جبران الخوري*
المؤتمر الصحافي الأخير للوزير كمال شحادة الذي شدد فيه على"أهمية إقرار قانون إنشاء وزارة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي" يثير أكثر من سؤال حول ماهية الوزارة وطبيعة أولوياتها الحقيقية. في تصريحه الرسمي تطرق الى المهام الاساسية للوزارة العتيدة مشددًا انها تشمل «إعداد استراتيجية وطنية للتحول الرقمي، وضع أطر تشريعية متقدمة، تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تطوير منصة موحدة للخدمات الحكومية، ودعم الأمن السيبراني وحماية البيانات الشخصية»، وذكر أيضاً أن الوزارة ستكون «منصة لتكامل الجهود الوطنية وتمثيل لبنان في المبادرات الدولية الخاصة بالتكنولوجيا الأخلاقية والذكاء الاصطناعي المسؤول». هذه الصياغة، وإن بدت متماسكة على مستوى إدارة التحول الرقمي، لا تقارب بالضرورة طموح دولة تسعى لأن تكون رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، فالمضمون أقرب إلى ملف الحكومة الرقمية منه إلى خلق منظومة بحثية وصناعية متكاملة حول تقنيات الذكاء الاصطناعي.
لماذا هذا الفرق مهم؟ الاختلاف بين «وزارة تحول رقمي» و«وزارة ذكاء اصطناعي» ليس مسألة أسماء فقط، بل يتعلق بتحديد الميزانيات وطبيعة الشراكات والموارد البشرية والبنى التحتية المطلوبة. الإمارات العربية المتحدة مثلًا هي من الدول المعدودة التي خصصت وزارة للذكاء الاصطناعي، وهي تتخذ مساراً إنتاجياً وصناعياً للذكاء الاصطناعي، لا تكتفي بوضع منصة حكومية بل تبني منظومة متكاملة تضم سياسات صناعية، وحوافز استثمارية، ومختبرات ومعاهد وطنية، ومبادرات لرفع مهارات القوى العاملة بهدف إنتاج حلول تُصدَّر وتنافس على مستوى إقليمي وعالمي. الامارات تُنَظّم مؤشرات أداء واضحة لاستقطاب شركات ومراكز بيانات واستثمارات في البنية التحتية التي تدعم تدريب ونشر النماذج الكبيرة. مثل هذه الاستراتيجية تتطلب قرارات صناعية وسياسات تصدير واستثمار تتجاوز نطاق الخدمات الحكومية.
من الناحية البحثية والحكومية، تتخذ كندا، وهي خصصت مؤخرًا وزارة للذكاء الاصطناعي، نهجاً مختلفاً متوازن الأبعاد يقوم على دعم قوي للأبحاث الأكاديمية ومراكز التميّز، وآليات تمويل طويلة الأمد، وأطر حكم وممارسات تشغيلية لاستخدام الخوارزميات داخل القطاع العام، مثل أدوات تقييم الأثر الخوارزمي التي تُلزِم الجهات العامة بتقدير مخاطر الأنظمة الآلية قبل نشرها. كندا تضع سقفاً واضحاً يجمع بين حماية المواطن وتعزيز البحث والابتكار، بما يتيح لها الحفاظ على مكانة في المشهد البحثي العالمي دون الاقتصار على استهلاك الحلول الجاهزة. هذا المزيج يمنحها قدرة على التأثير في قواعد اللعبة التقنية أخلاقياً وتجريبياً.
بالمقارنة، ما طرحته تصريحات الوزير شحادة تشير بقوة إلى نموذج يركز على الاستهلاك الحكومي للتحول الرقمي وتحسين الخدمات، وهو نهج مشروع ومطلوب خصوصاً في دول تواجه تحديات إدارية وبنية تحتية متواضعة. لكن إذا كان الهدف المعلن أو الضمني هو تأسيس «وزارة ذكاء اصطناعي» ذات قدرة صناعية أو بحثية أو دور قيادي إقليمي أو حتى دور ريادي محلي، فهناك فجوة واضحة بين المهام المعلنة والوظائف التي ينبغي أن تتولاها وزارة بهذا الاسم. التركيز على الأمن السيبراني، وحماية البيانات، وتوحيد الخدمات الحكومية مهم وحيوي، لكنه لا يكفي لتأسيس منظومة وطنية للذكاء الاصطناعي تقوم على البحث والإنتاج والابتكار.
