د. سوليكا علاء الدين
لطالما شكّلت تحويلات المغتربين اللبنانيين المالية شريانًا حيويًا للاقتصاد الوطني، إذ وفّرت موردًا ثابتًا للعملة الصعبة، وأسّست دعامة رئيسية للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فمنذ أن عصفت الأزمات بلبنان في خريف عام 2019، ومع انهيار النظام المالي وتراجع الثقة في القطاع المصرفي، لم يبقَ للبلاد متنفّس حقيقي سوى ما يرسله أبناؤها المنتشرون حول العالم من أموال، والتي باتت تُشكّل طوق نجاة لمجتمع واقتصاد يبحثان عن الحدّ الأدنى من مقوّمات الصمود.
فلبنان، وفق بيانات البنك الدولي، يتلقّى سنويًا نحو 6 مليارات دولار من التحويلات عبر القنوات الرسمية. وفي السياق نفسه، أفاد مصرف لبنان بأن قيمة التحويلات المالية بلغت نحو 6.9 مليارات دولار في عام 2024، ما يعكس أهميتها البالغة في بيئة تعاني من شحّ حاد في السيولة وركود اقتصادي مزمن، ويعزّز مكانتها كمصدر ثابت للنقد الأجنبي في ظل غياب أيّ مصادر بديلة.
وفي تأكيد إضافي على هذا الدور المحوري، أشارت بيانات صادرة عن الأمم المتحدة لعام 2022 إلى أن تحويلات المغتربين اللبنانيين شكّلت نحو 37.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويُبرز هذا الرقم التأثير الذي تُحدثه هذه التحويلات في إبقاء الاقتصاد اللبناني على قيد الحياة، ومساهمتها في الحفاظ على توازنه النسبي، رغم تعدّد أوجه أزماته وتفاقمها.
دور متصاعد وسط أزمة ممتدة
في هذا السياق، يشير تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، بعنوان "الدور المتزايد للتحويلات النقدية وأهميتها في لبنان"، إلى أنّ التحويلات المالية باتت تمثّل العصب الحيوي للاقتصاد الوطني، ولا سيما في ظلّ التراجع الحاد الذي شهده الناتج المحلي منذ تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد. فقد خسر لبنان ما يزيد على نصف ناتجه المحلي الإجمالي بحلول عام 2021 نتيجة الانهيار الحاد في مختلف القطاعات، ما جعل التحويلات النقدية من بين المصادر القليلة المتبقية لدعم الاستقرار الاقتصادي. وقد حلّ لبنان في المرتبة الثالثة إقليميًا من حيث حجم التحويلات المستلمة، متقدّمًا على معظم دول المنطقة، ولا يتجاوزه في هذا المجال سوى كل من المغرب ومصر.
ورغم تعدّد الأزمات، بما فيها جائحة كوفيد-19، أظهرت التحويلات المالية إلى لبنان قدرًا كبيرًا من الثبات، إذ بقيت مستقرة نسبيًا خلال العقد الماضي، وتراوحت بين 6 و7 مليارات دولار أميركي سنويًا بين عامي 2011 و2021، بمتوسط قدره 6.5 مليارات دولار سنويًا. ولم تشهد هذه التدفقات تقلبات كبيرة حتى في أصعب فترات الانهيار النقدي، الأمر الذي يدل على تصاعد اعتماد الاقتصاد اللبناني عليها.
ويبرز البعد الاستراتيجي للتحويلات بشكل أوضح عند النظر إلى حصتها من تدفقات الحساب الجاري. فوفقًا لبيانات مصرف لبنان، شكّلت التحويلات نحو 23 في المئة من إجمالي تدفقات الحساب الجاري بين عامي 2011 و2021. وقد ارتفعت هذه الحصة إلى 35 في المئة في عام 2020 بفعل الانكماش الاقتصادي وتراجع تدفقات العملات الأجنبية الأخرى، قبل أن تعود وتنخفض قليلًا إلى 33 في المئة في 2021.
هذا وتُظهر البيانات أن التحويلات تأتي من شريحة واسعة من الانتشار اللبناني حول العالم، إلا أن دول مجلس التعاون الخليجي تبقى المصدر الرئيسي، إذ تمثل نحو 48 في المئة من إجمالي التحويلات إلى لبنان. تليها أميركا الشمالية بنسبة 16 في المئة، ثم أوروبا الغربية وأفريقيا بنسبة 14 في المئة لكل منهما، في حين تشكل أستراليا وأميركا اللاتينية 3 في المئة لكل منهما، وتسجّل أوروبا الشرقية نسبة 2 في المئة.
