رؤية لإنهاء الصراع في السودان
هل يتحول مؤتمر لندن
من حدث عابر إلى منصة مستدامة؟

17.04.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

البروفيسور مكي مدني الشبلي*

على خلفية الجمود السياسي الناجم عن إخفاقات مساري بورتسودان (الجيش وحلفاؤه) ونيروبي (قوات الدعم السريع وحلفاؤها)، وتفاقم الأزمة الإنسانية في السودان، نظر العالم إلى مؤتمر لندن كنقطة تحوّل حاسمة في مسار حرب السودان التي دخلت عامها الثالث. وساد تفاؤل بأن المؤتمر لن يكون كسابقيه مجرد تجمع دبلوماسي عابر، بل سيتحوّل إلى منصة سياسية مستدامة تُميّزه عن المبادرات السابقة الفاشلة. وفي ضوء هذه التطلعات، عُقد المؤتمر في لندن يوم 15 نيسان/أبريل 2025 بدعوة من المملكة المتحدة، وبمشاركة دولية وإقليمية واسعة شملت 17 دولة، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية. ولم تُدعَ الأطراف السودانية العسكرية المتحاربة للمشاركة، بحجة فشلها في الالتزام بوقف إطلاق النار، ورفض منح شرعية دولية لأي من الطرفين، وإفساح المجال لـ “المسار الثالث" المدني، وتجنب تسييس الملف الإنساني الذي يجرّه حضور الطرفين، بالإضافة إلى التحفظات الأوروبية على انتهاكات الطرفين.

لا بيان ختامي

بيد أن المؤتمر فشل في إصدار بيان ختامي موحّد بسبب اعتراضات بعض الدول الإقليمية الداعمة لطرفي النزاع، وهي مصر والإمارات والسعودية. وغلب على مخرجات المؤتمر الطابع الإنساني والإغاثي، مع تعهدات مالية تجاوزت مليار دولار لدعم السودان والدول المجاورة المتضررة من النزاع. فقد تعهّدت المملكة المتحدة وحدها بتقديم 120 مليون جنيه إسترليني إضافية (158 مليون دولار) لمساعدة المتضررين من الحرب، وتعهّدت ألمانيا بتقديم 125 مليون يورو، وفرنسا بتقديم 50 مليون يورو. ولم يُشكّل المؤتمر أي آلية لمتابعة وقف إطلاق النار أو إطلاق عملية سياسية جديدة، مما أعاد التأكيد على هشاشة الإرادة الدولية في التعاطي مع جذور الصراع في السودان.

ولعل اللافت في مخرجات مؤتمر لندن هو الدور المحوري الذي لعبته السعودية والإمارات ومصر في إفشال خروج المؤتمر ببيان ختامي نمطي موحد، وتشكيل مجموعة اتصال دولية لتيسير مفاوضات وقف إطلاق النار، رغم محدودية الدول الثلاث مقارنة ببقية المشاركين من الدول العظمى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. وقد سلّط ذلك الضوء على التناقض بين الوزن الجيوسياسي الظاهري لبعض الدول، والتأثير العملي الذي تفرضه أحياناً عوامل غير تقليدية. فالدول العربية الثلاث قد تكون "أضعف" من حيث التأثير الدولي، لكنها ليست الأضعف سياسياً أو تأثيراً في الملف السوداني، لأسباب استراتيجية. فإحدى الدول الإقليمية يُشتبه في دعمها اللوجستي والعسكري لقوات الدعم السريع، ودولة أخرى تميل لدعم الجيش السوداني بسبب تشابك الأمن القومي خاصة مع ملف سد النهضة وحساسية علاقتها مع إثيوبيا. أما السعودية، فرغم محاولاتها الظهور كوسيط، فقد استضافت مفاوضات جدة المتعثرة، مما جعلها تميل لاحقاً إلى موقف محافظ.

تغييب "المسار الثالث"

وعليه، فإن هذه الدول تمسك بخيوط التأثير الميداني عبر دعم مباشر أو غير مباشر لأطراف الصراع، مما يمنحها قدرة على تعطيل التوافقات الدولية حول "المسار الثالث" أو أي تسوية لا تمر عبر حلفائها من طرفي حرب السودان. ومن ناحية أخرى، لم يكن مؤتمر لندن سوى تجمّع لمجموعة دول عالمية وإقليمية ذات رؤى متباينة تجاه السودان، مما عقّد إصدار بيان ختامي يلبي الطموحات، في ظل غياب توافق جماعي أو على الأقل عدم وجود اعتراض صريح. وعليه، استغلت الدول العربية الثلاث حق التحفّظ أو الاعتراض ضد أي صياغة تُحمّل طرفاً بعينه مسؤولية الحرب، أو تُلمّح بعدم شرعية الأطراف المسلحة، أو تُروّج لمسار مدني ثالث كبديل. وقد ساعد هذه الدول جوهرياً في إفشال التوافق افتقارُ الولايات المتحدة وأوروبا إلى إرادة سياسية موحّدة أو أدوات حقيقية لتحجيم الدور الذي لعبته الدول العربية الثلاث في مخرجات مؤتمر لندن، واضعين في الاعتبار أن الإمارات هي الحليف الإستراتيجي الأول للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، وبالتالي يصعب فصل دورها العلني عن الدور الخفي للولايات المتحدة في مؤتمر لندن.

