تحت شعار "بريكس" والجنوب العالمي لبناء عالم أفضل بشكل مشترك، احتضنت مدينة قازان، في جمهورية تتارستان الروسية، القمة السادسة عشرة للبريكس، بحضور 36 دولة، من بينها 22 دولة ذات أهمية عالية، إلى جانب قيادات 6 منظمات دولية بارزة، بما في ذلك الأمين العام لـ"لأمم المتحدة" أنطونيو غوتيريش.
وفي إطار رئاستها لمجموعة "بريكس" للعام الجاري، أعلنت روسيا عن أولوياتها لتعزيز التعاون متعدد الأبعاد بين الدول الأعضاء، حيث حددت ثلاثة محاور رئيسية تشمل السياسة والأمن، الاقتصاد والمالية، بالإضافة إلى العلاقات الثقافية والإنسانية.وعلى مدى ثلاثة أيام، ناقش المشاركون قضايا التفاعل بين دول الأغلبية العالمية في مواجهة الأزمات الملحة، بما في ذلك جهود تسوية النزاعات الإقليمية وتحسين بنية العلاقات الدولية، وضمان التنمية المستدامة في مجالي الأمن الغذائي والطاقة، مع إيلاء اهتمام خاص للشرق الأوسط. كما تناولت القمة تعميق التعاون المالي، وسبل تطوير بدائل لأنظمة الدفع التي يهيمن عليها الغرب، بالإضافة إلى استراتيجيات توسيع عضوية دول "بريكس".
إعلان قازان
أصدرت مجموعة "بريكس" بياناً توافقياً تحت مسمى "إعلان قازان"، الذي تضمن مطالب شاملة لإصلاح المؤسسات العالمية الرئيسية، مثل مجلس الأمن، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة العشرين. خلال القمة، وجّه القادة تعليمات لوزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية لمواصلة دراسة استخدام العملات الوطنية وأدوات الدفع والمنصات الإلكترونية، مع الترحيب بزيادة استخدامها في المعاملات المالية بين دول "بريكس" وشركائها التجاريين.
وشدّد البيان الذي حمل عنوان "تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين"، على أهمية تعزيز التعددية كوسيلة لتحقيق التنمية والأمن العالميين، داعياً إلى تحسين التعاون المالي وتطوير شبكات المراسلة المصرفية. كما أكد على الحاجة إلى إطلاق نظام للمنافسة العادلة بين دول المجموعة، مع الالتزام بدعم إصلاح منظمة التجارة العالمية كجزء من استراتيجية الشراكة الاقتصادية حتى عام 2025.
وسلّط الإعلان الضوء على أولويات التعاون المالي والاقتصادي وتطوير الشراكات المصرفية بين الأعضاء. كما تم الدعوة إلى زيادة مساهمة البلدان النامية في الاقتصاد العالمي وبناء جسور التعاون في مجالات التجارة والاستثمار. ورحبت الدول أيضاً بإنشاء منصة استثمارية جديدة تعتمد على البنية التحتية لبنك التنمية الجديد، وتعهدت بتحويل البنك إلى مصرف تنمية متعدد الأطراف يخدم دول الأسواق الناشئة، وبدعم المبادرة الروسية لإنشاء بورصة حبوب تشمل قطاعات الزراعة الأخرى في المستقبل.
كما أوصى البيان الختامي للقمة بالتنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن الدولي، مع التأكيد على دعم العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة وفقاً لرؤية حل الدولتين. وطالبت القمة إسرائيل بوقف فوري للأعمال العسكرية على لبنان، مشددة على أهمية الحفاظ على سيادته وسلامة أراضيه، وضرورة تهيئة الظروف المناسبة لتحقيق حل سياسي شامل يضمن الاستقرار والسلام المستدام في منطقة الشرق الأوسط.
"بريكس" تتفوق اقتصادياً
تُعتبر مجموعة "بريكس" نموذجاً بديلاً لمجموعة السبع "G7" التي تضم كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي. وتُصنف المجموعة ككتلة اقتصادية تمثل الاقتصادات النامية أو الناشئة، والمعروفة أيضًا بـ"اقتصادات الجنوب"، في مواجهة الاقتصادات الغربية المتقدمة. ومع استمرار معدلات النمو المرتفعة في دول "بريكس" على مر السنين، أصبحت المجموعة محور اهتمام متزايد من قبل العديد من الدول حول العالم.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوضح خلال منتدى أعمال "بريكس" أن المجموعة أصبحت تلعب دوراً متزايد الأهمية في الاقتصاد العالمي، مع توقعات بأن تكون محركات رئيسية للتنمية الاقتصادية المستقبلية. وأشار إلى أن حصة "بريكس" من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ارتفعت من 16.7 في المئة في 1992 إلى 37.4 في المئة في 2023، بينما تراجعت حصة مجموعة السبع إلى 29.3 في المئة. كما أكد أن أكثر من 40 في المئة من نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي في العقود الأخيرة تحقق بفضل دول "بريكس"، متوقعاً أن يصل معدل نمو اقتصاداتها إلى 4 في المئة ، متفوقة بذلك على معدل النمو في مجموعة السبع الذي يبلغ 1.7 في المئة.