أما من حيث الدول المرسِلة، فتشير تقديرات مصرف لبنان إلى أن نحو 64 في المئة من إجمالي التحويلات في عام 2020 جاءت من الولايات المتحدة، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وأستراليا، والكويت. وعلى الرغم من ندرة البيانات المتعلقة بجنسيات أصحاب الودائع غير المقيمين، إلا أنه يُرجّح أن تتشابه تركيبة هؤلاء مع أصول المغتربين اللبنانيين الذين يرسلون التحويلات.
6.9 مليار دولار تحويلات المغتربين
شهدت الأرقام المتعلقة بتحويلات المغتربين إلى لبنان في عام 2024 تفاوتًا بسيطًا بين المصادر المحلية والدولية، بحيث يبرز مصرف لبنان المصدر الرسمي لتتبع حركة هذه التحويلات. وفقًا لبيانات المصرف، بلغت تدفقات تحويلات المغتربين 6.9 مليارات دولار، مسجلة زيادة بنسبة 5.8 في المئة مقارنة بـ 6.5 مليارات دولار في عام 2023. توزعت التحويلات الواردة على الأرباع الأربعة من عام 2024 كما يلي: 1.73 مليار دولار في الربع الأول، و1.17 مليار دولار في الربع الثاني، و1.7 مليار دولار في الربع الثالث، و1.74 مليار دولار في الربع الرابع، مع نسب زيادة تراوحت بين 3.5 في المئة و8.7 في المئة مقارنة بالفترات نفسها من عام 2023.
وتمثل هذه التحويلات ما يعادل 24.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024، مقارنة بـ 27.6 في المئة في 2023، وتشمل تحويلات العمال وتعويضات الموظفين وفقًا لتعريف البنك الدولي، مع الإشارة إلى أن تحويلات العمال شكّلت 98 في المئة من الإجمالي. وتُعد بيانات مصرف لبنان المصدر الرسمي الوحيد لتتبع حركة التحويلات المالية، حيث توزعت قنوات التحويل في 2024 كالتالي: 4.5 مليارات دولار (65.2 في المئة) تم استلامها نقدًا، تلتها شركات تحويل الأموال بـ 4.9 مليارات دولار (27.5 في المئة)، ثم التحويلات المصرفية بـ 500 مليون دولار أي ما يعادل 7.3 في المئة.
يُذكر أن تدفقات التحويلات الواردة في 2024 بلغت أعلى مستوى لها منذ عام 2019، وبلغ متوسط هذه التحويلات 6.43 مليارات دولار خلال الفترة من 2002 إلى 2024، مقابل متوسط 4.8 مليارات دولار بين 2002 و2007، و7 مليارات دولار بين 2008 و2024.
في المقابل، بلغت قيمة التحويلات الخارجة من لبنان 1.79 مليار دولار في عام 2024، وهو مستوى قريب من 1.78 مليار دولار في 2023. وتوزعت التحويلات الخارجة على الأرباع الأربعة بزيادات طفيفة في الربع الأول (3.2 في المئة)، والربع الثاني (0.1 في المئة)، والربع الثالث (0.5 في المئة)، وانخفاض في الربع الرابع بنسبة 1.1 في المئة مقارنة بنفس الفترات من 2023. وبلغت نسبة التحويلات الخارجة 6.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، مقابل 7.5 في المئة في 2023، مع تركيز التحويلات النقدية على 1.4 مليار دولار (77.8 في المئة)، وشركات تحويل الأموال على 400 مليون دولار (22.2 في المئة).
وتُعد التحويلات الخارجة في 2024 الأعلى منذ عام 2021، حين بلغت 1.93 مليار دولار، بينما بلغ متوسطها 3.56 مليارات دولار خلال الفترة من 2002 إلى 2024، متقاربة مع متوسط 3.54 مليارات دولار بين 2002 و2007، و3.57 مليارات دولار بين 2008 و2024.
وبناءً عليه، بلغ صافي التحويلات الواردة إلى لبنان 5.1 مليارات دولار في 2024، مسجلاً زيادة بنسبة 7.7 في المئة مقارنة بـ 4.73 مليارات دولار في 2023، وهو الأعلى منذ عام 2002. وبلغ متوسط صافي التحويلات خلال الفترة بين 2002 و2024 نحو 2.72 مليار دولار، مقابل 1.25 مليار دولار بين 2002 و2007، و3.23 مليارات دولار بين 2008 و2024. كما شكّل صافي التحويلات ما يعادل 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، مقارنة بـ 20 في المئة في 2023.