وعليه، فقد كشفت مآلات مؤتمر لندن عن انقسام دولي وإقليمي حول أطراف الصراع، تجلّى بوضوح في تمادي بعض الدول في استمرار نفوذها من خلال دعم أحد طرفَي الحرب. كما أبرزت تهميش الفاعلين المدنيين تَجَسَّد في غياب رسمي لتمثيل قوى "المسار الثالث" رغم أنها تٌعتبَر المَخْرَج الوطني الوحيد المتحرر من ثنائية الحرب، والتي تستمد سندها الشعبي الواسع من لجان المقاومة، والقوى المدنية المستقلة شاملة تجمع المهنيين، والحركات النسوية والمبادرات الشبابية، والشخصيات المستقلة من التكنوقراط والمجتمع المدني، والقاعدة الحزبية التي يرتكز عليها تحالف "تقدم" ومن بعده تحالف "صمود".

وعلى الرغم من فشل مؤتمر لندن في إحداث اختراق فوري، فقد أتاح فرصة حقيقية للبناء عليها نحو مسار مدني شامل يُخرج السودان من أتون الحرب. ويقع على عاتق المجتمع الدولي الذي شارك في المؤتمر مسؤولية الإقرار بهذه اللحظة المفصلية التي وفرها مؤتمر لندن، للتحول من مربع إدارة الأزمة إلى أفق تمكين قوى التغيير المدني لقيادة مشروع وطني متكامل، لتحقيق السلام والتحول الديمقراطي في السودان.

وبرغم فشل مؤتمر لندن في الخروج من حالة الحدث العابر، بصيرورته لمنصة سياسية مستدامة تُميّزه عن المساعي والمبادرات السابقة الفاشلة، يبقى أمل السودانيين معقوداً على مبادرات أكثر شمولاً تستوعب دور "المسار الثالث"، الذي يُشرك الأطراف السودانية المدنية والعسكرية، ويدعو إلى تبنّي أسس متماسكة لوقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، وإطلاق عملية سياسية ذات مصداقية.

آلية لإنهاء الصراع

وتتمثل الرؤية لآلية مستدامة لإنهاء الصراع وإعادة الإعمار في السودان فيما يلي:

1. التوافق على خارطة طريق واضحة ومتدرجة تشمل وقف إطلاق نار مُراقب ويُنفَّذ عبر آلية هجينة تتضمن أدوات تكنولوجية وبشرية تنطوي على مزيج من التقنيات الحديثة والأقمار الصناعية لتعزيز قدرات رصد الخروقات، إلى جانب عدد محدود من المراقبين العسكريين لبناء الثقة، وتفسير البيانات، ورفع التقارير، بحيث تُكَمِّل التكنولوجيا النجاعة البشرية ولا تحل محلها، وتساعد في تفعيل وإنفاذ ممرات إنسانية مستقلة.

2. إنشاء آلية دولية من مصادر ثنائية ومتعددة الأطراف للمتابعة السياسية والفنية، تشمل الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، ودول الترويكا، والاتحاد الأوروبي، بحيث تشرف هذه الآلية على تنفيذ الرؤية الاستراتيجية، وتقدم تقارير منتظمة إلى الشركاء الدوليين.

3. إنشاء أمانة سياسية دائمة مقرها لندن، للاستفادة من دور بريطانيا كـ “حاملة القلم" بشأن السودان في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لتنسيق اجتماعات ربع سنوية، والتواصل الدبلوماسي، والمساعدة الفنية.

4. الإدماج المؤسسي للقوى المدنية "المسار الثالث" بتعظيم دور لجان المقاومة كممثل شرعي لثورة كانون الأول/ ديسمبر السودانية، وضمان مشاركتها في العمليات السياسية المستقبلية، وبناء قدراتها لتطوير انتشارها الجغرافي لينبثق عنه كيان هرمي فاعل سياسياً ومسيطر ميدانياً، يعبِّر حصريَّاً عن تطلعات السودانيين في تحقيق أهداف ثورة ديسمبر الشعبية. أما بالنسبة لتحالفات تقدم (صمود)، وتجمع المهنيين، والأحزاب، فيَحْسُن لها العودة للتوحد في كيان الحرية والتغيير عبر إطلاق حوار مسؤول يرمي لجمع الشمل مجدداً حول أهداف ثورة ديسمبر بعد التشظي الذي أفرزته صراعات الاستئثار بالسلطة.

5. إنشاء صندوق دولي للإنعاش المدني بإدارة شفافة من قبل هيئات مدنية مستقلة، تحت إشراف دولي، لتمويل الاستجابة الإنسانية، وتوفير الخدمات الأساسية، وبناء المؤسسات والبنى التحتية التي دمرتها الحرب، ودعم فترة انتقالية لا تقل عن خمس سنوات، تُنفَّذ خلالها بنود عقد اجتماعي بين الدولة والشعب السوداني، والمساعدة في تهيئة الظروف لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
مع مراعاة ضرورة ربط السحب من صندوق الدعم الدولي بالتزامات ملموسة والتقدم المُحرَز في مسار الانتقال المدني.

 

*المدير التنفيذي - مركز مأمون بحيري، الخرطوم