وفقاً لأحدث توقعات صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن تعتمد الاقتصادات العالمية بشكل متزايد على مجموعة "بريكس" كحافز للنمو، بدلاً من نظيراتها الغربية الأكثر ثراءً، حيث أسهمت الدول الخمس الجديدة في إضافة 3.24 تريليون دولار إلى اقتصادات المجموعة. وبناءً على معيار تعادل القوة الشرائية، يمثل الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة نحو 36.7 في المئة من الاقتصاد العالمي، كما تشكل نحو 16 في المئة من التجارة العالمية، مع مساهمة التكتل بنحو 16 في المئة من حركة الصادرات و15 في المئة من الواردات العالمية للسلع والخدمات. ويُقدر إجمالي الاحتياطي النقدي الأجنبي المشترك للمجموعة بأكثر من 4 تريليون دولار.
وعقب انضمام السعودية والإمارات وإيران، باتت "البريكس" تسيطر على 80 في المئة من إنتاج النفط العالمي، و38 في المئة من إنتاج الغاز، و67 في المئة من إنتاج الفحم في السوق العالمية. كما تمتلك المجموعة أكثر من 50 في المئة من احتياطي الذهب والعملات، وتنتج أكثر من 30 في المئة من السلع والمنتجات العالمية، بفضل دور الصين والهند الرائدين. ويُعزز وجود الصين وروسيا جاذبية مجموعة "البريكس"، حيث تساهم الصين بوزنها الاقتصادي والتكنولوجي الكبير، بينما تساهم روسيا بقدراتها العسكرية الهائلة. ومن المتوقع أن تساهم الصين بنحو 22 في المئة من النمو العالمي في السنوات الخمس المقبلة، متفوقة بذلك على مجموع مساهمات دول مجموعة السبع. كما وتُعتبر الهند أيضاً قوة نمو عالمية، حيث من المرجح أن تساهم بنسبة 15 في المئة من إجمالي النمو الاقتصادي للمجموعة بحلول عام 2029.
نظام دفع يتحدى "السويفت"
قبل انعقاد قمة قازان، كشفت روسيا عن خطط طموحة لإنشاء نظام " الدفع عبر الحدود لبريكس" (BCBPI)، والذي يهدف إلى تعزيز استخدام العملات الوطنية بين الدول الأعضاء ، بالإضافة إلى تطوير بديل لنظام "سويفت" (SWIFT) العالمي لتسهيل المعاملات المالية والتجارية. وتعد روسيا ثاني أكبر مستخدم لـ "سويفت" بعد الولايات المتحدة، حيث يشارك نحو 300 بنك ومؤسسة روسية في هذا النظام. وقد أدت العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا إلى استبعاد سبعة بنوك روسية من نظام "سويفت" للمراسلات المالية مما حال دون معالجة المدفوعات عبر البنوك الأميركية. كما هددت واشنطن بفرض "عقوبات ثانوية" على البنوك في الدول الأخرى التي تدعم المجهود الحربي الروسي. بالإضافة إلى ذلك، قام الغرب بتجميد 282 مليار دولار من الأصول الروسية المحتفظ بها في الخارج.
خلال القمة، بدأ قادة دول "بريكس" مشاورات استراتيجية لإطلاق نظام دفع متعدد الأطراف يهدف إلى تقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي، وتعزيز الاستثمارات المتبادلة بين دول "بريكس" والأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. ويتضمن تطوير منصة "BRICS Clear" ونظاماً مبتكراً للمحاسبة والتسوية للأوراق المالية. كما سيشمل النظام أدوات مالية مقومة بالعملات الوطنية لدول الأعضاء، مما يعزز استقلالية هذه العملات ويقلل من النفوذ الاقتصادي الأمريكي. وبالتالي تمكين دول المجموعة من استعادة سيطرتها على معاملاتها المالية وتعزيز استقرارها المالي بعيداً عن التأثيرات الاقتصادية الغربية.