2024: تراجع نسبي وسط اتجاه عالمي تصاعدي
في المقابل، أظهرت بيانات البنك الدولي أن تحويلات المغتربين إلى لبنان بلغت 5.8 مليارات دولار في عام 2024، مسجّلة تراجعًا بنسبة 13.4 في المئة مقارنة بعام 2023، الذي بلغت فيه التحويلات 6.7 مليارات دولار، بعدما كانت قد سجلت ارتفاعًا نسبته 4.1 في المئة في عام 2022. كما انخفضت نسبة هذه التحويلات من الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 25.5 في المئة في عام 2024، مقارنة بـ 33 في المئة في عام 2023 و31 في المئة في عام 2022.
ورغم التراجع الأخير، فقد بلغ متوسط تحويلات المغتربين إلى لبنان نحو 6.38 مليارات دولار سنويًا خلال الفترة الممتدة من 2020 إلى 2024. وقد سبق أن سجّل لبنان أعلى مستوى لتحويلاته في عام 2016 بقيمة 7.6 مليارات دولار، بينما كان أدنى مستوى خلال العقدين الأخيرين في عام 2005 عند 4.9 مليارات دولار.
وعلى مستوى التصنيف الدولي، احتل لبنان المرتبة 37 عالميًا في قائمة أكبر الوجهات لتحويلات المغتربين، والمرتبة 25 بين الاقتصادات النامية، و14 ضمن الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى في عام 2024. وعلى صعيد المنطقة العربية، جاء لبنان في المرتبة الثالثة من حيث حجم التحويلات بعد كل من مصر (22.7 مليار دولار) والمغرب (12 مليار دولار)، متقدمًا على دول مثل الأردن (4.78 مليار دولار) والسودان والجزائر.
لبنان بين المنافسين
وبحسب البيانات عينها، تفوّق لبنان من حيث قيمة التحويلات المستلمة على دول مثل نيكاراغوا (5.1 مليار دولار)، كينيا (4.8 مليار دولار)، والأردن (4.78 مليار دولار). لكنه حلّ خلف دول مثل الإكوادور (5.9 مليار دولار)، طاجيكستان (5.88 مليار دولار)، وصربيا (5.84 مليار دولار)، وكلها دول من الاقتصادات النامية ذات الدخل المتوسط.
كما تراجعت حصة لبنان من تحويلات المغتربين على المستوى العالمي لتبلغ 0.64 في المئة من الإجمالي العالمي في عام 2024، مقارنة بـ 0.77 في المئة في عام 2023. بدورها، شكّلت التحويلات إلى لبنان 0.85 في المئة من مجمل التحويلات إلى الدول النامية، و9.4 في المئة من إجمالي التحويلات إلى الدول العربية في 2024، انخفاضًا من 11.5 في المئة في العام السابق. أما على مستوى الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى، فاستحوذ لبنان على 0.85 في المئة من التحويلات، مقارنة بـ 1.03 في المئة في 2023.
وعند مقارنتها بالناتج المحلي الإجمالي، قدّر البنك الدولي أن تحويلات المغتربين إلى لبنان شكّلت نحو 17.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، استنادًا إلى تقدير الناتج المحلي بنحو 32.8 مليار دولار وفق بيانات المعهد الدولي للتمويل، وهي نسبة تُعد من بين الأعلى عالميًا، إذ احتل لبنان المرتبة السابعة عشرة عالميًا من حيث مساهمة التحويلات في الناتج المحلي. ويبرز المسار التاريخي لهذه النسبة مدى الدور االفعال الذي تؤديه التحويلات في دعم الاقتصاد اللبناني، حيث سجّلت التحويلات نسبًا مرتفعة على مدى السنوات الأخيرة، بلغت 13.8 في المئة في 2019، ثم ارتفعت إلى 26.4 في المئة في 2020، وبلغت ذروتها عند 32.1 في المئة في 2021، قبل أن تتراجع إلى 25.8 في المئة في 2022، ثم 27.6 في المئة في 2023، لتنخفض أخيرًا إلى 17.7 في المئة في 2024.
على الجانب الآخر، قُدّرت تحويلات الأموال الصادرة من لبنان (باستثناء الضفة الغربية وقطاع غزة) بـ 57.7 مليار دولار في 2024، مقارنة بـ 55.2 مليار دولار في 2023، أي ما يمثل 1.65 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي، مقارنة بـ 1.63 في المئة في العام السابق، وهو مؤشر على بقاء حركة رؤوس الأموال الخارجة نشطة رغم الأزمات الداخلية.
