علي محمود العبد الله*
عندما تطأ قدم دبلوماسي بلدًا جديدًا، فإنه يحمل معه ليس فقط أوراق اعتماده الرسمية، بل أيضا قلبه وعقله وثقافته. هذه كانت فلسفة السفير الصيني تشيان مينجيان خلال السنوات الأربعة التي أمضاها في لبنان، والتي حوّل فيها المهمة الدبلوماسية إلى جسر حقيقي للتواصل الإنساني والثقافي بين شعبين تربطهما قرون من التفاعل الحضاري. وأتت هذه المهمة الدبلوماسية للسفير مينجيان ليتوّج بها معرفته العميقة ببلاد الأرز، بعد أن كان تعرّف على لبنان في تسعينيّات القرن الماضي من خلال نشاطاته الدبلوماسية.
في صيف عام 2021، وصل السفير مينجيان إلى بيروت في ظروف استثنائية. كان لبنان يعاني من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، ويلملم جراح انفجار مرفأ بيروت وآثار جائحة كورونا، فضلًا عن انهيار العملة وارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة. لكن بدلًا من أن يبقى حبيس الجدران الدبلوماسية، اختار السفير مينجيان الخروج إلى الميدان ليكون في قلب الأحداث، وليلمس بنفسه معاناة الشعب اللبناني ويبحث عن سُبل عملية لتخفيفها.
كانت أولى زياراته إلى القطاع الصحي، حيث بادرت بلاده إلى مساعدة لبنان على تخطّي آثار جائحة كورونا والمحافظة على الأرواح. ولم يتردّد السفير في توسيع نشاطاته رغم انتشار الوباء والمخاطر الكبيرة، فزار المسؤولين الرسميين في مختلف الوزارات والمؤسسات، وزار المدن والقرى النائية، واطّلع على أحوال الناس لمعاينة أوضاعهم.
لكن عمل السفير مينجيان لم يقتصر على الجانب الإنساني، إذ أدرك منذ البداية أن الدبلوماسية الحقيقية يجب أن تترك أثرًا ملموسًا في حياة الناس. ومن هذا المنطلق، عمل على إطلاق وتعزيز سلسلة من المشاريع التنموية التي استهدفت مختلف القطاعات.
المشروع الأبرز الذي سيخلّد ذكرى مهام السفير مينجيان في لبنان هو بلا شك مشروع الكونسرفتوار في الضبية. هذا الصرح الثقافي العملاق، الذي يتم بناؤه بهبة صينية، لم يكن مجرد مبنى آخر يضاف إلى الخارطة الموسيقية اللبنانية، بل تجسيدًا حيًا لرؤيته للعلاقات بين البلدين. والسفير مينجيان مؤمن بأن الموسيقى هي لغة عالمية تنهار فيها كل الحواجز، وقد حرص شخصياً على متابعة كل تفاصيل المشروع. وقد وصف وزير الثقافة د. غسان سلامة مشروع الكونسرفتوار في الضبية الذي ينتهي العمل فيه نهاية العام الحالي، بأنه "من أكبر الهبات التي قدمتها جمهورية الصين الشعبية للبنان، وهو يُجسّد رسالة صداقة عميقة".
الإنجازات التي حققها السفير مينجيان كبيرة وواسعة جدًا، وربما أهمها يقع في المجال الاقتصادي، إذ نجح السفير في إطلاق سلسلة من المبادرات لتعزيز التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين. ونظم وشارك في لقاءات اقتصادية عديدة جمعت رجال الأعمال اللبنانيين بنظرائهم الصينيين، وأشرف على توقيع الاتفاقيات في مجالات مختلفة كالتكنولوجيا والطاقة المتجددة حيث برزت الهبة الصينية التي تعنى بتأمين الطاقة الشمسية لهيئة أوجيرو، وقد ساهم هذا المشروع بتأمين الطاقة الكهربائية لمراكز أوجيرو وتوفير الاستقرار في شبكة الاتصالات.
ولطالما قال السفير أنه يرى في القطاع الخاص اللبناني ولبنان عمومًا شريكًا استراتيجيًا لمشروع الحزام والطريق الصيني، وله علاقات مميزة مع تجمّع رجال وسيدات الأعمال اللبناني الصيني، ساهمت في تمتين العلاقات الاقتصادية بين البلدين وإطلاق العديد من المشاريع في مجالات متنوعة، كما عززت هذه العلاقات من اهتمام الصين باحتياجات لبنان، خاصة خلال الأزمات، وما أكثرها.
لا يسعنا هنا ذكر كل المشاريع التي أنجزها السفير، لكننا شهدنا خلال فترة توليه مهامه الدبلوماسية في لبنان مدى تقدم التعاون الثنائي بثبات في السياسة والاقتصاد والتجارة والثقافة والصحة والعلوم والتكنولوجيا والتعليم والرياضة وغيرها من المجالات.
وواصل الجانب الصيني من خلال السفير دعم سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه كالمعتاد، فضلاً عن المشاركة الفعالة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان من خلال قوات حفظ السلام الصينية، وتقديم المساعدات إلى الجانب اللبناني.
وخلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، كان السفير مينجيان في الصف الأول المدافع عن لبنان، تمامًا كما دافع عن القضية الفلسطينية وعن غزة. وحرص على تقديم بلاده مساعدات بغاية الأهمية تمثلت بتقديم هبة مالية للعائلات التي نزحت من الجنوب بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية، وبادر في عدة اتجاهات لمساعدة الناس الذين تركوا ديارهم خلال الحرب.
لكن ما ميّز السفير مينجيان حقًا، كان بعده الإنساني الفريد وعلاقته ببلاد الأرز وأهلها. تعلم العربية بلهجتها اللبنانية، وأصبح قادرًا على إلقاء الخطابات باللغة المحلية، ما خلق جوًا من التقارب مع الجمهور اللبناني.
اليوم، وبينما يغادر السفير مينجيان لبنان، يترك خلفه إرثًا غنيًا من الإنجازات والذكريات. لكن الأهم من ذلك، أنه يترك علاقات صداقة متينة بنيت على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
السفير تشيان مينجيان لم يكن مجرد دبلوماسي يؤدي مهامه، بل كان سفيرًا حقيقيًا للثقافة والصداقة الصينية، وجسرًا للتواصل بين حضارتين عريقتين.
رئيس تجمع رجال وسيدات الأعمال اللبناني الصيني*