رياض سلامة
بين الحرية المشروطة
والخريطة القضائية المعقّدة

27.08.2025
رياض سلامة
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

قرار إخلاء سبيل الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة شكّل محطة بارزة في واحدة من أكثر القضايا القضائية والسياسية حساسية في لبنان خلال السنوات الأخيرة. فبعد عام كامل من التوقيف الاحتياطي، خرج سلامة من السجن بكفالة مالية اعتُبرت الأعلى في تاريخ القضاء اللبناني، بلغت نحو عشرين مليون دولار وخمسة مليارات ليرة لبنانية، مع منعه من السفر لمدة عام كامل. لكن هذه الحرية المؤقتة لا تعني انتهاء القضية، بل تفتح الباب على مسار قضائي طويل تتداخل فيه ساحات بيروت مع عواصم أوروبية عدة.

أبعاد قرار إخلاء السبيل

قرار قاضي التحقيق بالإفراج عن سلامة لم يكن تسوية سياسية أو تراجعًا عن التهم، بل نتيجة مباشرة لانتهاء المدة القانونية القصوى للتوقيف الاحتياطي في مثل هذه القضايا، أي سنة كاملة. وبذلك، لم يعد جائزًا إبقاؤه موقوفا من دون حكم نهائي. هذا التطور وضع القضاء اللبناني أمام تحدٍ مزدوج: من جهة، التمسك بمسار المحاكمة كاستحقاق قانوني وواجب أمام الرأي العام والعالم، ومن جهة أخرى مواجهة الانتقادات التي رأت في حجم الكفالة وموانع السفر إشارة إلى أن الملف لم يُغلق بعد.

خريطة الطريق القانونية في لبنان

المسار القضائي الداخلي بات واضحًا:

  • أولًا، إحالة الملف إلى محكمة الجنايات في بيروت بعد أن سبق وصدرت بحقه قرارات اتهامية تشمل تهم اختلاس أموال عامة، الإثراء غير المشروع، والتزوير.
  • ثانيًا، تبدأ المحكمة جلساتها باستجواب سلامة وسماع الشهود والخبراء الماليين، مع احتمال إطالة المرافعات نظرًا لتشعّب القضية.
  • ثالثًا، في حال صدور حكم أولي، يبقى الباب مفتوحًا أمام الطعن أمام محكمة التمييز، ما يعني أن الطريق نحو حكم نهائي قد يستغرق سنوات.
    خلال هذه الفترة، يبقى سلامة ملتزمًا بشروط الإفراج، وأي إخلال بها قد يعرّضه لتوقيف جديد.

المواجهة القضائية في الخارج

إذا كان لبنان هو الساحة الأولى، فإن سلامة يواجه في أوروبا تحديات أشد تعقيدًا.

  • فرنسا: لا تزال مذكرة التوقيف الصادرة بحقه قائمة بتهم تتعلق بغسل الأموال والإثراء غير المشروع عبر شركات مرتبطة به وبشقيقه.
  • ألمانيا: رغم إسقاط مذكرة التوقيف في منتصف 2024 لأسباب إجرائية، إلا أن التحقيقات المالية ما زالت مستمرة.
  • سويسرا: تلاحقه شبهات بتحويلات غير قانونية تجاوزت 300 مليون دولار عبر شركات واجهة وحسابات مصرفية.
  • لوكسمبورغ ودول أوروبية أخرى: أصدرت قرارات بتجميد أصول وأموال تعود له  ولمقربين منه.

إلى جانب هذه المسارات القضائية، يخضع سلامة لعقوبات مالية ودبلوماسية فرضتها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، ما يزيد من تضييق الخناق عليه دوليًا حتى في حال تمكن من إثبات براءته في الداخل اللبناني.

سلامة بين كبش المحرقة والمساءلة الفعلية

يرى كثيرون أن حصر المسؤولية في شخص رياض سلامة وتقديمه إلى القضاء بتهم اختلاس وغسل أموال يعطي انطباعًا أنه وحده من يتحمل مسؤولية الانهيار النقدي والمالي والمصرفي غير المسبوق في تاريخ لبنان. هذا الطرح يعتبره البعض محاولة لتقديمه "كبش محرقة"  للطبقة السياسية التي كانت بقراراتها المالية والإدارية وممارساتها على مدى عقود الصانع الرئيس لهذ الأزمة غير المسبوقة في تاريخ لبنان. من هنا يطرح سؤال جوهري: هل المحاكمة ستؤدي فعلًا إلى كشف شبكة المسؤوليات التي تشمل سياسيين وحكومات ومجالس نيابية متعاقبة، أم ستبقى محصورة في شخص الحاكم السابق للمصرف المركزي؟

انعكاسات على صورة القضاء وثقة الخارج

تتجاوز قضية سلامة بعدها الشخصي لتصبح اختبارًا لمصداقية القضاء اللبناني. فإذا ما بدت الإجراءات شكلية أو موجّهة سياسيًا، فإن ذلك سيزيد من اهتزاز ثقة الداخل والخارج بالقطاع القضائي والمالي معًا. أما إذا مضت المحاكمة بشفافية وبإجراءات قانونية متينة، فقد تشكّل سابقة تؤسس لنقلة نوعية في آليات المحاسبة. وفي الحالتين، يتابع المجتمع الدولي عن كثب هذه القضية لما لها من أثر مباشر على مستقبل الإصلاحات الاقتصادية والمالية في لبنان وعلى قدرة البلاد على إعادة بناء علاقاتها مع المانحين والمؤسسات الدولية وعلى استعادة بعض من المصداقية مع المودعين الذي لحقت بهم خسائر كبيرة من تقييد ودائعهم لدى المصارف منذ اواخر عام 2019.

 قرار إخلاء سبيل رياض سلامة لا يُعد نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة في صراع طويل بينه وبين القضاء في لبنان والخارج. الخريطة القانونية تشير إلى أنّ العام المقبل سيكون حاسمًا على صعيد بدء جلسات المحاكمة في بيروت، فيما تتقدّم المسارات الأوروبية بشكل مستقل. وبين حرية مشروطة محليًا وضغوط وملاحقات دولية، يبقى سلامة أحد أبرز الوجوه التي تختصر تداخل السياسة بالمال وبالقضاء في لبنان، وقضيته مرشحة لأن تكون نموذجًا لمحاسبة غير مسبوقة، أو ربما لتكريس صورة عن عدالة انتقائية تسعى لتخفيف الضغط عن الطبقة السياسية.