لكي تتحول الوزارة من مُزوِّد خدمات رقمية إلى قوة فاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي، لا بد من تبني حزمة من المبادرات المتزامنة تقوم على إنشاء معهد أو مختبر وطني يربط الجامعات المحلية بالمغتربين والمراكز العالمية ليصبح بؤرة للأبحاث التطبيقية والأساسية، وتخصيص ميزانيات ثابتة للبحث والمنح عقب الدكتوراه لجذب وكبح هجرة العقول. إلى جانب ذلك يجب بناء برامج تدريب متدرجة تبدأ من مهارات تقنية أساسية وصولاً إلى برامج دكتوراه، وإقامة شراكات مع مراكز عالمية معروفة كنماذج للاستفادة وخفض تكاليف التعلم وإعادة الاختراع. كما يتطلب الأمر حوافز استثمارية لاستقطاب مراكز بيانات وبنى حوسبة عالية الأداء، مع سياسات تحفظ السيادة الرقمية وخصوصية المواطنين.
في الحقل التشريعي والحوكمة ينبغي أن تتجاوز الأطر العامة لحماية البيانات إلى قوانين وممارسات مخصّصة لمسؤولية الخوارزميات، وآليات تقييم الأثر، ومعايير شفافية واجبة التطبيق على القرارات الآلية المستخدمة في الخدمات العامة. تجارب البلدان المتقدمة، وهي لا تخصص وزارة للذكاء الاصطناعي، تؤكد أن وجود أدوات عملية لتقييم تأثير الأنظمة الآلية يحد من مخاطر التمييز ويعزز ثقة الجمهور عند نشر أنظمة التعلم الآلي في قطاعات مثل الصحة والعدل والمالية. علاوة على ذلك، يجب أن تتبنى الوزارة نهجاً مالياً لدعم الشركات الناشئة التقنية عبر صناديق مخاطرة وحاضنات متخصصة لتغذية نظام بيئي قادر على خلق منتجات قابلة للتصدير.
بصيغة عملية يمكن للوزارة أن تبدأ خلال الأشهر الاثني عشر الأولى بتنفيذ خطوات متزامنة ومحددة الأثر من إطلاق مجلس استشاري يضم أكاديميين وخبراء وصناعيين وممثلين عن المجتمع المدني، الى إطلاق منحة تأسيسية للمختبر الوطني وتوقيع شراكات مع جامعات ومراكز بحثية خارجية، كما إطلاق ثلاث مشاريع تجريبية حكومية في قطاعات واضحة الأثر مثل الصحة والتعليم والطاقة لتقييم جدوى حلول الذكاء الاصطناعي وقياس أدائها بشفافية. موازنة هذه الخطوات ببرنامج جذب للمغتربين لبناء كوادر محلية، ومسودة تشريع خاص بتقييم الأثر الخوارزمي سيضعان البنيان الأساسي لسياسة أكثر طموحاً. كما ينبغي فتح قنوات دبلوماسية تقنية لتوقيع اتفاقيات تعاون بحثي واستثماري بدلاً من الاقتصار على التمثيل البروتوكولي في المؤتمرات.
النقطة الجوهرية في نهاية المطاف أن تسمية «وزارة الذكاء الاصطناعي» تحمل معها توقعات تتجاوز إدارة المنصات الحكومية. إن كانت النية للمسؤولين مركزة على تحسين الخدمات وحماية البيانات، فالأسم قد يربك الجمهور والخبراء ويخلق توقعات غير قابلة للتحقق دون موارد وسياسات واضحة. أما إن كانت النية إقامة قاعدة بحثية وصناعية فعلية، فالمطلوب هو ترجمة الاسم إلى ميزانية مستهدفة، وبنى تحتية بحثية، وبرامج تدريب، وحوافز استثمارية تضع لبنان في مسار لا يكتفي بالاستهلاك بل ينتج ويبتكر. القرار هنا ليس مجرد خيار إداري أو تسمية "برستيج"، إنه تحديد لمكان لبنان في سلاسل القيمة الرقمية الإقليمية والعالمية.
*خبير في إدارة الاتصالات