سوريا على مفترق
هل يولد اقتصاد جديد من رماد الحرب؟

03.02.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
سوليكا علاء الدين

 مع انهيار نظام حكم الأسد، تدخل سوريا مرحلة تاريخية حاسمة، إذ تواجه سلسلة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشكل تهديداً وجودياً لاستقرار الدولة، مما يضعها أمام مفترق طرق حساس ستكون له تبعات عميقة وطويلة الأمد على مستقبلها لعقود مقبلة. في ظل هذه التحولات السريعة، تبرز مسألة "إنقاذ الاقتصاد" كأولوية ملحة، خصوصاً في ظل الدمار الشامل الذي لحق بالبشر والحجر طوال سنوات الحرب، ما أدى إلى تدمير بنية الاقتصاد وتآكل قدرته الإنتاجية.

في هذا السياق، تشير التقارير إلى أن الاقتصاد السوري قد يحتاج إلى نحو عشر سنوات لاستعادة مستويات ما قبل الحرب، بعد أن فقد 24 عاماً من التنمية البشرية وخسر نحو 85 في المئة من قيمته. وقد تراجع إلى المركز 129 في تصنيف الدول بسبب النزاع المستمر منذ 14 عاماً. ففي عام 2023، بلغ الناتج المحلي الإجمالي 9 مليارات دولار، مقارنة بـ 67.5 مليار دولار في 2011. كما تم تقدير الخسائر الناتجة عن النزاع بين 8.7 و11.4 مليار دولار حتى كانون الثاني/يناير 2022، مع تدمير البنية التحتية المادية بنسبة 68 في المئة من إجمالي الأضرار، ما يعادل بين 5.8 و7.8 مليارات دولار.

رغم هذا الواقع الصعب، يتطلع الشعب السوري إلى تحقيق قدر من الاستقرار الاقتصادي المؤقت، آملاً أن يكون هذا الاستقرار شرارة تُعيد إحياء الأمل من جديد، وتُمهد الطريق نحو بناء مستقبل واعد؛ بحيث يُشكّل ذلك نقطة انطلاق نحو تعافٍ اقتصادي مستدام يسهم في استعادة سوريا مكانتها الإقليمية والدولية، ويؤسس لعهد جديد من النمو والازدهار.

اقتصاد سوريا: تحديات وأفق مجهول

على مدار خمسين عاماً، تعرّض الاقتصاد السوري لتحولات جذرية في السياسات الاقتصادية التي اتبعها نظام الحكم السابق. ففي عهد الأسد الأب، اعتمد الاقتصاد على النموذج الاشتراكي المخطط، ثم تحول تدريجياً إلى نموذج مختلط يدمج بين عناصر السوق مع استمرار سيطرة الحكومة على موارد الدولة. وقد شهد هذا التحول عدة مراحل، بدءاً من محاولات إدخال إصلاحات ليبرالية محدودة في عهد الأسد الابن، وصولاً إلى تطور الاقتصاد ليصبح "اقتصاد حرب" بعد اندلاع الأزمة السورية عام 2011. نتيجة لهذه التحولات السريعة والمستمرة، أصبح الاقتصاد السوري اليوم مزيجاً معقداً ومتشابكاً من السياسات المتناقضة، حيث هيمن "اقتصاد الظل" ليغدو جزءاً أساسياً وحيوياً في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية. 

قبل عام 2011، كان الاقتصاد السوري يتمتع باستقرار نسبي، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي 60 مليار دولار بمعدل نمو سنوي قدره 5 في المئة، مدفوعاً بتنوع القطاعات الاقتصادية، واستقرار سعر الصرف، بالإضافة إلى الدور الفعّال الذي يلعبه قطاع النفط. ومع ذلك، شكّلت بداية الحرب نقطة تحول كارثية، إذ انهارت الليرة السورية وتآكلت الاحتياطيات الأجنبية بسبب النزاع والعقوبات المفروضة، ما أسفر عن انهيار الاقتصاد بشكل ملحوظ.

في منتصف عام 2024، أصدر "المرصد الاقتصادي لسوريا" التابع للبنك الدولي تقريراً متشائماً، متوقعاً استمرار تدهور الاقتصاد السوري، مع ارتفاع معدلات التضخم والفقر. وفي عام 2023، انخفض النشاط الاقتصادي بنسبة 1.2 في المئة، كما شهد قطاع النفط تراجعاً بنسبة 5.5 في المئة نتيجة الأضرار الناتجة عن الزلازل والصراعات المستمرة. 