يهدف نظام "BRICS Clear" إلى تسهيل تسوية المعاملات المالية بين دول مجموعة "بريكس" والدول الشريكة باستخدام عملة مستقرة يصدرها بنك التنمية الجديد، المنافس البديل للبنك الدولي، الذي تأسس برأس مال مبدئي قدره 50 مليار دولار مع هدف للوصول إلى 100 مليار دولار.ومنذ تأسيسه في عام 2018، قام البنك بتمويل مشاريع بقيمة 33 مليار دولار، مع تركيز خاص على تمويل مشاريع البنية التحتية والصحة والتعليم في الدول الأعضاء والمناطق الناشئة.
ولتعزيز الثقة والأمان في المعاملات، قررت المجموعة إنشاء شركة تأمين خاصة بها لتقليل الاعتماد على المؤسسات المالية التقليدية. معاً، يشكل "BRICS Clear" وشركة التأمين بنية تجارية جديدة تعزز التجارة بين الأعضاء والدول الشريكة باستخدام عملاتهم ومؤسساتهم المالية الخاصة. كما تعتزم المجموعة تجربة تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع (DLT)، وتطوير استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) لتمكين الدول من تسوية اختلالات التوازن التجاري مباشرة، دون الحاجة إلى نظام "سويفت" أو البنوك المراسلة في دول ثالثة.
عرش الدولار.. تحت الضعط
رغم مرور عقود طويلة على هيمنة الدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي، إلا أن فكرة تراجع هذه السيطرة تطفو على السطح بين الحين والآخر. وبفضل قوة الاقتصاد الأميركي وحجمه الاستهلاكي الكبير، تمكن الدولار الأمريكي من تجاوز التحديات العديدة التي واجهها، ليبقى العملة الاحتياطية العالمية الأبرز. ووفقاً لدراسة أجراها معهد "بروكينغز إنستيتيوشن"، يظل الدولار الأميركي العملة المفضلة في المعاملات التجارية العالمية، حيث يُستخدم في 58 في المئة من المدفوعات الدولية (باستثناء منطقة اليورو) و54 في المئة من الفواتير التجارية.
كذلك يعد الدولار العملة الرئيسية في عمليات الإقراض العالمية، حيث يستحوذ على الحصة الأكبر من سوق الصرف الأجنبي، الذي تبلغ قيمته اليومية 7.5 تريليون دولار. كما يُستخدم في أكثر من 80 في المئة من المعاملات التجارية ويمثل نحو 60 في المئة من احتياطيات البنوك المركزية، رغم محاولات بعض الدول تنويع حيازاتها. ويعزز تأثير شبكة الدولار من قوة البنوك الأمريكية في أنظمة المدفوعات العالمية، مما يكرس نفوذها الاقتصادي والنقدي على الساحة الدولية.
تعتبر روسيا والصين من أبرز المؤيدين للتخلص من هيمنة الدولار الأمريكي، حيث يسعى البلدان إلى تقليل اعتمادهما على العملة الخضراء وتعزيز دور عملاتهما الوطنية في المعاملات الدولية. وقد شهد اليوان الصيني تقدماً ملموساً في دوره الاقتصادي على الصعيد العالمي، حيث ارتفعت حصته في المدفوعات العالمية من 3.71 في المئة في عام 2023 إلى 8 في المئة في عام 2024، تبعاً لتقرير "سويفت". ورغم هذه الجهود، يظل اليوان بعيدًا عن منافسة الدولار، حيث لا تزال حصته في الاحتياطيات العالمية محدودة للغاية، ولا تتجاوز 3 في المئة فقط مقارنة بحصة الدولار الضخمة. ويشير تقرير حديث صادر عن موقع "أوراسيا ريفيو" الأميركي إلى أن التحديات الهيكلية والسياسية التي يواجهها كل من اليورو واليوان تمنعهما من أن يصبحا بديلين موثوقين للدولار في المستقبل القريب.
وتصدّر موضوع التخلي عن الدولار في معاملات الدفع بين دول "بريكس" أجندة فعاليات قمة قازان. وفي افتتاحية القمة، قال الرئيس الروسي إنّ "الدولار يُستخدم كسلاح، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها. أعتقد أن هذا نهج خاطئ تماماً من قبل أولئك الذين يعتمدون عليه". كما أشار إلى أن نحو 95 في المئة من التجارة بين روسيا والصين تتم الآن بالروبل واليوان، مما يعكس التوجه المتزايد نحو تعزيز الاعتماد على العملات الوطنية في المعاملات التجارية.
