حماية الطبيعة
الاستثمار الأمثل للنمو الاقتصادي

15.09.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

من أجل ضمان كوكب صالح للحياة، لا بد من حماية البيئة والاستثمار في رأس المال البشري والمادي، إذ يشكل الاستخدام الحكيم للموارد الطبيعية أساس التنمية المستدامة وتحقيق تحسن دائم في مستوى معيشة الجميع. وقد أكد البنك الدولي هذا المفهوم في أحدث تقاريره الصادر تحت عنوان "إعادة تنشيط التنمية: اقتصاديات كوكب صالح للعيش".

وفقًا للتقرير، يتعرض نحو 80 في المئة من سكان الدول منخفضة الدخل لثلاثة مخاطر بيئية في آن واحد، وهي: تدهور الأراضي، وتلوث الهواء بمستويات غير آمنة، وإجهاد الموارد المائية. في المقابل، لا يتعرض سوى 1 في المئة فقط من سكان الدول مرتفعة الدخل لهذه المخاطر الثلاثة مجتمعة. ومع ذلك، من الخطأ الافتراض بأن الثراء يوفر تلقائيًا الحماية من المخاطر البيئية، إذ لا تزال التدهورات البيئية تشكل تحديًا عالميًا حقيقيًا، حيث يعيش 90 في المئة من سكان العالم في مناطق تتعرض لتدهور الأراضي أو الهواء غير الصحي أو الإجهاد المائي.

البيئة والنمو

وكشف التقرير أن ثمانية من كل عشرة أشخاص في البلدان المنخفضة الدخل وحدها يعيشون بلا هواء صحي أو ماء أو أراضٍ سليمة. ويشكل ذلك عقبة كبرى أمام النمو الاقتصادي وأمام إتاحة الفرص. وتشير شواهد وأدلة جديدة إلى أن فقدان الغابات يعطل هطول الأمطار، ويجفف التربة، ويفاقم موجات الجفاف، ما يؤدي إلى خسائر بمليارات الدولارات. كما تطرق التقرير إلى ما يُسمى بـ "مفارقة النيتروجين"، حيث ترفع الأسمدة من إنتاجية الغلة، لكن الإفراط في استخدامها في بعض المناطق يضر بالمحاصيل والنظم الإيكولوجية، متسبباً في خسائر قد تصل إلى 3.4 تريليونات دولار سنوياً. أضف إلى ذلك أن تلوث الهواء والماء يضر بالصحة والإنتاجية والقدرات المعرفية بشكل صامت، مما يستنزف الإمكانات البشرية.

وأكد تقرير البنك الدولي أن الطبيعة يمكن أن تصبح قادرة على توفير الوظائف، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز القدرة على الصمود إذا خضعت لإدارة جيدة وفعالة. ويمكن أن يؤدي الاستخدام الأكثر كفاءة للموارد الطبيعية إلى خفض التلوث بنسبة تصل إلى 50 في المئة. كما أن تحسين ممارسات استخدام الأسمدة النيتروجينية على مستوى المزارع قد يوفر عوائد تفوق التكاليف بنحو 25 ضعفاً، إلى جانب زيادة إنتاجية المحاصيل. ويمكن أن يصبح تحسين خدمات المياه والصرف الصحي سبباً في إنقاذ الأرواح، إذ إن معالجة المياه بالكلور في نقاط الاستخدام قد تنقذ حياة ربع الأطفال الذين يموتون مبكراً بسبب المشاكل الناجمة عن المياه. ومن جهة أخرى، تسهم "أسواق التلوث" في الحد من تلوث الهواء بكفاءة اقتصادية مذهلة، حيث يحقق كل دولار يُنفق عوائد تتراوح بين 26 و215 دولاراً.

وتعليقاً على ذلك، قال أكسيل فان تروتسنبرغ، المدير المنتدب الأول للبنك الدولي: "إن الناس والمجتمعات المحلية في جميع أنحاء العالم لا تواجه أزمة بيئية فحسب، بل أيضاً أزمة اقتصادية. وما يبعث على التفاؤل هو أن الحلول متوفرة. فإذا نفذت البلدان الاستثمارات الصحيحة الآن، فسيكون استعادة الأنظمة الطبيعية ممكناً، وبما يحقق عوائد كبيرة على معدلات النمو وتوفير الوظائف... وهذا التقرير يقدم التحديات البيئية من زاوية جديدة، بالنظر إليها كفرصٍ لتحقيق تنمية أكثر ذكاءً بدلاً من اعتبارها من المعوقات."

