د. وسام صافي*
في كل مرة تُفرض حرب جديدة على لبنان، تنعكس آثارها المدمرة ليس فقط على البنية التحتية والاقتصاد، ولكن أيضًا على المشهد السياسي الداخلي، حيث تتصاعد التوترات بين الأطراف السياسية، وتتعمق الخلافات حول مستقبل البلاد، ودور السلاح خارج سيطرة الدولة، والموقف من المحاور الإقليمية المتناحرة. الحرب الأخيرة بين “حزب الله” وإسرائيل لم تكن استثناءً، بل سلطت الضوء على حجم الانقسام الداخلي، وما يحمله من تهديدات وجودية للبنان كدولة موحدة.
إسرائيل: انتصار مزعوم يقابله احتمال تحقيق فينوغراد جديد
نتنياهو، الذي يواجه تحديات داخلية غير مسبوقة، من بينها مذكرات جنائية تلاحقه، يسعى لتعزيز صورته أمام جمهوره. إعلان النصر الإسرائيلي جاء بناءً على تدمير جزء من بنية “حزب الله” العسكرية، وفرض هدنة مشروطة بوجود قوة لبنانية ودولية جنوب الليطاني. لكن هل يكفي هذا لتكريس “انتصار” في سجل دولة خاضت الحرب بحسابات غير محسوبة؟
قد يفتح ما جرى الباب أمام تحقيق جديد على غرار تقرير “فينوغراد” الذي صدر بعد حرب 2006. حينها، كشف التقرير حجم الإخفاقات الإسرائيلية، ما أدى إلى هزّ ثقة الشعب الإسرائيلي بقيادته السياسية والعسكرية. اليوم، وفي ظل الفشل الواضح في تحقيق الأهداف المعلنة بالكامل، قد يعيد التاريخ نفسه، وتظهر هزيمة إسرائيل في حربها الأخيرة بجلاء.
حزب الله: جذور لم تُقتلع وأوهام النصر المستدام
على الجهة الأخرى، يرى “حزب الله” أن بقاءه على الساحة هو بحد ذاته انتصار. لا شك أن الحزب تمكن من الحفاظ على بنية قيادته الأساسية واستمرار فعاليته، رغم التدمير الذي طال الجنوب اللبناني، والخسائر البشرية والمادية الهائلة التي تكبدها لبنان ككل. لكن إعلان الحزب للنصر ليس سوى تغذية للوهم الجماعي، إذ يُغفل حقيقة الكلفة الباهظة التي تحملها لبنان شعبًا ودولة.
هذا “النصر” لم يأتِ إلا ليزيد من ترسيخ واقع الدولة المنقسمة، حيث يعيش الجنوب في ظل توازن هش، وحيث تتزايد المطالبات الداخلية والخارجية بضرورة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. ومع كل جولة من هذه الحروب، يتضح أن الحزب بات عبئًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا يثقل كاهل لبنان.
لبنان: الخاسر الوحيد
وسط هذه الادعاءات المتبادلة، يبقى لبنان هو الخاسر الوحيد. المعاناة التي تحملها اللبنانيون لم تقتصر على الأرواح التي فقدت، أو المنازل التي دُمرت، بل امتدت إلى شلل اقتصادي كامل ومزيد من العزلة الدولية. في حين تتحدث إسرائيل وحزب الله عن انتصارات استراتيجية، يواجه المواطن اللبناني أزمات يومية تتعلق بالكهرباء والماء والخبز، فضلًا عن انهيار المؤسسات الرسمية وانعدام الثقة بالدولة.
الواقع اللبناني يشهد على تفاقم الانقسامات الطائفية، حيث تُستغل الحروب لتأجيج الشقاق الداخلي، بدلًا من تعزيز الوحدة الوطنية. ومع كل حرب جديدة، يتبدد أمل اللبنانيين في بناء دولة ذات سيادة تُحكم بالقانون والمؤسسات.
التداعيات السياسية في الداخل اللبناني: تصاعد الخلافات والانقسام الداخلي
- تعزيز الانقسام السياسي والطائفي
الحرب الأخيرة عمّقت الانقسام بين القوى السياسية اللبنانية. فبينما يرى “حزب الله” وحلفاؤه أن المواجهة مع إسرائيل جزء من معركة الوجود والمقاومة، تعتبر قوى أخرى أن الحزب يجرّ البلاد إلى حروب لا مصلحة للبنان بها. هذا الانقسام ليس مجرد خلاف سياسي عابر، بل يُعبّر عن انقسام عميق بين رؤيتين متناقضتين للبنان: الأولى ترى لبنان كدولة مقاومة ضمن محور إقليمي تقوده إيران، والثانية تدعو إلى الحياد وحصر السلاح بيد الجيش اللبناني.
- ضعف الدولة ومؤسساتها
تؤدي الحروب التي ينخرط فيها “حزب الله” إلى تآكل سلطة الدولة اللبنانية. فقد ظهرت الدولة في هذه الحرب مرة أخرى عاجزة عن حماية أراضيها ومواطنيها، ما يعزز الشعور العام بأنها مجرد شاهد على الأحداث. هذا الضعف المستمر يهدد شرعية المؤسسات الرسمية ويعطي مبررًا أكبر لاستمرار السلاح خارج إطار الدولة، وهو ما يعزز الفوضى السياسية ويضعف قدرة لبنان على التفاوض دوليًا.
