بين نيران الحرب وغموض الأسواق
الذهب: مراوحة أم اتجاه جديد؟

03.07.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. سوليكا علاء الدين

عادة ما تُعتبر الحروب والاضطرابات الجيوسياسية من أبرز العوامل المحرّكة التي تدفع بأسعار الذهب للارتفاع، حيث يتجه المستثمرون إلى المعدن النفيس كملاذ آمن في ظل أجواء عدم الاستقرار والقلق العالمي المتصاعد. ومع اندلاع الحرب الإيرانية–الإسرائيلية، بدا من المتوقع أن يشهد الذهب ارتفاعًا ملحوظًا يعكس حالة التوتر الحادة في منطقة الشرق الأوسط.

غير أن الذهب فاجأ السوق بتراجع غير متوقع، رغم تصاعد التوترات وتصعيد الضربات الأميركية وردود الفعل الإيرانية، مما شكّل انحرافًا عن التوقعات السائدة. هذا الانخفاض المفاجئ أثار تساؤلات عديدة حول الأسباب التي حالت دون قدرة المعدن الأصفر على مواصلة الصعود وسط هذه الأزمة الجيوسياسية العميقة.

ومع إعلان وقف إطلاق النار، بدأ الذهب في استعادة بعض من قوته، إلا أنه لا يزال يتحرك ضمن نطاق متقلب بين موجات انخفاض وارتفاع، وهو ما يطرح تساؤلات حول مساره المستقبلي وقدرته على الحفاظ على استقراره في ظل استمرار حالة عدم اليقين التي تسيطر على الأسواق العالمية.

الذهب بين نار الحرب

في اليوم السابق لاندلاع الحرب، ارتقى الذهب إلى المرتبة الثانية بين الأصول الاحتياطية العالمية لدى البنوك المركزية، متجاوزًا اليورو، وذلك بفعل موجة شراء قياسية وارتفاع ملحوظ في الأسعار. وأظهرت بيانات صادرة عن البنك المركزي الأوروبي في ذلك اليوم أن الذهب شكّل 20 في المئة من إجمالي الاحتياطيات الرسمية العالمية لعام 2024، متقدمًا على اليورو الذي بلغت حصته 16 في المئة. فيما حافظ الدولار الأمريكي على المركز الأول بنسبة 46 في المئة.

وبينما كانت الأسواق تترقب تداعيات التصعيد الجيوسياسي، تصاعدت التوترات في الشرق الأوسط بشكل ملحوظ. ومع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن بدء إجلاء المواطنين الأميركيين من المنطقة، تعزّز الإقبال على الذهب باعتباره ملاذًا آمنًا، خصوصًا بعد صدور بيانات التضخم الأميركية التي دعمت توقعات توجه الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة. وقد انعكس ذلك على أداء الذهب، إذ ارتفع سعر التسليم الفوري بنسبة 0.65 في المئة، أي ما يعادل 21.81 دولارًا، ليصل إلى 3374.08 دولارًا للأونصة.

وتزامنًا مع بدء الضربات الإسرائيلية داخل إيران، تدفّق المستثمرون نحو المعدن الثمين، ما دفع أسعاره إلى الارتفاع الفوري. وسجّل الذهب عند إغلاق يوم الجمعة، 13 حزيران/يونيو، ارتفاعًا بنسبة 1.3 في المئة ليصل إلى 3428.10 دولارًا للأونصة، مقتربًا من أعلى مستوى قياسي له والبالغ 3500 دولار، والمسجَّل في نيسان/أبريل.

ترامب

ومع بداية الأسبوع الذي تخلّلته اجتماعات للبنوك المركزية حول العالم، بدأ الذهب يتأثر بعمليات جني الأرباح، فانخفض سعر التسليم الفوري بنسبة 0.3 في المئة، أي ما يعادل 10.86 دولار، ليصل إلى 3421.48 دولارًا للأونصة، وذلك بعد المكاسب التي حققها نتيجة تصاعد التوترات الجيوسياسية.