وأوضح التقرير أن الدول أثبتت أن النمو الاقتصادي لا يستلزم بالضرورة زيادة التدهور البيئي، حيث أكدت تجاربها أهمية التركيز على ثلاثة مجالات رئيسية، وهي:

المعلومات:

تُعدّ المعلومات أساس السياسات الفعّالة، إذ تُشكّل كلاً من الطلب على التغيير والقدرة على تنفيذه. وينجح التحول البيئي عندما يحظى بدعم شعبي واسع، إذ يدفع وعي المواطنين بالمخاطر- مثل تلوث الهواء والمياه وإزالة الغابات- المطالبة باتخاذ إجراءات. غير أن هذه المخاطر ليست دائماً مرئية، مما يبرز أهمية التقنيات الرقمية في سد فجوات المعلومات، من خلال تحسين المراقبة البيئية، وشفافية سلاسل الإمداد، وتوسيع الوصول إلى المعرفة.

في المقابل، تُعيق المعلومات المضللة الإصلاح وتُرسّخ السياسات الضارة، وقد تفشل السياسات الجيدة في ظل غياب معلومات دقيقة أو دعم مجتمعي. وهنا تُسهم الابتكارات الرقمية، مثل الرصد اللحظي والبلوك تشين، في تعزيز الشفافية وتطبيق السياسات بفعالية.

لذا، فإن السياسات البيئية الفعالة لا بد أن تستند إلى بيانات علمية موثوقة، حيث تُسهم المعلومات في رفع الوعي العام وصياغة استجابات مناسبة للسياقات المحلية. كما أن بناء بنية تحتية قوية للبيانات، بدعم من مؤسسات شفافة وخاضعة للمساءلة، يعد أساساً لتطوير سياسات قابلة للتكيف. ورغم غياب اليقين الكامل حول حدود الأنظمة البيئية، فإن الالتزام بالإرشادات العلمية يظل أقل كلفة بكثير من مواجهة آثار الانهيار البيئي.

التنسيق:

تحقق السياسات أفضل النتائج عندما تتكامل فيما بينها. ويمكن لاتباع نهج قائم على الأنظمة أن يُوائم الجهود بين القطاعات المختلفة، مما يُسهم في تفادي العواقب غير المقصودة، مثل خفض التلوث في منطقة على حساب زيادته في منطقة أخرى، والمساعدة في إحداث التوازن بين الكفاءة والإنصاف.
وباختصار، يضمن النهج المنظومي أن تكون السياسات أكثر فاعلية وتكاملاً، بحيث تعزز بعضها بعضاً وتحقق توازناً بين الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

ومع ذلك، لا يكفي أن تكون الإصلاحات مصممة بشكل جيد فحسب، بل يجب أيضاً أن تكون قابلة للتنفيذ سياسياً. ويتطلب ذلك تحليلاً عميقاً لمصالح الأطراف المعنية، وديناميكيات السلطة، والهياكل المؤسسية، لضمان صياغة سياسات عملية وفعالة على أرض الواقع.

التقييم:

 تُعتبر عملية التقييم ضرورية للسياسات التكيفية في عالم متغير. في ظل حقبة من عدم اليقين الاقتصادي، والتقلبات الجيوسياسية، والتغير التكنولوجي السريع، تصبح التصاميم السياسية الثابتة عبئًا. فقد ينجح ما يعمل اليوم ويفشل غدًا، والعكس صحيح. يوفر التقييم الأدلة والتغذية الراجعة اللازمة لإعادة ضبط البرامج مع تطور الظروف. من خلال التعلم الفوري والتحليل بعد التنفيذ، يساعد التقييم في تحديد ما ينجح، ولمن، وتحت أي ظروف. كما يضمن التقييم التعرف على المبادرات الناجحة وتوسيع نطاقها، خاصة في المجالات السياسية المعقدة التي قد تحتاج وقتًا لظهور نتائجها. ولا تُعد التقييمات الدقيقة ترفًا، بل هي شكل من أشكال الذاكرة المؤسسية التي تجعل السياسات أكثر ذكاءً ومرونة ومساءلة مع مرور الوقت.

الاستدامة أساس الازدهار

وبحسب البنك الدولي، إنّ ثروة الطبيعة ليست قيدًا، بل هي أساس الرخاء المستدام على المدى الطويل. ولذلك، فإن حماية النظم البيئية لا تضمن فقط استقرار الكوكب، بل تعزز أيضًا تنافسية ومرونة الاقتصادات المحلية. وللاستفادة من هذه الفرصة، لا بد من مواءمة الحوافز الاقتصادية مع مبادئ الإدارة البيئية، بما يضمن أن يسهم النمو في تعزيز رأس المال الطبيعي بدلاً من الإضرار به. البلدان التي تستثمر في مزاياها النسبية في الإنتاج الأخضر، وتعزز الاقتصاد الدائري، وتطور صناعات تنمو ضمن الحدود البيئية، ستكون الأكثر ازدهارًا. ومن خلال مدن مستدامة وصناعات نظيفة واقتصاديات موارد مُدارة بشكل جيد، يتضح الطريق بجلاء: يجب أن تتناغم التحولات الاقتصادية مع الطبيعة، لا أن تتعارض معها.