د. سعد محسن ناجي*
في ظلّ سباقٍ عالميّ محموم نحو الرقمنة، غدت الإدارة الإلكترونية المدعومة بالذكاء الاصطناعي سِمةً بارزة في تحول المؤسسات الحديثة. غير أنّ ما تُبشّر به هذه التقنيات من كفاءة ودقّة وسرعة، لا يلغي جملةً من المخاطر والتحديات التي قد تُفضي، إذا أُسيء تدبيرها، إلى نتائج عكسيّة تُهدّد استدامة المنظمات الاقتصادية، ولا سيّما في الاقتصادات النامية كالعراق وبعض الدول العربية.
تشخيص الإخفاقات التي شهدتها مبادرات الحكومات الإلكترونية في المنطقة يُبيّن أنّ العائق الأكبر لم يكن شُحّ الموارد المالية، بل قصور بناء فرق عمل مُنظَّمة، تُتقن أحدث التقنيات وتُحسن إدارتها. هنا تبرز أهمية الإنسان والتعليم المستمرّ؛ فالتكنولوجيا، مهما بلغت، تظلّ قاصرة من دون رأس مال بشريّ مؤهَّل.
تُحدث مسارات التحول الرقمي شرخًا في البنى التقليدية حين تُطبَّق قفزًا لا تدرّجًا. وتُظهر بحوثٌ ميدانيّة أن تسريح الكفاءات دون إعادة تأهيلهم يخلق فجواتٍ تنفيذية خطيرة، تمامًا كما حدث مع سلسلة Borders Books، التي عجزت عن مجاراة النشر الإلكتروني، فانحسرت ثم اختفت من السوق عام 2011. وفي مثالٍ أحدث، ضخّت منصة Quibi قرابة 1.8 مليار دولار في خدمة فيديو قصيرة لم تلتمس احتياجات المستخدمين، فأُغلِقت بعد ستة أشهر فقط (كانون الثاني/ ديسمبر 2020). هذه التجارب تُذكّر بأن مواءمة الحل الرقمي مع سلوك السوق ركيزة لا غنى عنها.
اعتماد الذكاء الاصطناعي يكشف كذلك عن هشاشة المهارات الرقمية لدى الكوادر، خصوصًا في القطاع العام. ويوصي البنك الدولي بتبنّي مسارٍ تدريجيٍّ مقترن بإعادة تأهيل مستدام للموظفين لضمان نجاح التحول. أما غياب التكامل بين النظم التقليدية والرقمية، فيُترجم إلى تجارب مستخدم متضاربة وخسائر سوقية، كما في حالة شركة Sears العملاقة في تجارة التجزئة، التي أخفقت ثقافة الشركة وقدرة العاملين الفنية والعلمية في ربط متاجرها الفعلية بمنصتها الإلكترونية، مما اضطر الشركة اغلاق أبوابها عام 2018.
على الجانب الاقتصادي، تفرض المنصات الرقمية ضغطًا سعريًّا مباشرًا بفضل شفافية الأسعار؛ فإن لم تقدّم المؤسسة قيمةً مضافة واضحة، تتلاشى قدرتها التنافسية سريعًا. يُضاف إلى ذلك أن تأسيس بنى تحتية رقمية آمنة وعالية التوافر يُعدّ تكلفةً باهظة في الدول التي تفتقر إلى بيئة تكنولوجية راسخة.
أمّا التهديدات السيبرانية، فتزداد حدّةً مع التوسّع الرقمي. تشير تقارير أمنية لعام 2024 إلى ارتفاعٍ ملحوظ في الهجمات الموجّهة إلى الأنظمة الحكومية في الدول التي تسارعت فيها الرقمنة بلا حماية كافية. وتُعزى نقطة الضعف الرئيسة إلى قِلة الاستثمار في الأمن السيبراني، مقابل الاستثمار في واجهات المستخدم أو البنية السحابية.
إلى ذلك، يبقى الشمول الرقمي تحدّيًا جوهريًّا؛ إذ غالبًا ما تقتصر الاستفادة من الخدمات الرقمية على سكّان المدن أو الفئات الشابة، بينما يُهمَّش كبار السنّ وسكان المناطق الريفية، ما يفاقم الفجوة الرقمية والاجتماعية. وتؤكد Harvard Business Review أن مقاومة التغيير داخل المؤسسات- سواء من موظفين يَخشون فقدان وظائفهم أو من قيادات عليا لا تتبنّى التحول فعليًّ- تُمثّل سببًا رئيسًا لتعثر المشروعات الرقمية.
ختامًا، تُعدّ الإدارة الإلكترونية المرتكزة على الذكاء الاصطناعي رافعةً قوية لرفع الأداء وتحسين الشفافية- في العراق وفي سائر الاقتصادات النامية- لكنها ليست عصًا سحرية. فالنجاح يتطلب مقاربةً متوازنة تزاوج بين التقنية والإنسان، وبين الطموح والواقعية، عبر اعتماد نهج متكامل يقوم على الاستثمار المستمر في رأس المال البشري، وتبنّي قيادة عليا داعمة تضمن نجاح التغيير، مع ترسيخ حوكمة رقمية آمنة وعادلة، وضمان شمول رقمي منصف يصل إلى مختلف فئات المجتمع، بما يحقق تحولًا رقميًا فعّالًا ومستدامً..
بهذا النهج المتكامل، يمكن للدول النامية أن تجني ثمار التحول الرقمي دون أن تقع في فخّ مخاطره.
*خبير في الاقتصاد الرقمي
نائب رئيس وأمين سر مجلس الأعمال العراقي