الشرق الأوسط:
خريطة طريق للتعافي الاقتصادي بعد الصراع

08.04.2025
الدكتور جهاد أزعور
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

تحت عنوان "خريطة طريق للتعافي الاقتصادي بعد الصراع في منطقة الشرق الأوسط"، نشر د. جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، مقاله في صحيفة "ذا ناشونال"، مستعرضًا رؤيته وتوجهاته بشأن الآفاق الاقتصادية للمنطقة بعد فترات الصراع.

 أزعور أشار إلى أن إعادة بناء الاقتصادات بعد الصراع تعدّ تحديًا كبيرًا، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تركت عقود من الحروب آثارًا دائمة على الهياكل الاقتصادية والمجتمعات. ومع التحولات في المشهد السياسي، ظهرت فرصة حاسمة لدعم التعافي بعد الصراع. وستكون المساعدة المالية الدولية أمرًا بالغ الأهمية، لكن السؤال الأساسي يبقى: كيف يمكن لجهود إعادة الإعمار وتنفيذ السياسات أن تحقق أداءً اقتصاديًا مستدامًا وتحسن حياة الناس؟

وأوضح أن الدمار الاقتصادي الناتج عن الصراع في منطقة الشرق الأوسط هائل، لكن العواقب الاجتماعية تتجاوز ذلك بكثير في عمق تأثيرها. ففي أواخر 2023، كانت المنطقة تستضيف أكثر من 40 في المئة من السكان النازحين قسريًا في العالم، وهو ما يعكس التكلفة الإنسانية الباهظة للصراع. أدى النزاع أيضًا إلى تآكل رأس المال البشري، حيث تراجعت نسبة التحاق الأطفال بالمدارس الابتدائية بنسبة تصل إلى 30 في المئة في بعض المناطق، وانخفض متوسط العمر المتوقع في المناطق الأكثر تضررًا بحوالي عقد كامل. كما انهارت أنظمة الرعاية الصحية الهشة تحت وطأة الصراع، مما عرقل التعافي الاقتصادي والنمو المستقبلي. في الوقت نفسه، زادت معدلات الفقر المدقع وانعدام الأمن الغذائي، مما أثر بشكل كبير على السكان المحليين.

وأضاف أزعور أن الصراعات في المنطقة تسببت في تدهور سريع للبنية التحتية المادية والمؤسسية، مما فاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. فقد تكبدت اليمن خسائر في بنيتها التحتية تجاوزت 20 مليار دولار، أي ما يعادل نحو نصف ناتجها المحلي الإجمالي قبل الحرب. وفي المقابل، فقدت سوريا أكثر من 130 مليار دولار من رأس المال المادي، ما يعادل 230 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي قبل الحرب، في حين تراجع ناتجها المحلي الإجمالي للفرد بنسبة تصل إلى الثلث. أظهرت دراسة لصندوق النقد الدولي أن ناتج الفرد في المنطقة انخفض بنسبة 2 في المئة في السنة الأولى من النزاع، مع خسائر تراكمية تجاوزت 13 في المئة على مدى العقد التالي. وحتى بعد عقد من انتهاء الأعمال العدائية، لا يزال ناتج الفرد في البلدان المتأثرة بالصراع أقل بنسبة 10 في المئة على الأقل مقارنة بالاتجاهات السابقة. كما امتدت التأثيرات السلبية إلى الدول المجاورة، حيث انخفض ناتج الفرد بنسبة تصل إلى 6 في المئة بعد 10 سنوات.

وفقًا لبحث جديد من صندوق النقد الدولي، يمكن لكل دولار يُستثمر في منع الصراع أن يوفر ما بين 26 و103 دولارات من التكاليف المحتملة المرتبطة بالصراع، بما في ذلك الاحتياجات الإنسانية والخسائر الناتجة عن تراجع الناتج بعد الحرب. ومع عودة الاستقرار تدريجيًا إلى بعض مناطق المنطقة، تظهر فرص جديدة لإعادة الإعمار الاقتصادي. فقد شكّلت لبنان حكومة جديدة، بينما تعمل الإدارة الانتقالية في سوريا على استعادة الخدمات الأساسية. ورغم التحديات المستمرة في اليمن، إلا أنه يحقق تقدمًا ملحوظًا في بعض الإصلاحات. ومع ذلك، لا يزال تأثير الصراع مستمرًا على اقتصادات ليبيا والسودان والضفة الغربية وقطاع غزة.

وتابع قائلاً إنه من أجل تحقيق تعافٍ طويل الأمد ومستدام، سيكون من الضروري إعادة بناء رأس المال البشري وتهيئة بيئة أعمال تشجع على نمو القطاع الخاص. تمتلك معظم دول المنطقة جاليات كبيرة وناجحة في الخارج، مما يفتح فرصة ثمينة للاستفادة من خبراتهم ومواردهم المالية لدعم التنمية المحلية.