قبل اندلاع الحرب، كانت سوريا تنتج نحو 400,000 برميل من النفط يومياً. لكن الإنتاج تراجع بشكل كبير ليصل إلى 25,000 برميل يومياً في عام 2018. ومع استعادة الحكومة لبعض الحقول النفطية، ارتفع الإنتاج إلى 40,000 برميل يومياً في عام 2023. أما في مجال الغاز، فقد كان الإنتاج في عام 2010 نحو 800 مليون قدم مكعبة يومياً، إلا أنه انخفض بشكل حاد بسبب النزاع ليصل إلى 25,000 برميل يومياً حالياً.

علاوة على ذلك، تسبب الصراع في سوريا في دمار كبير للقطاع الزراعي، حيث أسفر عن نزوح العديد من المزارعين وتدمير البنية التحتية وشبكات الري، مما انعكس سلباً على المحاصيل الزراعية. قبل عام 2011، كانت سوريا تحقق الاكتفاء الذاتي في إنتاج القمح وتصدير القطن، إلا أن النزاع دمر نحو 32 في المئة من الأراضي الزراعية، مما أدى إلى تراجع إنتاج القمح من 1.55 مليون طن سنوياً إلى مليون طن في عام 2022. كما انخفض إنتاج القطن والتبغ بشكل ملحوظ. أسهمت الاضطرابات في تدهور التجارة الخارجية وزيادة الاعتماد على الواردات، خاصة المواد الغذائية، نتيجة انخفاض الإنتاج المحلي.

وفي عام 2023، سجلت الليرة السورية تراجعاً حاداً بنسبة 141 في المئة مقابل الدولار، في حين ارتفعت معدلات التضخم بنسبة 93 في المئة. وتوقع المرصد استمرار الانكماش الاقتصادي في 2024 بنسبة 1.5 في المئة بعد انخفاض قدره 1.2 في المئة في 2023. وفقاً لتقرير البنك الدولي، بلغ معدل الفقر في سوريا 69 في المئة من السكان في 2022، مما يعكس عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها الحرب.

اقتصادات الجوار في خطر

أسفر الصراع في سوريا عن دمار هائل في الاقتصاد الوطني، مما ألحق أضراراً اقتصادية بالدول المحاذية نتيجة تدفق اللاجئين، وتعطيل سلاسل الإمداد، وتدهور البنية التحتية. ورغم غموض آفاق الاستقرار في سوريا، فإن أي هدنة قد تفتح الباب لبدء عملية إعادة الإعمار، مما سينعكس إيجابًا على اقتصادات الدول المجاورة من خلال تعزيز التبادل التجاري وزيادة الاستثمارات.

في تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2020 بعنوان "تداعيات الحرب: الآثار الإقليمية للصراع في سوريا"، تم تسليط الضوء على التأثيرات العميقة للصراع السوري على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المجاورة، وخاصة العراق والأردن ولبنان، التي تكبدت خسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة جراء تداعيات الحرب.  فقد انخفضت معدلات النمو السنوية لإجمالي الناتج المحلي بمقدار 1.2 نقطة مئوية في العراق، و1.6 نقطة في الأردن، و1.7 نقطة في لبنان، في تراجع تراكمي بلغ 11.3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لهذه البلدان مقارنة بالعام 2010. وقد انتقلت تبعات الحرب إلى هذه البلدان عبر عدة قنوات، حيث أدَّت صدمة التجارة إلى تراجع الناتج المحلي بنسبة -3.1 نقطة في الأردن و-2.9 نقطة في لبنان نتيجة تعطُّل حركة التجارة العابرة عبر سوريا وقطاع السياحة. في المقابل، أسهم تدفق اللاجئين في زيادة الطلب المحلي والعرض من الأيدي العاملة، مما رفع الناتج المحلي بمقدار 0.9 نقطة مئوية في كلا البلدين.

إضافة إلى التأثيرات الاقتصادية، أدَّت الحرب إلى زيادة معدلات الفقر بنسبة 4 نقاط مئوية في الأردن و7.1 نقاط في لبنان، بينما ساهم النزوح الداخلي في زيادة الفقر بنسبة 6 نقاط مئوية في العراق. كما أسهم تدفق اللاجئين في زيادة الضغط على الخدمات العامة مثل التعليم والمياه، مما أدى إلى تفاقم الازدحام السكاني ورفع الأعباء المالية، على الرغم من الجهود المبذولة للتكيف مع الوضع الراهن.

