د. سوليكا علاء الدين
شهدت الأسواق العالمية موجة من التقلبات والفوضى، عقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 2 نيسان/أبريل عن فرض حزمة شاملة من الرسوم الجمركية بنسبة 10 في المئة على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى رسوم إضافية استهدفت عددًا من الدول، في إطار سياسة "أميركا أولًا". غير أن ترامب، وفي خطوة مفاجئة بتاريخ 9 من الشهر نفسه، أعلن تعليق هذه الرسوم لمدة 90 يومًا لإتاحة المجال أمام التوصل إلى اتفاقيات تجارية جديدة، مع استثناء الصين من هذا التعليق.
ولم تمضِ سوى أيام حتى عاد ترامب في 22 نيسان/أبريل ليعلن أن الولايات المتحدة تعتزم خفض الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية "بشكل كبير"، مشيرًا إلى أن النسبة الحالية، البالغة 145 في المئة، لن تُبقى على حالها. وقد أثارت هذه التصريحات مخاوف متزايدة من احتمال دخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود، رغم تأكيد ترامب أن هذه الرسوم تُعد "دواءً لا بد منه" لمعالجة الاختلالات المالية، واستعادة وظائف التصنيع في الولايات المتحدة.
في هذا السياق، أدّى لجوء أميركا إلى فرض الرسوم الجمركية إلى تصعيد المخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية، خصوصًا مع تصاعد الإجراءات المضادة من قبل الدول المتأثرة. وأسهم هذا التوتر في ترسيخ حالة عميقة من عدم اليقين في الأسواق الدولية، بينما يُتوقع أن يشعل الإعلان عن الرسوم الجمركية المتبادلة موجة جديدة من المفاوضات التجارية، في محاولة لاحتواء التصعيد والتوصل إلى تسويات تُرضي الأطراف المتنازعة وتحافظ على استقرار النظام التجاري العالمي.
صدمة الأسواق
أسفرت هذه الحرب التجارية عن ردود فعل عنيفة تمثّلت في فرض رسوم جمركية مضادة، ما أدّى إلى تعطيل حركة التجارة العالمية وتباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي. وقد تسببت هذه التطورات في صدمة قوية للأسواق المالية، التي شهدت واحدة من أسوأ موجات الهبوط، حيث سجّلت المؤشرات الرئيسية انخفاضات حادة. ومع تراجع الثقة في الأسواق، اتجه المستثمرون نحو الملاذات الآمنة مثل الذهب والسندات، في حين تدهورت ثقة المستهلكين وانخفضت توقعاتهم بشأن المستقبل
وكردّ فعل مباشر على إعلان فرض الرسوم الجمركية، تكبّدت أسواق الأسهم في كلّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خسائر فادحة، إذ سجّل مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" انخفاضًا حادًا تجاوز 10 في المئة من قيمته خلال ثلاثة أيام فقط، في واحدة من أسرع موجات التراجع التي شهدتها الأسواق منذ سنوات. كما شهدت الأسواق الأميركية في 3 نيسان/أبريل تراجعًا بأكثر من 4 في المئة، في أكبر انخفاض يومي منذ عام 2020.
أما على صعيد المؤشرات الأخرى، فقد أغلق مؤشر "داو جونز الصناعي" منخفضًا بنسبة 0.9 في المئة، في حين استقر مؤشر "ناسداك" تقريبًا عند مستوى 0.1 في المئة. وشهدت الأسواق الأوروبية أيضًا تراجعًا، حيث انخفض مؤشر "فوتسي 100" في لندن بنسبة 4.4 في المئة ليصل إلى 7702 نقطة، وهو أدنى مستوى له منذ أكثر من عام. كما تراجعت أسواق باريس وبرلين.
وفي الأسواق الآسيوية، تراجعت المؤشرات في هونغ كونغ بشكل كبير بنسبة تجاوزت 9 في المئة، بينما سجلت تايوان خسائر بنحو 10 في المئة، وفقدت السوق اليابانية أكثر من 6.5 في المئة.
أما في الدول العربية، فقد انخفض مؤشر الأسهم الرئيسي في دبي بنسبة 1.7 في المئة، بينما انخفض مؤشر البورصة السعودية بنسبة 1.2 في المئة. كما شهد سوق أبو ظبي للأوراق المالية تراجعًا بنسبة 0.4 في المئة، في حين تأثرت أسواق الأسهم في الكويت والبحرين أيضًا بالتراجع.
