البروفيسور مكي مدني الشبلي*
مع دخول الصراع في السودان عامه الثالث، واستمرار تمسّك طرفي الحرب بالحل العسكري الواهم، تبرز ضرورة ملحّة لتفكيك البعد الاقتصادي لهذا الحل لدى كل طرف، وفهم تأثيره على فرص إحلال السلام، وعلى مستقبل الحراك المدني والقوى السياسية. وتشير المعطيات إلى أن حكومتي بورتسودان ونيروبي المزمع تشكيلهما-الأولى بقيادة البرهان وحلفائه، والثانية بقيادة حميدتي وحلفائه- ستواجهان مآلات اقتصادية خانقة، حتى في حال افتراض نجاح أحدهما في تحقيق انتصار عسكري عسير المنال. ذلك أن الانقلاب المنتظَر لا ينحصر على نتيجة الحرب فحسب، بل يمتد ليشمل فقدان الشرعية، وتعرّض البلاد لعقوبات دولية، وتراجع الإيرادات، وانهيار القطاعات الإنتاجية.
أعباء الانتصار العسكري
بالنسبة للمحددات الاقتصادية المتعلقة بافتراض انتصار عسكري للجيش، فإن تحالفه سيواجه تحديات كبيرة تتمثل في الاعتماد على ميزانية عامة منهارة، قوامها موارد رسمية محدودة للغاية، معظمها يأتي من عائدات الموانئ والضرائب والشركات العسكرية. فإنتاج الذهب يُدار بشكل غير كفء بسبب ضعف الرقابة والفساد. فضلاً عن أن الدمار الشامل الذي خلّفه الانتصار العسكري في ولاية الخرطوم يعني فقدان أهم المراكز الاقتصادية الرئيسية والضرائب المرتبطة بها لعدة سنوات.
ومن ناحية أخرى، فإن الانتصار العسكري سيترتب عليه تبعات مالية طائلة، تتمثل في تمويل الجيش والمستنفَرين، بالإضافة إلى استيراد الأسلحة والمعدات، مما يشكل عبئًا ثقيلًا على الموارد الشحيحة، وقد يؤدي إلى التزامات خارجية تؤثر سلبًا على استقلالية المسار. كما سيواجه الجيش أزمة حادة في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والخدمات الصحية، في ظل بنية تحتية شبه منهارة، مما يؤثر بشكل جوهري على النشاط الاقتصادي.
ويعزز كل هذه الضغوط الاقتصادية فقدان الدعم الدولي، حيث إن المؤسسات المالية الدولية لا تعترف بحكومة بورتسودان الداعمة للجيش، مما يحرمها من القروض والاستثمارات. كما أن العقوبات الغربية المفروضة تعيق قدرة الحكومة على الوصول إلى أصول الدولة السودانية المجمدة في الخارج. أما فيما يتعلق بالتجارة الداخلية والخارجية، فإن الحل العسكري، في حال افتراض انتصار الجيش، سيؤدي إلى فقدان السودان للسوقين المحلي والخارجي بسبب تبعات الحرب وانعدام الأمن، فضلاً عن تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي، مما يؤدي إلى انخفاض الصادرات وارتفاع أسعار السلع، خاصة أزمة الوقود وارتفاع تكاليف النقل التي تعوق حركة التجارة.
اقتصاد تحت الحصار
وباستخدام فرضية تحقيق انتصار عسكري للدعم السريع وحلفائه، فإنه سيواجه تحديات كبيرة بسبب اعتماده على اقتصاد مافيوي موازٍ قائم على تهريب الذهب، والنهب، والابتزاز، وربما يتلقى دعماً سرياً من أطراف خارجية، إضافة إلى شبكات تهريب إقليمية. ومع ذلك، قد لا يواجه تحديات كبيرة في تحمل التكاليف اللوجستية لقواته، حيث إن معظمها تُموَّل ذاتياً (بشكل لا مركزي) من موارد السيطرة الجغرافية. ويفاقم من حدة هذه المآلات الاقتصادية العزلة الدولية، فالدعم السريع لا يحظى باعتراف دولي، مما يمنعه من الحصول على تمويل دولي أو استثمارات ذات مصداقية.
بالإضافة إلى أن التعاملات المالية الخارجية للدعم السريع وحلفائه تعترضها مصاعب كبيرة بسبب العقوبات الدولية على شبكاته المالية. ونظراً لمحدودية خبرة الدعم السريع في إدارة شؤون الدولة، فإنه سيواجه صعوبات كبيرة في توفير الخدمات في مختلف أنحاء السودان نتيجة لضعف الموارد والكوادر، وانعدام البنية التحتية، مما يجعل نقل الإمدادات والبضائع صعباً ومكلفاً. ومن ناحية أخرى، سيواجه الدعم السريع وحلفاؤه تحديات في التحكم في الاقتصاد المحلي، بسبب معاناة معظم الأسواق من الفوضى الأمنية وغياب مؤسسات الدولة، مما يحد من أي نشاط اقتصادي منظم.