وقبيل انطلاق اجتماع السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، سجّل سعر التسليم الفوري للذهب مستوى 3395.14 دولارًا للأونصة. وفي ظل استمرار حالة التذبذب في الأسواق، جاء تقييم توقعات صناع السياسة النقدية بعد قرار تثبيت أسعار الفائدة للمرة الرابعة على التوالي، ليدفع الذهب إلى التراجع بنسبة 0.5 في المئة، أي ما يعادل 16.6 دولارًا، مسجلًا 3391.50 دولارًا للأونصة.

وفي خضم حالة الغموض التي أحاطت بموقف واشنطن من احتمال التدخل العسكري في الشرق الأوسط، تراجعت أسعار العقود الآجلة للذهب، متجهة نحو تسجيل خسائر أسبوعية. كما انخفض سعر التسليم الفوري بنسبة 0.7 في المئة، أي ما يعادل 23.17 دولارًا، ليصل إلى 3347.73 دولارًا للأونصة.

وعلى وقع تقييم الأسواق لاحتمال توجيه ضربات أميركية للمنشآت النووية الإيرانية، تراجع الذهب مع ارتفاع الدولار وعوائد سندات الخزانة الأمريكية، حيث انخفضت العقود الآجلة بنسبة 0.35 في المئة أو 11.7 دولارًا لتصل إلى 3374 دولارًا للأونصة، بعدما لامست حاجز 3413.80 دولارًا في وقت سابق. فيما هبط سعر التسليم الفوري للذهب 0.3 في المئة أو 10.14 دولار إلى 3358.25 دولار للأونصة.

ومع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 24 حزيران/يونيو، عن التوصل إلى وقف كامل لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل، وإنهاء صراع دام 12 يومًا، تراجعت أسعار الذهب مع تحسّن شهية المستثمرين تجاه الأصول عالية المخاطر، وانخفض سعر التسليم الفوري بنسبة 0.9 في المئة، أي ما يعادل 29.81 دولارًا، ليُسجّل 3338.67 دولارًا للأونصة.

وفي اليوم نفسه، تعمّق التراجع بشكل أكبر عقب تصريح ترامب بأن "الطرفين انتهكا الاتفاق"، وهو ما أعاد بعض الغموض إلى المشهد، وأثار مخاوف من تجدد التصعيد. ونتيجة لذلك، استمر سعر التسليم الفوري للذهب بالانخفاض بنسبة 1.45 في المئة، أي ما يعادل 48.98 دولارًا، ليبلغ 3319.50 دولارًا للأونصة.

غير أن هذا الاتجاه لم يدم طويلًا؛ ففي اليوم التالي لإعلان وقف إطلاق النار، عاود الذهب الارتفاع مدعومًا بتراجع مؤشر ثقة المستهلكين الأميركيين في حزيران/يونيو، وسط تنامي المخاوف من تأثير الرسوم الجمركية التي تفرضها إدارة ترامب على الاقتصاد. وارتفع سعر التسليم الفوري للذهب بنسبة 0.25 في المئة، أي ما يعادل 8.54 دولارًا، ليصل إلى 3332.21 دولارًا للأونصة.

واستمر هذا الارتفاع الطفيف مع تراجع الدولار، في ظل تصاعد حالة عدم اليقين بشأن استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي، مسجلاً 0.15 في المئة أو 5.3 دولار إلى 3348.40 دولار للأونصة. بينما استقر سعر التسليم الفوري للذهب عند 3333.66 دولار للأونصة.

ومع عودة الهدوء النسبي في الشرق الأوسط وترقب صدور البيانات الأميركية، تراجعت أسعار الذهب بأكثر من 1.7 في المئة بنهاية الأسبوع، مسجلة ثاني خسارة أسبوعية متتالية، حيث انخفضت عقود آب/أغسطس بنسبة 1.31 في المئة أو 44 دولارًا إلى 3304 دولارات للأونصة. وواصلت الضغوطات تأثيرها على السوق، حيث تراجع سعر الذهب للتسليم الفوري بنسبة 1.19 في المئة، ما يعادل 39.57 دولارًا، ليُسجل 3288.35 دولارًا للأونصة، مقتربًا من أدنى مستوياته في نحو شهر.