وعلى صعيد أسواق النفط، فقد شهدت أسعار الخام انخفاضًا ملحوظًا، مما أثار مخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية قد تؤدي إلى تقويض الطلب على النفط نتيجة توقعات بتراجع الإنتاج والنمو الاقتصادي. وقد هبطت العقود الآجلة لخام برنت بنسبة 3.74 في المئة لتصل إلى 72.15 دولارًا للبرميل، كما تراجعت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأميركي بنسبة 3.92 في المئة إلى 68.90 دولارًا.
وفي السياق ذاته، تأثر سوق العملات بشكل ملحوظ عقب إعلان الرسوم الجمركية، حيث سجّل الدولار الأميركي تراجعًا واسع النطاق، في حين ارتفع اليورو مستفيدًا من تزايد الضغوط على العملة الأميركية. كما اندفع المستثمرون نحو الملاذات الآمنة مثل الين الياباني والفرنك السويسري، وسط تصاعد حالة عدم اليقين. من جهته، تراجع اليوان الصيني إلى أدنى مستوى له في شهر، بينما تأثرت عملات الدول الناشئة سلبًا بفعل تصاعد التوترات التجارية واضطرابات السوق.
وعلى الرغم من تأكيد البيت الأبيض أن واردات الذهب لن تخضع للرسوم الجمركية الجديدة، شهد الذهب ارتفاعًا قياسيًا في يوم الإعلان، حيث صعد إلى 3167.71 دولارًا للأوقية (الأونصة)، مسجلًا أعلى مستوى له على الإطلاق، مدفوعًا بتزايد إقبال المستثمرين على أصول الملاذ الآمن. إلا أن سعر الذهب عاد وانخفض لاحقًا مع تراجع حدة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وشركائها، مما أضعف جاذبية المعدن الأصفر كملاذ آمن.
مواجهة أميركية-أوروبية
في "يوم التحرير الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية"، أعلن دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية بنسبة 20 في المئة على جميع السلع تقريبًا التي تُصدّرها دول الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة. ويأتي هذا القرار بعد فرض رسوم بنسبة 25 في المئة على واردات الصلب والألومنيوم، بالإضافة إلى رسوم مماثلة بنسبة 25 في المئة على صادرات السيارات.
يعتمد تأثير القرار الأميركي على الاقتصاد الأوروبي بشكل كبير على المعدل النهائي للرسوم الجمركية الذي ستستقر عليه الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ردود فعل الاتحاد الأوروبي تجاه هذه الإجراءات، التي تراوحت بين الصرامة والتعاون. وبعد تعليق تنفيذ الرسوم الجمركية، تم تأجيل الردود المقابلة بشكل مؤقت. ومع ذلك، يسعى الاتحاد الأوروبي، الذي يرتكز اقتصاده بشكل أساسي على التجارة الحرة، إلى حشد تأييد واسع لأي إجراءات مستقبلية، بهدف استمرار الضغط على ترامب لدفعه إلى الدخول في مفاوضات تجارية قد تُفضي إلى حلول تعود بالفائدة على الطرفين.
يُذكر أنه قبل اندلاع الحرب التجارية، كان متوسط معدل الرسوم الجمركية الأميركية على الواردات من الاتحاد الأوروبي يبلغ 1.47 في المئة، بينما كان معدل الرسوم على الواردات من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي يصل إلى 1.35 في المئة. وبحسب المراقبين، فإن التداعيات المحتملة لهذه الرسوم، في حال تنفيذها، ستكون خطيرة، إذ ستؤثر الرسوم الجديدة على نحو 70 في المئة من إجمالي صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، مما يزيد من تعقيد العلاقات التجارية بين الجانبين.
وتشير الدراسات إلى أن تأثير الحرب التجارية على التجارة والاقتصاد سيكون أكبر بالنسبة للولايات المتحدة مقارنة بالاتحاد الأوروبي. ففي حالة عدم التوصل إلى اتفاق، قد تنخفض صادرات الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة تتراوح بين 8 و66 في المئة، بينما ستنخفض صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة بنسبة تتراوح بين 0.6 و1.1 في المئة. يعود التأثير الأكبر على الولايات المتحدة جزئيًا إلى سيناريوهات الرد بالمثل من جميع شركائها التجاريين، بينما ستقتصر التأثيرات على الاتحاد الأوروبي على التجارة مع الولايات المتحدة فقط.