في هذا السياق، ذكر جهاد أزعور أن اجتماعًا رفيع المستوى جرى في العلا، المملكة العربية السعودية، جمع صانعي السياسات والمؤسسات المالية وخبراء التنمية لمناقشة استراتيجيات مبتكرة لإعادة بناء اقتصادات الشرق الأوسط. وأكد المشاركون أن المساعدات المالية وحدها لا تكفي، وأن إعادة بناء المؤسسات بشكل شامل، والتنسيق الفعّال للسياسات، والاستثمار في التعافي والإدماج تُعد من الركائز الأساسية. كما اقترح الحضور إطارًا استراتيجيًا يرتكز على إجراء تقييمات اقتصادية مخصصة لكل دولة، وتطوير برامج تأهيل اقتصادية وفقًا للاحتياجات المحلية، وتحريك الأموال الدولية عبر جهود إعادة إعمار منسقة. كما تم التأكيد على أهمية إنشاء مجموعة تنسيق بين المؤسسات الإقليمية والدولية لضمان توافق استراتيجيات التعافي ودعم الجهات المانحة بشكل فعّال.

وبحسب مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، يجب على المجتمع الدولي تسريع تطوير نهجه لدعم التعافي الاقتصادي بعد الصراع في المنطقة. ولإعادة البناء بشكل فعال، يُعدّ النهج التعاوني والمُصمم حسب احتياجات كل دولة أمرًا حيويًا. يجب أن تركز جهود التعافي من قبل الحكومات والمؤسسات العالمية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ووكالات الأمم المتحدة، وصناديق التنمية الإقليمية، على ثلاثة مجالات أساسية:

أولاً، تعد التقييمات الاقتصادية الشاملة حاسمة لفهم التحديات الاقتصادية التي تواجهها الدول بعد الصراع، حيث تختلف ظروف كل دولة. على سبيل المثال، ستحتاج سوريا إلى إعادة بناء مؤسساتية كبيرة، بينما يحتفظ لبنان ببعض المؤسسات القادرة على دعم التعافي رغم أزمته الاقتصادية. يمكن لصندوق النقد الدولي تقديم الإرشادات السياسية من خلال التعاون مع السلطات الوطنية لتطوير إطار اقتصادي كلي يتماشى مع احتياجات إعادة الإعمار واستراتيجيات التعافي الفعّالة.

ثانيًا، يُعدّ معالجة نقاط الضعف المؤسسية أمرًا حيويًا للتعافي المستدام. يجب أن تركز الجهود الأولية على إصلاح النظام المالي والنقدي والمصرفي لاستعادة الثقة والاستقرار. يمكن لصندوق النقد الدولي دعم بناء القدرات المؤسسية واستعادة القدرة على إجراء العمليات المالية الأساسية، مثل إعداد وتنفيذ الميزانية، بالإضافة إلى تصميم وتنفيذ الإصلاحات اللازمة. يتضمن ذلك تعزيز أطر الحوكمة لإدارة المساعدات الدولية بشكل فعال وإصلاح المؤسسات النقدية لاستعادة المصداقية، مما يساهم في تسريع التعافي الاقتصادي.

ثالثًا، يعد تحريك المساعدات المالية أمرًا بالغ الأهمية لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة وتمويل برامج الإصلاح الاقتصادي ومشاريع إعادة الإعمار. يمكن لصندوق النقد الدولي تقديم المساعدات المالية المستهدفة من خلال برامج إقراض منظمة وتشجيع دعم المانحين. من الضروري التنسيق بين الشركاء العالميين والإقليميين لمنع التجزؤ، وقد يتطلب الأمر أيضًا تخفيف الديون لضمان قدرة الدول على إعادة البناء دون زيادة عبءها المالي. كما يمكن لصندوق النقد الدولي تسهيل التنسيق العالمي لتعزيز مشاركة المانحين والتعاون عبر الحدود.

وفي الختام، أوضح أزعور أن التعافي الحقيقي بعد الصراع يتطلب إعادة بناء مستدامة وطويلة الأمد، وليس مجرد حلول قصيرة الأجل. ويحتاج إلى نهج شامل يركز على إعادة بناء المؤسسات، وتنفيذ الإصلاحات طويلة الأمد، وتعزيز القدرة الاقتصادية على التحمل. لذا يجب على المجتمع الدولي اتخاذ إجراءات حاسمة والعمل جنبًا إلى جنب مع السلطات المحلية للاستثمار في مستقبل يمكّن هذه الاقتصادات من تحقيق الاكتفاء الذاتي والازدهار والاستقرار الإقليمي. كل دولة في منطقة الشرق الأوسط تواجه تحديات فريدة، مما يستدعي استراتيجيات شاملة ومخصصة. في هذا السياق، تتحمل السلطات الوطنية مسؤولية كبيرة في إعادة بناء اقتصادات أقوى تعود بالنفع على جميع المواطنين.

 كما حذر من أن تكلفة عدم التحرك مرتفعة ولا تقتصر على زيادة خطر العودة إلى عدم الاستقرار، بل تمتد أيضًا إلى تقويض الثقة لدى الجهات الدولية والإقليمية المعنية. إذ لن يتحقق التقدم إلا من خلال الالتزام المستمر لضمان الخروج من دائرة الصراع نحو مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا