وقطاعات الإنتاج.
من هنا، تأتي أهمية إصلاح النظام التعليمي في لبنان ليواكب احتياجات سوق العمل المحلي والدولي وليعمل على نمو الاقتصاد الوطني. ولكن الاسئلة التي تطرح نفسها هنا ماهي مسببات الأزمة التعليمية في لبنان وكيف يمكن إصلاحها؟
أولاً: أزمة المدرسة اللبنانية – ضعف التأسيس والمهارات
يعاني النظام التعليمي في لبنان من العديد من المشاكل ومنها نذكر:
1 - مناهج قديمة لا تُواكب العصر
يعتمد التعليم المدرسي في لبنان على مناهج قديمة ترتكز على الحفظ والتكرار وتفتقر التفكير النقدي، حل المشكلات، والقدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة.
في زمن الذكاء الاصطناعي ما زالت المدارس اللبنانية تعلم المفاهيم الأساسية بالطريقة نفسها منذ عقود، دون ربط الطلاب بالمستجدات العلمية أو بسوق العمل.
2 - غياب التوجيه المهني المبكر
يحتار معظم الطلاب في لبنان تخصّصاتهم الجامعية بشكل عشوائي أو بتأثير الأهل أو المجتمع، وليس بناءً على تحليل ميولهم أو مهاراتهم أو واقع السوق. فالتوجيه المهني في لبنان غائب عن المدارس الرسمية ولا يُطبّق بشكل علمي وصحيح في المدارس الخاصة.
هذا الغياب التوجيهي يؤدي إلى قرارات خاطئة في التعليم العالي، تُفرز خريجين في مجالات لا تتوفر فيها فرص عمل كافية، بينما تبقى ميادين حيوية مثل التكنولوجيا، الطاقة، والرعاية الصحية تعاني نقصًا في اليد العاملة المؤهلة.
3 - التعليم المهني: فرصة ضائعة
يُعاني لبنان من نظرة مجتمعية سلبية تجاه التعليم المهني، رغم أن معظم دول العالم تعتمد عليه كأساس لبناء اقتصاد منتج. وعليه يتوّجه نسبة ضئيلة من الطلاب اللبنانيين نحو هذا المسار وذلك رغم الحاجة الماسة لفنيين محترفين في مجالات متعددة مثل التبريد، الطاقة الشمسية، البرمجة، الصناعة الغذائية، والميكانيك.
ثانياً: الجامعات اللبنانية – الكم على حساب النوع
يواجه النظام التعليمي في لبنان العديد من المشاكل ابرزها:
1 - ازدياد عدد الجامعات لا يعني جودة التعليم
بلغ عدد الجامعات في لبنان أكثر من 40 جامعة، وهو رقم مرتفع جدًا نسبة إلى عدد السكان. لكنّ هذا التوسع الكمي لم يُترجم إلى جودة نوعية. العديد من الجامعات تكرّر البرامج نفسها، وتخرّج آلاف الطلاب سنويًا في تخصصات لا يوجد فيها فرص عمل كافية مثل الحقوق، إدارة الأعمال، بعض تخصصات الهندسة أو الأداب.
2 - ضعف المحتوى الأكاديمي وغياب المهارات
تُعاني مناهج الجامعات في لبنان من الجمود، إذ إن أغلبها لم يُراجع منذ سنوات. ويتم التركيز على الجوانب النظرية، وتُهمل المهارات العملية الاساسية لسوق العمل. نادراً ما يتعرّض الطالب خلال دراسته لأعمال تطبيقية تحاكي الواقع أو لتدريب عملي جاد.
3 - التركيز على تخصصات مشبعة وإهمال القطاعات الحيوية
تخرج الجامعات اللبنانية سنويًا آلاف الخريجين في تخصصات تقليدية، في حين أن قطاعات حيوية تعاني من نقص في الكفاءات، مثل الطاقة المتجددة وإدارة الموارد الطبيعية، الأمن الغذائي والزراعة الذكية والتحول الرقمي والبرمجة.
الجامعات مطالبة اليوم بتأسيس برامج جديدة في هذه المجالات، مرتبطة بالحاجات الوطنية، وتقديم حوافز للطلاب لاختيارها.