التحالف التجاري الأكبر
هذا وتعكس العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أحد أعلى مستويات التكامل التجاري والاستثماري في العالم، إذ تُعد هذه الشراكة الأضخم عالميًا من حيث حجم التجارة والاستثمار الثنائي. ويُعتبر الاتحاد الأوروبي أحد أبرز الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، حيث يمثل الطرفان أكبر سوقين متبادلين للسلع والخدمات والاستثمارات، متجاوزَين بذلك أي علاقة تجارية أخرى على مستوى العالم.
وبالعودة إلى بيانات عام 2024، يتضح حجم هذا الترابط الاقتصادي؛ فقد بلغ إجمالي التجارة السلعية بين الجانبين نحو 975.9 مليار دولار. وصدّرت الولايات المتحدة سلعًا إلى الاتحاد الأوروبي بقيمة 370.2 مليار دولار، مسجّلة زيادة طفيفة بنسبة 0.7 في المئة (2.6 مليار دولار) مقارنة بعام 2023. في المقابل، بلغت واردات الولايات المتحدة من السلع الأوروبية 605.8 مليار دولار، بارتفاع قدره 5.1 في المئة (29.4 مليار دولار) على أساس سنوي.
ونتيجة لهذا الفارق، بلغ العجز التجاري الأميركي في السلع مع الاتحاد الأوروبي 235.6 مليار دولار في عام 2024، أي بزيادة ملحوظة بلغت 12.9 في المئة (26.9 مليار دولار) مقارنة بالعام السابق، ما يعكس استمرار اختلال الميزان التجاري بين الجانبين، على الرغم من عمق الروابط الاقتصادية.
ويُعزز هذا التوجه ما أظهرته أحدث البيانات الصادرة عن "يوروستات"، حيث سجّلت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في شباط/ فبراير 2024 نموًا قويًا بنسبة 22.4 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، محققة أعلى معدل نمو للصادرات خلال 13 شهرًا، بقيمة إجمالية بلغت 51.8 مليار يورو. في المقابل، ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من الولايات المتحدة بوتيرة أبطأ، بنسبة 2.4 في المئة على أساس سنوي، لتصل إلى 28.2 مليار يورو.
الخليج وأميركا: تجارة استراتيجية
تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بعلاقات تجارية قوية مع الولايات المتحدة، حيث حققت التجارة الثنائية بين الطرفين ما يقارب 180 مليار دولار في عام 2023. ووفقًا للرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ستخضع دول مجلس التعاون الخليجي - المملكة العربية السعودية، الكويت، الإمارات العربية المتحدة، قطر، البحرين، وعُمان - لرسوم أساسية تبلغ 10 في المئة على وارداتها إلى الولايات المتحدة. كما تشمل هذه الرسوم أيضًا كل من اليمن وإيران وتركيا، بينما فرضت الولايات المتحدة رسومًا بنسبة 20 في المئة على الأردن.
وتعد الإمارات العربية المتحدة الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث بلغ حجم التجارة بين البلدين 34.4 مليار دولار في عام 2024. وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية بحجم تجارة بلغ 25.9 مليار دولار. من هذه التجارة، صدّرت الولايات المتحدة 27 مليار دولار، بينما استوردت 7.5 مليار دولار فقط في نفس العام. وسجل الفائض التجاري للولايات المتحدة مع السعودية 443.3 مليون دولار في 2024، بزيادة قدرها 121.6 في المئة، أي نحو 2.5 مليار دولار مقارنة بعام 2023. أما حجم التجارة مع قطر فقد بلغ 5.6 مليار دولار، ومع الكويت 4.1 مليار دولار، ومع عُمان 3.3 مليار دولار، ومع البحرين 2.9 مليار دولار.
بين التحديات والفرص: أميركا والبلدان العربية
لا تزال الصادرات غير النفطية تستحوذ على الجانب الأكبر من الصادرات العربية إلى الولايات المتحدة. وفقًا لـ “الإسكوا"، شهدت هذه الصادرات ارتفاعًا ملحوظًا من 14 مليار دولار في عام 2013 إلى 22 مليار دولار في عام 2024، مما يعكس زيادة كبيرة في حصتها من إجمالي الصادرات. ويُعد ذلك مؤشرًا على تنوع اقتصادي متنامٍ، بات الآن مهددًا جراء الإجراءات الحمائية الجديدة، التي تُقدّر قيمتها بـ 22 مليار دولار.
بالتفاصيل، ستتأثر صادرات ست دول عربية بصورة كبيرة، بحيث يشكل 5 في المئة أو أكثر من إجمالي صادراتها إلى الولايات المتحدة. تشمل هذه الدول البحرين، مصر، الأردن، لبنان، المغرب وتونس، مع ملاحظة أن الأردن هو الأكثر تأثراً بحيث يصدّر نحو 25 في المئة من سلعه إلى السوق الأميركية.
وستواجه خمس دول تأثيراً صغيراً، بحيث يشكل أقل من 5 في المئة من إجمالي صادراتها. تشمل هذه الدول الجزائر، سلطنة عمان، قطر، السعودية والامارات العربية المتحدة. أضف إلى ذلك، قد يتأثر أيضاً سوق إعادة التصدير في الامارات، الذي يُقدر بنحو 10 مليارات دولار إلى الولايات المتحدة. أما ثلاث دول عربية، هي العراق، الكويت وليبيا، فلا تصدّر سلعاً غير نفطية إلى السوق الأميركية، وبالتالي فإن تأثير الزيادة في الرسوم الجمركية سيكون غير مباشر بالنسبة اليها.
علاوة على ذلك، هناك ثماني دول في المنطقة، هي: جزر القمر، جيبوتي، موريتانيا، فلسطين، الصومال، السودان، سوريا واليمن، لا تواجه تأثيراً ملحوظاً من هذه الزيادات الجمركية الجديدة نظراً الى عدم وجود صادرات إليها. وبحسب "الإسكوا"، قد تتأثر الاقتصادات العربية سلبًا بشكل غير مباشر نتيجة لانخفاض الطلب العالمي، لا سيما من الصين والاتحاد الأوروبي، اللذين يعدان من أهم مستوردي السلع العربية.
كذلك، من المتوقع أن تتسبب الرسوم الأساسية بنسبة 10 في المئة على جميع السلع الواردة إلى الولايات المتحدة من الإمارات والسعودية وبقية دول الخليج في زيادة تكاليف التصدير بالنسبة للشركات الخليجية، مما قد يؤثر سلبًا على قدرتها التنافسية داخل السوق الأميركية. ويحذر مراقبون من أن الرسوم الجمركية العالمية تسهم في انخفاض أسعار النفط، وزيادة حالة عدم اليقين في الأسواق، فضلًا عن تعزيز قوة الدولار الأميركي -وهي جميعها عوامل قد تضر باقتصادات دول الخليج.
من ناحية أخرى، تُجري دول مجلس التعاون الخليجي مفاوضات مع الولايات المتحدة بهدف خفض أو إلغاء الرسوم الجمركية المفروضة عليها بالكامل. ويرى بعض المحللين أن موجة الحماية التجارية العالمية قد تشكل فرصة استراتيجية لدول الخليج، إذ قد تدفع دولًا عديدة إلى نقل قواعدها الصناعية إلى المنطقة، مستفيدة من انخفاض الرسوم الجمركية نسبيًا والبنية التحتية المتطورة. ويعتقد عدد من المحللين الاقتصاديين أن لدى دول الخليج فرصة حقيقية للتحول إلى مركز صناعي إقليمي للمنتجات الموجّهة إلى السوق الأميركية، مدعومة بالرسم الجمركي المنخفض نسبيًا البالغ 10 في المئة. وقد تجد الشركات التي تواجه رسومًا مرتفعة -خاصة في شرق آسيا - بدائل مجدية من خلال نقل منشآتها الإنتاجية إلى دول الخليج، بهدف تقليل التكاليف وتعزيز فرصها التنافسية في السوق الأميركية.
ترامب والصين: التحدي التجاري
في إطار الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسومًا جمركية تصل إلى 145 في المئة على السلع الصينية، وردت الصين بفرض ضريبة بنسبة 125 في المئة على المنتجات الأميركية، قبل أن يُعلن البيت الأبيض عن دراسة خفض الرسوم إلى 50-65 في المئة، مع تأكيد ترامب أن إلغاء هذه الرسوم يتوقف على تقديم الصين تنازلات جوهرية، بهدف دفعها إلى تحسين معاملاتها التجارية مع الولايات المتحدة.