الحرب وتدمير الاقتصاد
أما بالنسبة للتحديات المشتركة التي ستواجه طرفي الحرب في خيار الحسم العسكري، فإنهما يشتركان في مواجهة تحديات كبيرة، منها انهيار قيمة الجنيه السوداني الذي فقد جزءًا كبيرًا من قيمته بسبب الحرب، حيث وصل الانخفاض إلى نحو 350 في المئة، مما أدى إلى تضخم جامح يفاقم السخط الشعبي عليهما. وتجدر الإشارة إلى أن معدلات التضخم ارتفعت بعد عامين من الحرب لأكثر من 400 في المئة، بينما وصلت نسبة البطالة إلى نحو 50 في المئة، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقارب 41 في المئة، في حين انخفضت الإيرادات العامة بنسبة تصل إلى 75 في المئة. كما يُقدّر تراجع الجهد الضريبي بنحو 2 في المئة مقارنةً بنحو 5 في المئة قبل اندلاع الحرب.
وعلاوة على ذلك، فإن انعدام الأمن وانتشار السلاح سيؤثر سلبًا على الاقتصاد، مما يؤدي إلى هروب المستثمرين وانهيار القطاعات الإنتاجية، خاصة قطاع الزراعة المتضرر أساسًا من النزوح وانعدام الأمن، مما يفاقم مشكلة انعدام الأمن الغذائي.
كما أن الحسم العسكري سيؤدي إلى غياب النظام المصرفي الفعّال بالنسبة للطرفين، نظراً للنهب والدمار الذي لحق بالبنوك، مما يحصر معظم التحويلات المالية في السوق السوداء ويعيق التجارة والاستثمارات. كما أن الشركاء التجاريين للسودان سيحجمون عن التعامل مع أي من الطرفين بسبب الغموض السياسي والتدهور الاقتصادي.
ستؤدي هذه التحديات جميعها إلى فقدان الثقة الشعبية في طرفي الحرب، حيث يتجلى اهتمامهما بالبقاء في السلطة أكثر من إصلاح الاقتصاد. كما سيشكل تدمير البنى التحتية أحد التحديات الكبرى التي ستواجه الطرف المنتصر عسكرياً، حيث انهارت شبكات الكهرباء والمياه والطرق والمدارس والمستشفيات، إضافة إلى انهيار مؤسسات الدولة التنفيذية والمالية، مما يصعب إعادة تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. ومن ناحية أخرى، فإن أي طرف يحقق انتصاراً عسكرياً سيواجه ديوناً خارجية ضخمة تتجاوز 62 مليار دولار، معظمها متراكم من فوائد التأخير، مما يعقد أي جهود مستقبلية لإعادة الإعمار والتنمية ويجعل إدارة الديون تحدياً مركزياً أمام أي حكومة منتصرة عسكريًا.
ولا شك أن الانتصار العسكري سيورث من يحققه كارثة إنسانية غير مسبوقة، تتمثل في النزوح الجماعي للسكان، ونقص الغذاء والمياه والأدوية، وتفاقم الأوضاع الصحية، مما يتطلب استجابة عاجلة وموارد ضخمة غير متوفرة لإعادة الاستقرار المجتمعي. وفوق كل ذلك، فإن الطرف المنتصر عسكريًا سيواجه عزلة ومقاطعة دولية، مما يفاقم ضعف الثقة المحلية والدولية بسبب استمرار الحكم العسكري وغياب حكومة مدنية موحدة، مما يؤدي إلى حرمان السودان من الدعم المالي والمنح والقروض الدولية الضرورية لتخفيف الديون وإعادة الإعمار.
ويُرجح أن يؤدي ذلك إلى انفجار الاضطرابات الأمنية والسياسية، التي قد تجعل استمرار الطرف المنتصر في حكم السودان أمرًا صعبًا.
الحل التفاوضي: الخيار الأوحد
تشير هذه المآلات الاقتصادية القاتمة الناتجة عن الانتصار الافتراضي لأي من طرفي الحرب في إطار الحل العسكري إلى حتمية اللجوء إلى خيار الحل التفاوضي. فاقتصادات كسر العظم لإنهاء الحرب الكارثية في السودان تبرز ضرورة اللجوء إلى الحل السياسي كخيار أقل تكلفة وأكثر واقعية اقتصادية لجميع الأطراف، وفوقهم جميعًا أقل تكلفة على الشعب السوداني الذي دخلت معاناته من ويلات هذه الحرب الفاجرة عامها الثالث. إن اختيار طرفي الحرب لوسيلة إنهائها يجب ألا ينحصر فقط في الموازين العسكرية الوهمية، بل يجب أن يُبنَى الخيار على حسابات اقتصادية دقيقة تتعلق بالخسائر والمكاسب واستدامة النتائج. وعليه، يتحتم على الجيش والدعم السريع وكذلك القوى المدنية فهم أبعاد الاقتصاد السياسي لمآلات الحرب، وما يوفره الاقتصاد السياسي من فرص أو يلحقه من ضرر، قبل الاندفاع الاشتهائي نحو الحل العسكري المتوهّم الذي يعود عليهما وعلى الشعب السوداني بمآلات وَبِيلة.
* المدير التنفيذي
مركز مأمون بحيري - الخرطوم