اقتصاد ما بعد الحرب

عقب انهيار نظام الأسد، أعلنت الحكومة المؤقتة عن الانتقال إلى "اقتصاد السوق الحر المفتوح"، الذي يعتمد على مبدأ قانون العرض والطلب مع تعزيز المنافسة الحرة. وقد تجسد هذا التحول في تحسن لسعر صرف الليرة السورية، حيث تراوحت قيمتها بين 10,000 و12,500 ليرة مقابل الدولار.

رغم هذا الإعلان، تظل الآراء منقسمة بشأن مستقبل الاقتصاد السوري في ظل التحولات السياسية المحتملة، بين التفاؤل الحذر والتشاؤم المقلق. من جانب، يعتقد البعض أن عودة اليد العاملة واستثمار الكوادر البشرية المؤهلة، إلى جانب اعتماد نموذج اقتصادي أكثر انفتاحاً، قد يسهم في تحقيق نمو اقتصادي ملموس. كما أن جذب الاستثمارات العربية والدولية، وعودة السوريين المقيمين في الخارج مع رؤوس أموالهم وخبراتهم، قد يكون له دور كبير في تحفيز عملية إعادة الإعمار.

من جهة أخرى، يشكك البعض في قدرة البلاد على التعافي السريع في ظل حجم الدمار الكبير، وغياب الاستقرار السياسي، وتأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد. كما أنّ إعادة بناء البنية التحتية المتضررة، وبناء مؤسسات حكومية فعّالة، وتوفير بيئة استثمارية جاذبة، ستتطلب وقتاً وجهداً كبيرين. إضافة إلى ذلك، يُعد تحقيق الاستقرار السياسي - الذي لا يزال هشّاً في الوقت الراهن - حجر الزاوية لنجاح عملية إعادة إعمار سوريا، حيث سيلعب دوراً حاسماً في جذب الاستثمارات الضرورية لإنعاش الاقتصاد واستعادة الثقة في المستقبل. ناهيك عن دور الاستقرار في تقليص التوترات الإقليمية وفتح آفاق جديدة للتعاون والدعم، خاصة مع الدول العربية، مما سيسهم في تعزيز التمويل والمساعدة الدولية لسوريا في مراحل إعادة البناء.

آفاق التعافي والفرص المهددة

تمثل إعادة بناء الاقتصاد السوري تحدياً هائلاً يتطلب تنسيقاً مشتركاً بين الحكومة السورية والمجتمع الدولي، إذ يحتاج الأمر إلى استراتيجيات شاملة تهدف إلى إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة وتحفيز القطاعات الحيوية، مع ضمان استقرار مالي مستدام. يتطلب ذلك تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، وتعزيز الحقوق السياسية، وإصلاح المؤسسات الحكومية لضمان الشفافية والكفاءة. بالإضافة إلى معالجة الآثار الاجتماعية والنفسية العميقة الناتجة عن الحرب، ودعم النازحين، وضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم في بيئة آمنة وكريمة.

رغم التحديات الجسيمة التي تواجهها، تمتلك سوريا مقومات أساسية تمكّنها من تحقيق انتعاش اقتصادي شامل، أبرزها التركيز على استعادة القطاعات الحيوية التي كانت تمثل ركائز الاقتصاد السوري قبل الحرب، مثل قطاعي النفط والزراعة. يُعد النفط من أبرز الثروات الطبيعية التي تمتلكها سوريا، حيث تحتل المرتبة 31 عالمياً من حيث احتياطيات النفط والغاز الطبيعي، إذ تقدر احتياطاتها بنحو 2.4 مليار برميل من النفط و9 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي. إضافة إلى ذلك، تمتلك سوريا احتياطيات ضخمة من الفوسفات تقدر بنحو 1.5 مليار طن، وكانت تنتج بين 3 إلى 4 ملايين طن سنوياً قبل أن تتأثر الصناعة بفعل تداعيات الحرب.

قبل عام 2011، كان قطاع النفط يشكل نحو 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويُعد المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومية. ومع التراجع الحاد في الإنتاج بنسبة تجاوزت 90 في المئة، يصبح إعادة تأهيل هذا القطاع نقطة تحول محورية لإنعاش الاقتصاد السوري. إذ يمكن أن يسهم جذب شركات الطاقة العالمية للاستثمار في عمليات الاستكشاف والاستخراج في زيادة الإيرادات الحكومية وتحفيز النمو. علاوة على ذلك، سيسهم استعادة الإنتاج النفطي في توفير الطاقة اللازمة للقطاع الصناعي، مما يعزز النشاط الصناعي ويقوي الاقتصاد الوطني. وبالتالي، يمكن لهذه الثروات الطبيعية أن تُشكل فرصة واعدة لإعادة بناء الاقتصاد، إذا تم استغلالها بشكل فعال.