وتُمثل العلاقة التجارية بين الصين والولايات المتحدة واحدة من أبرز العلاقات الاقتصادية في العالم، حيث تمثل الولايات المتحدة أكبر وجهة لصادرات الصين من السلع وثاني أكبر مصدر لوارداتها. شهدت التجارة الثنائية في السلع بين البلدين نموًا سريعًا خلال العقود الأخيرة، إذ تشير الإحصاءات الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أن حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة في السلع بلغ 688.28 مليار دولار في عام 2024. وفي ذات العام، شكلت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة والواردات منها نحو 14.7 و6.3 في المئة من إجمالي صادرات الصين ووارداتها على التوالي.
أما فيما يتعلق بتجارة الخدمات، فقد شهدت العلاقة بين الصين والولايات المتحدة تطورًا ملحوظًا. إذ تتمتع صناعة الخدمات الاميركية بقدرة تنافسية قوية على المستوى الدولي، ومع تطور الاقتصاد الصيني وارتفاع مستوى المعيشة، تزايد الطلب على الخدمات بشكل كبير في الصين. وفقًا لوزارة التجارة الاميركية، نما حجم التجارة الثنائية في الخدمات بين البلدين من 8.95 مليار دولار في عام 2001 إلى 66.86 مليار دولار في 2023، بزيادة تقدر بحوالي سبع مرات.
على صعيد الميزان التجاري، شهدت نسبة فائض الحساب الجاري للصين إلى الناتج المحلي الإجمالي تراجعًا كبيرًا، حيث انخفضت من 9.9 في المئة في عام 2007 إلى 2.2 في المئة في عام 2024.
أما في مجال الاستثمارات والتعاون، فإن الصين والولايات المتحدة تُعتبران شركاء استثماريين مهمين. فالولايات المتحدة تُعد مصدرًا رئيسيًا للاستثمار الأجنبي في الصين، حيث بلغ إجمالي الاستثمار الأميركي الفعلي في الصين نحو 98.23 مليار دولار بحلول نهاية عام 2023، وفقًا لإحصاءات وزارة التجارة الصيني. وفي المقابل، تعد الولايات المتحدة أيضًا وجهة استثمارية حيوية للصين، حيث شهد الاستثمار المباشر من الشركات الصينية في الولايات المتحدة نموًا كبيرًا، ليصل إلى نحو 83.69 مليار دولار بحلول نهاية عام 2023.
رسوم تحاصر النمو الصيني
ومع تصاعد حدة الحرب التجارية، تتزايد التوقعات بأن الصين لن تتمكن من الاعتماد على صادراتها، التي سجلت مستويات قياسية في عام 2024، كمحرك رئيسي لتحقيق نمو اقتصادي قوي خلال العام الحالي. وفي هذا السياق، يسعى صانعو السياسات في الصين إلى تهدئة المخاوف من أن الرسوم الجمركية الأميركية الواسعة قد تعرقل الجهود المبذولة لدعم الانتعاش الاقتصادي الهش. وفي الوقت ذاته، يحذر المحللون من أن هذه الرسوم الثقيلة تزيد من خطر حدوث تراجع حاد في النمو. وتشكل الرسوم الجمركية عقبة كبيرة أمام مسار التعافي الاقتصادي الضعيف في الصين، وتأتي الحرب التجارية الأخيرة في وقت تكافح فيه الصين مع الانكماش الاقتصادي، وأزمة في سوق العقارات، ومستويات مرتفعة من الديون.
وفي هذا الإطار، قالت "غولدمان ساكس" إنها تتوقع أن تؤدي الرسوم الجمركية الأخيرة التي فرضها ترامب إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة تصل إلى 2.4 في المئة. كما توقعت أن ينمو الاقتصاد الصيني بنسبة 4.5 في المئة هذا العام، مشيرة إلى المخاوف من أن التكتيك الصيني المعروف بتحويل الصادرات عبر دول مثل فيتنام وتايلاند لتجاوز الرسوم الجمركية الاميركية أصبح أقل فعالية الآن بعد أن أقام ترامب حواجز تجارية على مستوى العالم. ويُعد هذا النمو المتوقع البالغ 4.5 في المئة أقل من الهدف الرسمي للنمو الذي حددته الحكومة الصينية بنسبة 5 في المئة لعام 2025.