تكاليف مرتفعة وتحديات متزايدة
تشير بيانات البنك الدولي إلى انخفاض نسبي في تحويلات المغتربين إلى لبنان خلال عام 2024، مما يعكس تحديات متراكمة تواجه الاقتصاد اللبناني، على رأسها الكلفة المرتفعة لتحويل الأموال والغموض المستمر في الوضع المالي للبلاد. ويبرز تقرير البنك للفصل الرابع من عام 2024 أن تكلفة إرسال الأموال إلى لبنان من عدة دول تعد من بين الأعلى عالميًا، رغم بعض التقلّبات الطفيفة في هذه التكاليف.
فعلى سبيل المثال، بلغت كلفة إرسال 500 دولار من الولايات المتحدة 5.93 في المئة، مسجلة انخفاضًا طفيفًا مقارنة بالفصل السابق وارتفاعًا بسيطًا مقارنة بالعام الماضي، مما يجعل لبنان يحتل المرتبة السادسة بين 42 وجهة من حيث التكلفة. أما من كندا، فقد ارتفعت الكلفة إلى 7.77 في المئة، ما يجعل لبنان ثاني أعلى وجهة تكلفة بين 15 دولة. ومن أستراليا، شهدت الكلفة تراجعًا إلى 6.11 في المئة، لكن لبنان بقي في المرتبة الثانية من بين 16 دولة، بينما انخفضت كلفة إرسال 345 يورو من فرنسا إلى 5.85 في المئة، مما وضع لبنان في المرتبة الثالثة بين 16 وجهة. وفي المملكة المتحدة، تراجعت كلفة إرسال 300 جنيه إسترليني إلى 4.51 في المئة، لكنها ظلت ضمن أعلى التكاليف في المرتبة السادسة بين 33 وجهة.
وعلى النقيض، استقرت كلفة التحويلات من ألمانيا عند 6.66 في المئة لإرسال 345 يورو، مما صنّف لبنان في المرتبة الرابعة بين 24 وجهة، في حين انخفضت الكلفة من السعودية إلى 3.41 في المئة لإرسال 500 دولار، مع احتفاظ لبنان بالمركز الثامن بين 17 دولة.
ومن الجدير بالذكر أن هذه التكاليف المرتفعة لا تقف بمعزل عن السياق السياسي والمالي الأوسع؛ إذ ترتبط بشكل مباشر بتداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) في تشرين الأول/أكتوبر 2024. فقد أضاف هذا الإدراج طبقة جديدة من التعقيدات التي أثرت على الاقتصاد الوطني بشكل مباشر، وخلّف تبعات عدة، كان أبرزها التأثير السلبي على حركة التحويلات المالية. وبالتالي، تواجه هذه التحويلات صعوبات متزايدة جراء تشديد إجراءات المراقبة والتدقيق، وهو ما جاء بالرغم من الجهود التي بذلها مصرف لبنان محليًا للحد من انعكاسات هذا القرار واحتواء أضراره.
مصدر دعم اقتصادي واجتماعي
لم تكن تحويلات المغتربين إلى لبنان مجرد تدفقات نقدية عابرة، بل مثّلت لعقود طويلة دعامة أساسية للأمن الاقتصادي والاجتماعي، خاصة بعد تفاقم الأزمات النقدية منذ عام 2019. ففي ظل تدهور سعر صرف الليرة وتآكل القدرة الشرائية، إلى جانب شح العملات الأجنبية في السوق، أصبحت هذه التحويلات ملاذًا حيويًا لعشرات الآلاف من الأسر لتلبية احتياجاتها المعيشية الأساسية مثل الغذاء، الدواء، السكن، والتعليم. أما على المستوى الاقتصادي الأوسع، فقد لعبت التحويلات دورًا حاسمًا في تأمين النقد الأجنبي الضروري لبلد يعتمد بشدة على الاستيراد، لاسيما في ظل تراجع احتياطيات مصرف لبنان من العملات الصعبة. وقد ساهمت هذه التدفقات، في غياب مصادر تمويل بديلة كافية من الخارج، في الحدّ من حدة الانكماش الاقتصادي، وأسهمت في إرساء توازن نسبي مكّن الاقتصاد اللبناني من فرملة عجلة الانهيار الشامل.