عملة موحدة.. رمزية
خلال قمة "بريكس"، كشف فلاديمير بوتين عن ورقة نقدية رمزية تمثل عملة المجموعة، تحمل أعلام الدول الأعضاء: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا، في إشارة إلى الطموحات الجماعية لاستكشاف بدائل للدولار الأمريكي في المعاملات الدولية. ومع ذلك، أوضح بوتين أن فكرة طرح عملة موحدة لدول مجموعة "بريكس" لا تزال خطوة سابقة لأوانها في الوقت الراهن، نظراً للحاجة إلى تحقيق مستوى عالٍ من التكامل بين الدول الأعضاء، مُضيفاً أن إطلاق العملة الموحدة لا يُتوقع أن يتم في المدى القريب.
وبحسب الخبراء، فإن إصدار عملة ورقية موحدة لدول مجموعة "بريكس" يتطلب سنوات من التحضير، بما في ذلك إنشاء بنك مركزي جديد والتوصل إلى توافق بين الأعضاء لتقليص الاعتماد على عملاتهم السيادية. ويُفترض أن تكون العملة مغطاة بنسبة 40 في المئة بالذهب و60 في المئة بالعملات الوطنية للدول الأعضاء. ومع ذلك، فإن هيمنة اليوان الصيني، الذي يمثل 69 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للمجموعة، قد يؤدي إلى تفوق اليوان على سلة العملات، مما قد يثير توترات بين الأعضاء، خاصة مع الهند.
كما أن المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للدول الأعضاء في مجموعة "بريكس" تتفاوت فيما يتعلق بإمكانية تبني عملة موحدة . بينما تسعى بعض الدول إلى تقليص هيمنة الدولار، تُبدي دول أخرى مثل البرازيل والهند تحفظات كبيرة، حيث لا ترى أن تقليص استخدام الدولار لصالح اليوان الصيني يخدم مصالحها المالية أو الجيوسياسية. كما تخشى هذه الدول من أن يؤدي هذا التوجه إلى تحول "بريكس" إلى كتلة موالية للصين ومعادية للغرب، وهو ما لا تودان الانخراط فيه. وبالتالي، تمثل مساعي المجموعة تهديداً محدوداً لمكانة الدولار الأميركي، الذي لا يزال يحظى بموثوقية كبيرة على الصعيد العالمي.
هذا ومن المتوقع أن تكون العملة الجديدة للعملة الموحدة لـ "بريكس" افتراضية، يتم استخدامها على منصة "إم بريدج" التي تعد منصة مدفوعات تجريبية، تتيح التسويات بالعملات الرقمية للبنوك المركزية، مما يجعلها بديلاً محتملاً لنظام "سويفت" في المعاملات المالية.
بين الطموح والتحديات
تشكل مجموعة "بريكس" جبهة ذات ثقل اقتصادي وسياسي كمنتدى غير غربي، لكن المنافسات الجيوسياسية والخلافات الداخلية بين أعضائها قد تُضعف تأثيرها وتعرقل مسيرتها نحو تحقيق أهدافها الطموحة. وبينما سيسهم التوسع في تعزيز التعاون المشترك في القضايا الاقتصادية والمالية، فإنه في المقابل قد يحد من قدرة "بريكس" على العمل كمنتدى سياسي موحد قادر على منافسة الـ G7، التي تتمتع بتماسك وتجانس كبيرين في المبادئ والمعتقدات الأساسية بين أعضائها.
بالرغم من توافق الدول الـ "بريكس" في قضايا كثيرة مثل الحد من الهيمنة المالية للغرب، فإن دولاً مثل جنوب أفريقيا والبرازيل والهند لا تتبنى المواقف المناهضة للغرب بنفس الدرجة التي تتبناها الصين وروسيا. كما أن التوترات بين الصين والهند، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية المتينة للبرازيل مع الولايات المتحدة، قد تؤثر سلباً على تماسك المجموعة وتقلّل من فعاليتها. علاوة على ذلك، فإن إيران، رغم خصومها المشترك مع الغرب إلى جانب روسيا والصين، تُعتبر منافساً إقليمياً للسعودية، ما قد يؤدي إلى حدوث نزاعات داخلية بين أعضاء الـ "بريكس".