من جهة أخرى، أشار محللو "يو بي إس" إلى أن زيادات الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب قد تؤدي إلى تقليص معدل النمو الاقتصادي للصين إلى 4 في المئة فقط في عام 2025.
وفي تطور مفاجئ، قررت وكالة "فيتش" للتصنيفات الائتمانية، في 3 نيسان/أبريل خفض تصنيف الصين السيادي إلى "A" مع نظرة مستقبلية مستقرة، في خطوة تعكس التحديات الاقتصادية المتزايدة التي يواجهها ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وأوضحت الوكالة أن هذا القرار يستند إلى توقعات بارتفاع عجز الحكومة العامة في الصين إلى 8.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، مقارنة بـ 6.5 في المئة في عام 2024.
انفراج غير متوقع
في خضم هذا الإرباك الجمركي الذي ألقى بظلاله على الاقتصاد العالمي، أعلنت الولايات المتحدة والصين، في خطوة تاريخية، التوصل إلى اتفاق يقضي بتعليق معظم الرسوم الجمركية المفروضة مؤقتًا على السلع المتبادلة بينهما، ما يعكس تحسنًا ملحوظًا في العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.
وجاء هذا الاتفاق بعد محادثات تجارية حاسمة جرت بين ممثلي البلدين في سويسرا، كشف خلالها الجانبان عن إنشاء آلية دائمة لمواصلة الحوار حول العلاقات الاقتصادية، مما يمهّد الطريق أمام تسوية منظمة ومستدامة للخلافات المتراكمة.
وتضمن الاتفاق بنودًا فنية واضحة، أبرزها خفض الرسوم الجمركية "المتبادلة" من 125 إلى 10 في المئة، في خطوة تهدف إلى تخفيف حدة التوتر التجاري وضمان تدفق السلع بين البلدين. ومع ذلك، ستبقى الرسوم الأميركية المفروضة بنسبة 20 في المئة على واردات صينية مرتبطة بمادة الفنتانيل سارية المفعول، ما يعني أن إجمالي الرسوم على الصين سيستقر عند 30 في المئة.
في المقابل، أعلنت الصين التزامها بخفض الرسوم على السلع الأميركية إلى 10 في المئة، مع تعليق رسوم إضافية بنسبة 24 في المئة لمدة 90 يومًا، ضمن حزمة من الإجراءات تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين الجانبين، وتهيئة المناخ لمرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي الثنائي على أسس أكثر استقرارًا على أن أن يدخل قرار تعليق الرسوم حيز التنفيذ في 14 مايو/أيار.
ويكشف هذا الاتفاق عن توجه استراتيجي أميركي، يسعى إلى تقليص العجز التجاري المتفاقم مع الصين من خلال تعزيز صادراته ودفع بكين إلى مزيد من الانفتاح على السلع والخدمات الأميركية، بما يعيد التوازن إلى الميزان التجاري ويدعم الصناعات المحلية.
وقد انعكست أصداء الاتفاق سريعًا على الأسواق العالمية، التي استقبلت هذه التطورات بإيجابية كبيرة؛ إذ ارتفعت العقود الآجلة لأسهم "وول ستريت"، كما صعد عائد السندات الأميركية لأجل 10 سنوات إلى أعلى مستوياته في شهر. كذلك، عزز الدولار الأميركي موقعه أمام عملات الملاذ الآمن، وسط موجة تفاؤل متصاعدة بأن هذا الاتفاق سيسهم في كبح احتمالات الركود العالمي التي كانت تلوح في الأفق.
تراجع في التوقعات
خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي لعامي 2025 و2026، من 3.3 في المئة في عام 2024 إلى 2.8 في المئة في عام 2025، قبل أن يتعافى إلى 3 في المئة في عام 2026، في ظل تصاعد التوترات التجارية الناتجة عن رفع الرسوم الجمركية من قبل الولايات المتحدة وردود الفعل المقابلة من شركائها التجاريين. واعتبر الصندوق أن "الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة حرجة"، محذرًا من أن "التصعيد السريع في النزاعات التجارية وارتفاع مستويات عدم اليقين يشكلان تهديدًا كبيرًا للنشاط الاقتصادي العالمي"، مؤكدًا أن هذا التصعيد يمثل "صدمة سلبية حادة للنمو". كما خفض توقعات نمو التجارة العالمية بنسبة 1.5 في المئة في 2025 ونحو 0.8 في المئة في 2026، لتسجل 1.7 و2 في المئة على التوالي.