ويؤكد تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أهمية هذه التحويلات خلال العقد الذي سبق الأزمة الاقتصادية، حيث كانت دعمًا رئيسيًا في غياب سياسات اجتماعية شاملة وعجز الدولة عن توفير شبكات أمان فعالة. فقد شكلت التحويلات مصدرًا رئيسيًا لتلبية الاحتياجات الأساسية، وأسهمت بشكل ملموس في تمويل نحو نصف فاتورة الواردات التي بلغت 207 مليارات دولار بين 2011 و2021، كما مثلت 23 في المئة من إجمالي العملات الأجنبية الواردة، مما ساعد في الحفاظ على مستويات الاستهلاك والاستيراد الضرورية لاستمرارية الاقتصاد.
على المستوى الاجتماعي، كشفت البيانات أن الأسر التي تعتمد على التحويلات تنفق على الرعاية الصحية بنسبة أعلى (7 في المئة من إنفاقها السنوي مقابل 4 في المئة للأسر غير المستفيدة)، ويُعد ثلث هذه الأسر أن تكاليف الرعاية الصحية تمثّل العبء المالي الأكبر لديها (32 في المئة مقابل 20 في المئة). كما جاءت النفقات على الغذاء (29 في المئة)، والتعليم في (16 في المئة) المرتبتين الثانية والثالثة، مما يدل على اعتماد كبير على التحويلات لتأمين مستلزمات العيش الأساسية. وفيما يتعلق بالتعليم، مكّنت هذه التحويلات أطفال الأسر المستفيدة من الوصول إلى مستويات دراسية مماثلة لأبناء الأسر الأكثر ثراءً حتى عام 2007، وبيّنت الإحصاءات أن 41 في المئة من هذه الأسر تعتمد كليًا أو جزئيًا على التحويلات في تغطية تكاليف التعليم.
إلى جانب دورها الاجتماعي والاقتصادي، تؤدي التحويلات المالية من اللبنانيين في الخارج دورًا محوريًا في دعم الاستقرار النقدي في البلاد. فمنذ الانهيار شبه الكامل الذي أصاب النظام المصرفي عقب اندلاع الأزمة في خريف عام 2019، تحوّلت هذه التحويلات إلى أحد المصادر الأساسية لتأمين العملات الأجنبية، ما ساهم في الحد من تقلبات سعر الصرف والحدّ من الضغوط على الليرة اللبنانية.
وفي ظل تراجع الثقة بالقطاع المصرفي وتعذّر الوصول إلى مصادر التمويل الخارجي، أصبحت تحويلات المغتربين بمثابة صمام أمان يساهم في تقليص اختلالات ميزان المدفوعات، ويعزز قدرة الاقتصاد على مواجهة أزمات السيولة المتكررة.
مسكّن أم بديل؟
منذ عام 1975، يشهد لبنان موجات متتالية من الهجرة، وُصفت بـ “نزيف الأدمغة"، لما خلّفته من فقدان مستمر لرأس المال البشري والكفاءات الوطنية. وقد جاءت هذه الظاهرة نتيجة عوامل متداخلة، في مقدّمها الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية المتشابكة، التي دفعت آلاف اللبنانيين إلى البحث عن فرص أفضل خارج البلاد.
وعلى الرغم من تداعياتها المؤلمة، فقد أسهمت الهجرة اللبنانية في رفد الاقتصاد الوطني بتدفقات مالية كبيرة من الخارج، ساعدت في الحفاظ على قدرٍ من الاستقرار المالي والاجتماعي، في ظل الانهيارات المتكررة التي تعصف بالبلاد.
ومع تنامي الاعتماد على التحويلات المالية كمصدر دعم أساسي، تظل هذه التحويلات عاملًا فاعلًا في التخفيف من وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومصدرًا مهمًا للاستقرار المرحلي. غير أنّها، على الرغم من أهميتها الحيوية، لا تمثل حلًا دائمًا لجذور الأزمة البنيوية التي يعاني منها لبنان. فاستمرار غياب الإصلاحات الجذرية والشاملة، الكفيلة بإعادة بناء الاقتصاد وتعزيز الثقة بالمؤسسات، يُبقي البلاد في موقع هشّ، قائمٍ على تدفقات خارجية لا يمكن ضمان استمراريتها.
ومن هنا، تبرز الحاجة المُلحّة إلى تبنّي رؤية تنموية طويلة الأمد، تمكّن لبنان من الانتقال من مرحلة الصمود المؤقّت إلى مسار التعافي الحقيقي والازدهار المستدام.