يُعد القطاع الزراعي ركيزة أساسية لنهضة الاقتصاد السوري، حيث كان يشكل 30 في المئة من الناتج المحلي ويوفر 40 في المئة من فرص العمل قبل الحرب. ورغم الأضرار الكبيرة التي لحقت به، فإن إحيائه من خلال دعم المزارعين، تحديث تقنيات الري، وإعادة بناء البنية التحتية الزراعية يسهم في تعزيز الأمن الغذائي، وتقليل الاعتماد على الواردات، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.

أرض الإعمار.. والأطماع

لا شك أن الحرب في سوريا خلّفت دماراً هائلاً طال معظم البنية التحتية والموارد الحيوية، مما جعل عملية إعادة الإعمار مهمة ضخمة ومعقدة تتطلب جهوداً مستمرة ومتضافرة على كافة الأصعدة. ورغم تفاوت التقديرات حول التكلفة المطلوبة، يتفق جميع الأطراف على ضرورة وضع خطة شاملة تحقق الاستقرار السياسي وتراعي التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. هذا وتشير تقارير البنك الدولي والأمم المتحدة إلى أن تكلفة إعادة الإعمار تقدر بين 250 و300 مليار دولار.

تُشكّل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية، خاصة بعد إصدار "قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا"، عائقاً رئيسياً أمام انتعاش الاقتصاد السوري، ما يحد من قدرة الحكومة على تمويل نشاطاتها. وأشار تقرير "وول ستريت جورنال" إلى أن القادة الجدد في سوريا يواجهون تحديات كبيرة في إعادة بناء الاقتصاد، مثل إقناع القوى الغربية برفع العقوبات واستعادة السيطرة على قطاع النفط. وبينما تدرس الولايات المتحدة تخفيف بعض العقوبات مؤقتًا، يطالب الاتحاد الأوروبي بضمانات إضافية قبل اتخاذ خطوات مماثلة. 

في هذا السياق، بدأت الحكومة التركية في وضع خطط للمساهمة في إعادة إعمار سوريا بعد سقوط نظام الأسد، حيث وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعليماته إلى الوزراء لتقديم الدعم في المجالات المتخصصة، بما يسهم في تسريع عملية إعادة بناء سوريا الجديدة. وقد شكّلت الأزمة السورية نقطة تحول حاسمة في السياسة الخارجية التركية، حيث تسعى أنقرة إلى استثمار الفرص لتعزيز مصالحها الجيوسياسية، وهو ما يتجلى في إعادة تمثيلها الدبلوماسي في سوريا بعد انقطاع دام سنوات. وتهدف تركيا من خلال هذه الفرصة إلى تحقيق أهداف رئيسية، أولها القضاء على التهديد الذي تمثله قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، المدعومة من الولايات المتحدة، والمتكونة أساساً من عناصر حزب العمال الكردستاني، لحماية أمن الحدود. ثانياً، تسعى إلى خلق الظروف المناسبة لعودة أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري مسجلين لديها، وهي قضية حساسة سياسياً، إذ ترى فيها فرصة لتخفيف الأعباء الداخلية من خلال تشجيع العودة الطوعية. ثالثاً، تسعى تركيا إلى الحفاظ على تفوقها في المنافسة مع إيران وروسيا على النفوذ الإقليمي، مما يمكنها من تعزيز قدرتها على التأثير في التطورات المستقبلية في سوريا. كذلك، تهدف تركيا إلى تعزيز نفوذها الدبلوماسي الإقليمي والدولي من خلال التفاوض مع موسكو وطهران، واستغلال الوضع الراهن للتوصل إلى اتفاق مع الإدارة الأمريكية المقبلة بقيادة ترامبا لرئيس دونالد ترامب، الذي صرّح بأن تركيا قد نفّذت عملية استيلاء غير ودية وتمتلك مفتاح الأحداث في سوريا.