تشير هذه الأرقام إلى أن أسعار الذهب شهدت تذبذبًا واضحًا خلال الفترة الماضية، فما العوامل الاقتصادية والجيوسياسية التي تفسّر مسار التراجع في أدائه خلال الأيام الاثني عشر الماضية؟

تراجع وسط الحرب

مع اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل، ارتفعت التوقعات بأن يشهد الذهب أحد أقوى أسابيعه في عام 2025، نظرًا لأن التوترات الجيوسياسية والعسكرية عادةً ما تدفع المستثمرين نحو الأصول الآمنة مثل الذهب. ومع ذلك، لم ينعكس التصعيد الأخير في الشرق الأوسط على السوق بمكاسب ملموسة، إذ شهدت أسعار الذهب أول تراجع أسبوعي لها منذ نحو ثلاثة أسابيع، مما يشير إلى عوامل أخرى تؤثر على أداء المعدن النفيس رغم التوترات الحاصلة.

يعود هذا التراجع غير المعتاد إلى مجموعة من العوامل الاقتصادية والاستثمارية التي حدّت من استجابة السوق للتصعيد الجيوسياسي. فبدايةً، لم تشكّل الحرب مفاجأة للأسواق، إذ كانت متوقعة إلى حد كبير وتمّ تسعيرها مسبقًا ضمن سيناريوهات التداول. كما استبعد المستثمرون احتمال اندلاع حرب شاملة، مما قلّص من تأثير المواجهة على أسعار الذهب.

كذلك، لم تشهد الأسواق الأخرى اضطرابات فورية، لا سيما في إمدادات النفط خلال فترة الحرب. فقد تباينت ردود الفعل بشكل ملحوظ، حيث ارتفعت أسعار النفط لفترة وجيزة قبل أن تستقر، في حين تراجعت مؤشرات الأسهم مؤقتًا ثم استعادة مكاسبها. في الوقت ذاته، صعد الدولار الأميركي نتيجة تزايد الطلب على الأصول المقومة به، مما زاد الضغوط على أسعار الذهب.

إلى جانب ذلك، شكّل تراجع الطلب الصيني-سواء من البنك المركزي أو من المستهلكين الأفراد-عاملًا إضافيًا حدّ من زخم المعدن الأصفر. كما ساهم التقدم في التوصل إلى إطار عمل تجاري بين الصين والولايات المتحدة في تقليص الإقبال على الذهب، حيث أعطى مؤشرات إيجابية حول استقرار العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.

معاودة الصعود

عقب هذا التراجع، شهدت أسواق الذهب العالمية انتعاشًا ملحوظًا، حيث سجلت أسعار العقود الآجلة ارتفاعًا واضحًا خلال التعاملات الصباحية، مدعومة بتراجع الدولار الأميركي نتيجة انحسار التوترات الجيوسياسية على الصعيد العالمي. ويرجع هذا الأداء الإيجابي أيضًا إلى تزايد التوقعات بأن الاحتياطي الفيدرالي سيستأنف دورة خفض أسعار الفائدة في المستقبل القريب، وهو ما يُعد دعمًا مهمًا للذهب الذي لا يدر عوائد.

وبالفعل، ارتفع سعر التسليم الفوري بنسبة 0.45 في المئة، أي ما يعادل 15.49 دولارًا، ليصل إلى 3289.82 دولارًا للأونصة. واستمر الذهب في مساره التصاعدي مع بداية شهر تموز/يوليو، مدفوعًا بتصاعد حالة عدم اليقين حيال السياسات التجارية الأميركية، خصوصًا قبيل الموعد النهائي الحاسم الذي حدده الرئيس دونالد ترامب في 9 تموز/يوليو لبدء تطبيق رسوم جمركية مرتفعة. وبلغ سعر الذهب الفوري حين كتابة هذا التقرير 3322.55 دولارًا للأونصة، مرتفعًا بنسبة 0.6 في المئة. 