- الأزمة الدستورية والسياسية
تأتي الحرب في وقت يعاني فيه لبنان من أزمة دستورية غير مسبوقة، مع شغور في منصب رئاسة الجمهورية وشلل في المؤسسات التشريعية والتنفيذية. الحرب زادت من تعقيد هذه الأزمة، إذ أصبحت قضية السلاح و”حزب الله” موضوعًا أساسيًا على أجندة النقاش السياسي الداخلي. ومع غياب التوافق الوطني، من المحتمل أن يؤدي هذا الوضع إلى تعطيل أكبر في قدرة البلاد على اتخاذ قرارات حاسمة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالإصلاحات الضرورية لإنقاذ الاقتصاد.
التداعيات على العلاقات الإقليمية والدولية: عزلة متزايدة وضغوط مستمرة
- تزايد العزلة الدولية
لبنان بات في نظر العديد من الدول الغربية والخليجية دولة أسيرة لسياسات “حزب الله” والمحور الإيراني. الحرب الأخيرة عززت هذا الانطباع، حيث أظهرت أن الحزب قادر على جر البلاد إلى مواجهة عسكرية شاملة، دون أي اعتبار لسيادة الدولة اللبنانية أو مصالحها. هذه الصورة تعمّق عزلة لبنان دوليًا، وتُقلل من فرص حصوله على الدعم الاقتصادي والسياسي الضروري للخروج من أزماته المتفاقمة.
- تصاعد الضغوط الغربية والخليجية
الحرب الأخيرة ستؤدي على الأرجح إلى تصعيد الضغوط الدولية، لا سيما من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث ستُستخدم كذريعة جديدة لمطالبة الحكومة اللبنانية بضبط نفوذ “حزب الله” والحد من دوره العسكري والسياسي. في الوقت نفسه، قد تُعزز هذه الحرب من المواقف الخليجية المتشددة تجاه لبنان، مما يُعرقل أي محاولات لتحسين العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع دول الخليج.
- إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية
مع اشتداد الصراع الإقليمي بين إيران وإسرائيل، يتضح أن لبنان أصبح جزءًا من استراتيجية طهران في مواجهة خصومها. هذا الدور المفروض على لبنان قد يُدفع ثمنه سياسيًا، حيث قد تتسع الفجوة بينه وبين الدول العربية التي تسعى لإبعاد نفسها عن المحاور المتصارعة.
تحديات المستقبل: كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة؟
- ضرورة الحياد السياسي
أظهرت الحرب الأخيرة أن لبنان لا يستطيع تحمل المزيد من الصراعات التي تُفرض عليه بسبب ارتباطات خارجية. إن تبني سياسة الحياد، كما دعا إليها البطريرك الماروني بشارة الراعي، يُعدّ ضرورة ملحة لإخراج لبنان من دائرة الصراعات الإقليمية. هذه السياسة تتطلب توافقًا وطنيًا حول دور الدولة، ومستقبل السلاح خارج سيطرتها.
- إصلاحات سياسية ودستورية شاملة
لبنان بحاجة إلى إصلاحات سياسية جذرية تُعيد بناء المؤسسات وتعزز سيادة القانون. لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال اتفاق داخلي يعيد الثقة بين المكونات السياسية، ويُحدد الأولويات الوطنية بعيدًا عن المصالح الطائفية أو الحزبية.
- دعم الجيش اللبناني كقوة وحيدة مسؤولة عن الدفاع
الحرب الأخيرة أظهرت أن الجيش اللبناني هو الوحيد الذي يمكنه أن يكون الضامن لأمن البلاد. تعزيز قدرات الجيش، وجعله القوة الوحيدة المسؤولة عن الدفاع عن لبنان، هو شرط أساسي لتحقيق السيادة والاستقرار.
وهم النصر ومستقبل لبنان
يدرك اللبنانيون، رغم كل شيء، أن الحديث عن “نصر” حقيقي هو ضرب من الخيال. فبعد مرور سنوات على حرب 2006، لم يجنِ لبنان سوى مزيد من الانهيار والتراجع. وما يجري اليوم هو مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الأوهام التي تُغذيها الأطراف المتصارعة.
مع استمرار هذا النمط، يبدو أن الجميع ينتظرون حربًا جديدة بعد عشرين عامًا، تُعيد طرح الأسئلة ذاتها حول “الانتصار”، بينما يظل لبنان يدفع الثمن. المطلوب اليوم هو وعي وطني حقيقي ينبذ الحرب كوسيلة لحل الخلافات ويؤكد على حصرية السلاح بيد الدولة، بما يعيد للبنان دوره الطبيعي كدولة قانون وسلام.
ختامًا، سواء أُعلنت تحقيقات إسرائيلية جديدة أو اكتفى حزب الله بخطاباته عن الانتصار، يظل لبنان هو الخاسر الحقيقي في لعبة كبرى تتجاوزه في الحسابات، لكنه يتحمل تبعاتها بالكامل.
*عميد متقاعد في الجيش اللبناني