تركيا وإعادة الإعمار

على الصعيد الاقتصادي، تمثل عملية إعادة إعمار سوريا فرصة استراتيجية لتركيا لتعزيز نفوذها الاقتصادي في المنطقة، مستفيدة من المتطلبات الضخمة لإعادة بناء البلاد بعد الحرب. من خلال هذه الاستثمارات، تسعى تركيا إلى السيطرة على القطاعات الحيوية مثل البنية التحتية والطاقة والبناء والتجارة، فضلاً عن سعيها للهيمنة على الصناعات الناشئة بفضل خبرتها الواسعة في الصناعات الخفيفة والثقيلة. غير أن هذا الطموح قد يعرقل تطور الصناعة المحلية السورية، نتيجة المنافسة غير المتكافئة التي قد تقوض قدرتها على النمو. إضافة إلى ذلك، قد يسهم الاعتماد المتزايد على الاقتصاد التركي في تقليص استقلالية سوريا الاقتصادية، مما يحد من قدرة الحكومة على وضع سياسات اقتصادية مستقلة ويعوق تحقيق النمو بعيداً عن التأثيرات والهيمنة الأجنبية.

علاوة على ذلك، قد يسهم الطموح التركي في سوريا في تصعيد التوترات مع القوى الإقليمية الأخرى، مثل دول الخليج، التي تسعى بدورها إلى لعب دور محوري في رفع العقوبات عن سوريا وتمويل عملية إعادة الإعمار، في إطار سعيها لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في مرحلة ما بعد النزاع. وكان الرئيس ترامب قد أعلن أن المملكة العربية السعودية وافقت على تولي مسؤولية تمويل إعادة إعمار سوريا، ما يعكس تحولاً واضحاً في الدور الأمريكي في هذا الملف. وفي هذا الإطار، أكدت شركة "فيتش سوليوشنز" أن الشركات الغربية، بما في ذلك الأميركية، قد تكون جزءاً أساسياً من جهود إعادة الإعمار، متوقعة أن تظل دول الخليج فاعلاً رئيسياً في هذا المجال.

 ومع تنافس تركيا على مشاريع إعادة الإعمار والقطاعات الاستراتيجية، من المتوقع أن تنشأ صراعات اقتصادية وسياسية جديدة، مما قد يفاقم التوترات الإقليمية ويزيد من تعقيد الوضع في سوريا. في هذا السياق، تواجه تركيا تحدياً كبيراً في إقناع المجتمع الدولي بنواياها الحسنة في سوريا، وذلك عبر اتباع سياسة خارجية حذرة ومتوازنة تهدف إلى كسب ثقة الأطراف المحلية والدولية، وإثبات أنها شريك فعّال في حل الأزمة السورية، وليس طرفاً متدخلاً في الشؤون الداخلية للبلاد.

معركة الاستقرار والنمو

رغم التوقعات الإيجابية والفرص الواعدة، فإن هناك تحديات كبيرة لا تزال تعترض طريق إحياء الاقتصاد السوري، الذي يعاني من اختلالات هيكلية عميقة ناجمة عن سياسات اقتصادية غير مستدامة تراكمت على مدار عقود، ما قد يعرقل مسار التعافي ويُعيق اندفاع الاقتصاد السوري نحو النمو المنشود.

هذا يعتمد نجاح سوريا في تحقيق التعافي الاقتصادي بشكل أساسي على استعادة الاستقرار السياسي أولاً، بالتوازي مع تبني سياسات اقتصادية شفافة تراعي المصالح الوطنية وتضمن مشاركة جميع القطاعات في اتخاذ القرار. كما يُعد من الضروري تعزيز الاستفادة من الموارد المحلية والخبرات الدولية، فضلاً عن بناء شراكات استراتيجية مع الدول المجاورة والمؤسسات الدولية المانحة. وفي الوقت نفسه، ينبغي تجنب الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية التي قد تفرض قيوداً سياسية واقتصادية تؤثر سلباً على السيادة الوطنية. إذ إن قدرة سوريا على النهوض بحكمة واستقلالية ستكون الأساس لاستعادة الثقة وإرساء أسس جديدة للنمو والتعاون الاقتصادي مع محيطها العربي والدولي.

في سياق بناء الدولة السورية الحديثة واستعادة وحدة مؤسساتها، يظل السؤال الأبرز: هل يمكن لسوريا جذب الدعم الدولي والإقليمي لإنعاش اقتصادها دون المساس بسيادتها الوطنية واستقلالها السياسي، ودون الوقوع في فخ الشروط التي قد تعمق الانقسامات الداخلية؟