الذهب والرهانات الجيوسياسية

يواصل الذهب التداول في ظل بيئة متقلبة، لكنه لا يزال محافظًا على استقراره، حيث يحظى بدعم قوي فوق مستوى 3300 دولار للأونصة، رغم التراجع الأخير من قمم قياسية، مع احتمالات لتعزيز مكاسبه واستعادة زخم جديد إذا استمر الاتجاه الإيجابي. وفي هذا السياق، رفع بنك "إتش إس بي سي" توقعاته لمتوسط سعر الذهب لعام 2025 من 3015 دولارًا إلى 3215 دولارًا للأونصة، ولعام 2026 من 2915 دولارًا إلى 3125 دولارًا، معتبرًا أن تصاعد المخاطر وارتفاع مستويات الديون الحكومية يشكلان عوامل دعم أساسية للذهب.

ويشير الخبراء إلى أن العوامل الأساسية التي تؤثر على أسعار الذهب على المدى القصير تتمثل في تطورات الرسوم الجمركية وميل المستثمرين لتحمّل المخاطر. كما تلعب التدفقات الكبيرة لصناديق الاستثمار المتداولة، وضعف الدولار الأمريكي، وتفضيل المستثمرين للتسليم الفعلي، إلى جانب توقعات خفض أسعار الفائدة وعدم الاستقرار في صفقة الهدنة بين إيران وإسرائيل، دورًا رئيسيًا في دعم الذهب خلال هذه الفترة.

في موازاة ذلك، يؤكد المحللون أن النظرة طويلة الأجل للذهب ما زالت قوية، مع توقعات بارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح بين 10 و12 في المئة خلال العام المقبل، لا سيما في حال استمرار التوترات الجيوسياسية وتعزيز عمليات الشراء المكثفة من قبل البنوك المركزية. وبظل حالة عدم اليقين الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية المستمرة، من المرجح أن تستمر موجة ارتفاع الذهب، مستفيدة من تقلبات النظام المالي العالمي. 

هذا ويبقى التهديد الأبرز أمام المعدن الأصفر هو انخفاض كبير في مستويات المخاطر، إذ يمكن للتغيرات الجيوسياسية المستمرة وتقلبات الأسواق أن تدفع الذهب نحو مكاسب إضافية. وتظل التوترات بين إسرائيل وإيران قائمة رغم إعلان الهدنة، وسط شكوك السوق بشأن استمراريتها، مع تهديد بتصعيد محتمل يزيد من المخاطر في الشرق الأوسط وتداعياتها على سلاسل التوريد، لا سيما المخاوف من إغلاق مضيق هرمز وتأثير ذلك على أسعار الطاقة العالمية، مما يجعل الذهب مجددًا جاذبًا للمستثمرين.

قمة أم هبوط؟

في نيسان/أبريل الماضي، بلغ الذهب قمة قياسية عند 3500 دولار للأونصة، مدفوعًا بالتوترات السياسية والتصريحات الحادة للرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم بأول. أما اليوم، فيتذبذب الذهب حول مستوى 3300 دولار، وسط حالة من التوازن بين الضغوط الجيوسياسية والتحديات الاقتصادية المرتبطة بتوقعات السياسة النقدية الأميركية. فهل سيستمر الذهب في مساره الصاعد ليختبر مستويات أعلى، أم سيتراجع نحو أدنى، أم سيبقى مراوحًا مكانه عند هذا المستوى؟ تبقى هذه الاحتمالات قائمة ومرهونة بشكل كبير بتطورات الأسواق والتحولات السياسية العالمية في الفترة القادمة.