كذلك، يواجه تحالف "بريكس" تحديات كبيرة في مساعيه لتقويض الهيمنة الأمريكية على النظام المالي العالمي، إذ يواجه صعوبات ملحوظة في تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي وتعزيز استخدام العملات المحلية. ويعود ذلك إلى سيطرة الولايات المتحدة على التجارة الدولية والاحتياطيات النقدية العالمية، فضلاً عن نفوذها الواسع في المؤسسات المالية الدولية الرئيسية مما يعوق قدرة المجموعة على التأثير في السياسات الاقتصادية العالمية أو تشكيل بدائل فعالة لهذه المؤسسات.
بالإضافة إلى ذلك، يشكل تنوع الأوضاع الاقتصادية والسياسات النقدية بين دول "بريكس" تحدياَ بالغ الأهمية أمام جهود المجموعة لإنشاء عملة مشتركة أو حتى لتنسيق استخدام العملات الوطنية في المعاملات الدولية. فالدول الأعضاء تتمتع بمستويات متفاوتة من التنمية الاقتصادية وأولويات مالية مختلفة، مما يجعل من الصعب تحقيق تكامل نقدي ومالي فعال. هذا التباين قد يعقد عملية التنسيق المشترك ويؤثر على قدرة المجموعة على اتخاذ خطوات منسقة في تعزيز استقرار النظام المالي بين أعضائها. علاوة على ذلك، فإن الفوارق العميقة بين الدول الأعضاء، سواء على صعيد الأنظمة السياسية أو الهياكل الاقتصادية أو الأهداف الوطنية، تشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق الوحدة والتكامل داخل الـ"بريكس". هذا وتُلقي التوترات الجيوسياسية المتأججة والصراعات الإقليمية المستمرة بين بعض الدول الأعضاء بظلالها الكثيفة على مساعي "بريكس"، مما يعيق قدرتها على تحقيق التعاون المثمر والتنسيق المجدي على المستوى الإقليمي والدولي.
صراع الأقطاب: بريكس vs الغرب
في حدث دولي يُعد الأبرز منذ بداية الحرب في أوكرانيا، نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استضافة قادة وزعماء الدول من مختلف أرجاء العالم محققاً تفوقاً ديبلوماسياً وسياسياً في "بريكس" 2024. وقد بعث برسالة قوية مفادها أن روسيا ليست معزولة كما تحاول القوى الغربية تصويرها، بل هي لاعب دولي فاعل يمتلك القدرة على التأثير في الساحة السياسية العالمية.
على الصعيد الاقتصادي، وفي خضم التحولات الجيوسياسية السريعة والضبابية التي تشهدها الساحة الدولية، برزت مجموعة "بريكس" كقوة صاعدة تسعى لإعادة تشكيل موازين القوى الاقتصادية والسياسية على المستوى العالمي، من خلال بناء نظام اقتصادي متعدد الأقطاب. وتتمتع "بريكس" بتنوع جغرافي واقتصادي هائل، مما يعزز قدرتها على تقديم فرص استثمارية وتمويلية متنوعة تلبي احتياجات الدول الأعضاء والشركاء على حد سواء. بالإضافة إلى ذلك، توفر المجموعة بديلاً استراتيجياً جذاباً وموثوقاً للدول النامية التي تسعى إلى شراكات اقتصادية عادلة ومنصفة. من خلال مؤسساتها المالية، وعلى رأسها بنك التنمية الجديد، تقدم "بريكس" شروط تمويل مرنة وغير مشروطة، مما يجعلها وجهة مثالية للدول التي ترغب في تعزيز نموها الاقتصادي بشكل مستقل، بعيدًا عن أي ضغوط سياسية أو تدخلات خارجية.
ورغم الطموحات الكبيرة التي تحملها المجموعة، فإنها تواجه تحديات جسام في مسعاها لبناء نظام عالمي جديد أكثر استدامةً وتوازناً. ومن هنا، يُعد بناء هوية مشتركة وأجندة سياسية واقتصادية واضحة الخطوة الأولى لتحقيق أهدافها. ويتطلب ذلك تنسيقاً مُتكاملاً بين الدول الأعضاء وتحديد أولويات مشتركة تُشكل الأساس لتمهيد الطريق نحو تكامل اقتصادي وسياسي أعمق. وفي ظل هذه التحديات الكبيرة، يبقى السؤال: هل تستطيع "بريكس" تجاوز قيود النظام الدولي القائم، وقيادة تحول جذري في بنية الحوكمة العالمية؟ وهل يمكتها تحقيق التقارب بين أعضائها لتشكيل نظام اقتصادي عالمي جديد يعتمد على مبادئ التعددية والتعاون بعيداً عن الهيمنة الأحادية؟