وتوقع الصندوق أن يتباطأ النمو في الولايات المتحدة إلى 1.8 في المئة خلال العام الحالي، أي أقل بمقدار 0.9 نقطة مئوية مقارنة بتقديرات كانون الثاني/يناير التي كانت عند 2.7 في المئة. وعزا هذا التراجع إلى تصاعد حالة عدم اليقين المرتبطة بالسياسات الاقتصادية، والتوترات التجارية المتزايدة، وانخفاض زخم الطلب المحلي، معبرًا عن قلقه من احتمالية دخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود خلال عام 2025، التي أصبحت أعلى من السابق. ومن المتوقع أن يمتد هذا التأثير السلبي إلى العام المقبل، حيث يُرجح أن يتباطأ النمو الأميركي إلى 1.7 في المئة، بانخفاض قدره 0.4 نقطة مئوية عن التقديرات السابقة.
أما في منطقة اليورو، فتوقع صندوق النقد أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي 0.8 في المئة في عام 2025، قبل أن يرتفع بشكل طفيف إلى 1.2 في المئة في العام التالي، وهو ما يبقى أقل بنحو 0.2 نقطة مئوية عن التوقعات السابقة لكلا العامين، مدفوعًا بزيادة الغموض في بيئة الأعمال وتنامي تأثير الرسوم الجمركية.
تصعيد أم تفاوض؟
مما لا شك فيه أن "يوم التحرير" أحدث ارتباكًا واسعًا لدى شركاء الولايات المتحدة الرئيسيين، وتسبب في تذبذب حاد بأسواق الأسهم والسندات، التي لا تزال تحاول استيعاب توجهات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فرغم تأكيده المتكرر أن فرض الرسوم الجمركية يهدف إلى تمويل تخفيضات ضريبية، وتقليص العجز التجاري، وجذب الاستثمارات الأجنبية لتحفيز الصناعة المحلية، إلا أن هذه الإجراءات أسهمت، في المقابل، في تعميق حالة الغموض وعدم اليقين في الأسواق العالمية. وقد شكّلت التقلبات المستمرة في تطبيق الرسوم - ما بين الفرض والتراجع والتعليق- تحديًا كبيرًا للاستقرار في النظام التجاري العالمي، وأثارت مخاوف متزايدة بشأن مستقبل العلاقات الاقتصادية الدولية.
وعلى الرغم من إعلانه تعليق الرسوم الجمركية مؤقتًا، لم يستبعد ترامب إعادة تفعيلها في أي وقت، مشيرًا إلى غياب جدول زمني واضح لزيادتها. وقد منح مهلة مدتها 90 يومًا، وُصفت بأنها "فرصة للتفاوض"، تتيح للدول المعنية التوصل إلى اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة، وإلا فإنها قد تواجه موجة جديدة من الرسوم الجمركية المرتفعة، وربما الأوسع نطاقًا حتى الآن. وفقًا لصحيفة "وول ستريت جورنال"، ستبدأ الولايات المتحدة باستضافة مفاوضين من نحو 18 دولة، بمعدل ست دول أسبوعيًا على مدى ثلاثة أسابيع، في إطار جهود منظمة لتنسيق طلبات الإعفاء من الرسوم الجمركية قبل الموعد النهائي المقرر في منتصف يوليو/تموز.
بين الأهداف السياسية والاقتصادية المتشابكة، والاتفاق الأميركي-الصيني المفاجئ الذي كبَح جماح حرب تجارية قاسية وأنعش الأسواق العالمية، يعيش العالم لحظة ترقّب حاسمة، منتظرًا ما ستكشف عنه الأيام والأشهر المقبلة. فهل تكون الرسوم الجمركية ورقة ضغط استراتيجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب في المفاوضات التجارية مع الدول الأخرى، بهدف تحقيق شروط تجارية أكثر فائدة للولايات المتحدة وتعزيز موقعها الاقتصادي وزيادة مكاسبها في الساحة الدولية؟ أم أن هناك دوافع خفية غير معلنة ستتضح مع مرور الوقت، مما يُعيد صياغة المشهد الاقتصادي الدولي بشكل غير مسبوق؟