4 - ضعف التمويل البحثي
يُعد البحث العلمي في لبنان من أكثر القطاعات إهمالًا، فلا تمويل حكومي يُذكر، ولا استراتيجية وطنية واضحة. الباحثون اللبنانيون يعتمدون غالبًا على مبادرات فردية، ما يجعل كثيرًا من البحوث غير مرتبطة باحتياجات الاقتصاد أو المجتمع.
تحديث هيكلي وشراكة مع سوق العمل
يحتاج لبنان الى مزيد من العمل على تطوير النظام التعليمي من خلال:
1 - إصلاح مناهج التعليم المدرسي والعالي
لا يمكن الحديث عن تطوير التعليم من دون إصلاح شامل في مناهج المدارس والجامعات، بحيث يتم دمج المهارات الرقمية والإبداعية في كل التخصصات ويزداد التركيز على المشاريع والعمل الجماعي وحل المشكلات وتطوير المهارات اللازمة لسوق العمل.
2 - شراكة ثلاثية: الجامعة – الشركة – الطالب
لابد من بناء علاقة تكاملية بين الجامعات والقطاع الخاص والطلاب على غرار ما يتم في بعض الدول الغربية والآسيوية مثل امريكا وبريطانيا والصين واليابان. على سبيل المثال الآ حصر يجب توقيع اتفاقيات تعاون بين الجامعات والشركات الصناعية أو التكنولوجية وتنفيذ مشاريع تخرّج مشتركة بين الطالب والشركة بإشراف الجامعة. من جهة أخرى يجب دعوة ممثلين عن القطاع الخاص للمشاركة في تحديث المناهج الأكاديمية.
3 - إنشاء مراكز أبحاث تطبيقية بالتعاون مع القطاعات الاقتصادية
يمكن تحويل الجامعات إلى مراكز أبحاث منتجة عبر تأسيس مراكز بحث تطبيقي داخل الجامعات بالتعاون مع الوزارات والبلديات والشركات الهدف منها تطوير المهارات وحل المشاكل في المجتمع.
4 - الريادة والابتكار – تحويل الجامعة والمدرسة إلى محرّك للاقتصاد
الجامعة او حتى المدرسة اللبنانية يمكن أن تكون أكثر من مؤسسة تعليمية، بل منصة للابتكار وريادة الأعمال، يستطيع الطلاب من خلالها دعم أفكارهم وربطهم بالمستثمرين وذلك من خلال انشاء حاضنات أعمال متخصصة.
دور الدولة والقطاع الخاص
لا يمكن للإصلاح البنيوي التعليمي في لبنان أن يتحقق الا من خلال تدخل كل من القطاع الخاص والدولة بشكل عملي وعلمي متكامل.
1 - دور الدولة اللبنانية
الدولة مطالبة بوضع سياسة تعليم وطنية جديدة تتضمن مراجعة شاملة للمناهج المدرسية والجامعية. كما يجب إقرار نظام وطني للتوجيه المهني من المرحلة المتوسطة وفرض رقابة جدية على جودة البرامج الجامعية. كما يجب تشجيع الجامعات على تأسيس حاضنات أعمال وتخصصات تطبيقية تحاكي الواقع واحتياجات سوق العمل.
1 - دور القطاع الخاص
لا يمكن للمؤسسات التعليمية وخاصة الجامعية للجامعات أن تعمل بمعزل عن الشركات. لذا، على القطاع الخاص أن يُشارك في بناء وتحديث البرامج التعليمية بالتعاون والتنسيق مع القطاع الخاص. كما يجب على القطاع الخاص ان يقدّم فرص تدريبية منظمة ويُساهم في تمويل البحث العلمي والتطوير الجامعي.
يعتبر إصلاح التعليم في لبنان شرط أساسي للنهوض الاقتصادي والاجتماعي. المطلوب هو تحول جذري في النظرة إلى المدرسة والجامعة، من مؤسسات تلقين إلى مؤسسات تمكين.
إذا أردنا للبنان أن يستعيد دوره، وأن يبقى أبناؤه فيه، فعلينا أن نربط التعليم بسوق العمل، وأن نبني اقتصادًا على أساس المعرفة، لا على الريع أو الهجرة.
الطريق طويل، لكن البداية واضحة: تطوير العلم، يبدأ من المدرسة، ويتعزز في الجامعة، ويُثمر في سوق العمل والمجتمع.
*مدير عام ورئيس مجلس إدارة معرض رشيد كرامي الدولي