القاهرة: محمود عبد العظيم
جاءت "التعليمات" التي أصدرها البنك المركزي المصري منذ أيام للبنوك العاملة في السوق بضرورة وضع حدود قصوى للسحب اليومي والشهري من الايداعات بالعملات الأجنبية- خصوصا اليورو والدولار- وفقا لظروف كل بنك وحسب سياساته التشغيلية وإبلاغ المركزي بهذه الحدود في موعد أقصاه أول سبتمبر/ ايلول لتعيد من جديد الجدل حول مستقبل سوق الصرف الأجنبي في مصر وعما إذا كان شبح أزمة شح الدولار سيعود مجدداً لتطل برأسها في الأسواق أم أن ثمة حلول أخرى لدى الحكومة المصرية لتفادي تكرار الأزمة التي عصفت بأوضاع الاقتصاد المصري على مدار عامين.
ذلك لأن في تعليمات المركزي الجديدة ما يؤشر على أن السوق ربما تكون مقبلة على درجة من درجات نقص المعروض الدولاري في قادم الأيام وتبعث برسائل سلبية للمتعاملين في سوق الصرف خاصة من أصحاب الودائع العائلية الذين ربما يسارع جانب منهم لسحب مدخراته من الجهاز المصرفي فتزداد الأزمة استحكاماً.
وتكشف تعليمات المركزي الغطاء عن تساؤلات تدور منذ فترة تسعى لفك تناقضات وألغاز سوق الصرف الأجنبي في مصر منذ قرارات مارس/آذار الماضي والتي أعقبها تدفقات خارجية جيدة سواء عبر صفقة رأس الحكمة أو عبر اتفاقيات تمويل مع كل من صندوق النقد والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والتي تجاوز مجموعها 55 مليار دولار حيث أنه في الوقت الذي تدفقت فيه على البلاد هذه الكمية الكبيرة نسبياً من الدولار، مع تخفيف أحمال المديونية الخارجية بنحو 11 مليار دولار ضمن شروط صفقة بيع رأس الحكمة للجانب الاماراتي، واصل سعر الصرف في البنوك صعوده من نحو 45 جنيها في المتوسط إلى نحو 49 جنيهاً حالياً لكل دولار وعادت تعاملات السوق الموازية على استحياء مع تسعير دولاري للعديد من السلع، خاصة الذهب والسيارات، يتجاوز 55 جنيها للدولار وغض الطرف عن عمليات دولرة تجري في أسواق العقارات وغيرها الأمر الذي يؤشر على حالة نفسية وسيكلوجية تتوقع إمكانية عودة الأزمة مجدداً.
نقاط قوة
على الجانب الآخر لم تخل سوق الصرف المصرية من نقاط قوة وعوامل إيجابية على مدار الشهور الأخيرة يمكن رصد العديد منها وهي نقاط دفعت مؤسسات دولية مختلفة إلى تعديل التصنيف الائتماني لمصر والإشادة بمسارات الإصلاح الهيكلي التي تجري لمفاصل الاقتصاد الكلي وأدت إلى تحسين الموارد التقليدية للبلاد من النقد الأجنبي وفى مقدمتها تحويلات العاملين بالخارج والتي شهدت قفزة خلال فترة الربع الثاني بنحو 113% - حسب بيانات المركزي- وشهر يوليو/تموز بنحو 67%.
وتشمل نقاط القوة على خريطة سوق الصرف الأجنبي في مصر والتي تمثل "عوامل أمل " في إمكانية تحسن الأوضاع استمرار ارتفاع الاحتياطي الأجنبي ليسجل 46.5 مليار دولار- تغطى واردات 8 شهور- فى يوليو/ تموز2024 بزيادة قدرها 13.3 مليار دولار عما سجله الاحتياطي في أغسطس/اب 2022.
وحسب بيانات المركزي المصري فقد أسفرت معاملات الاقتصاد المصري مع العالم الخارجي خلال الفترة من يوليو إلى مارس من العام المالي 2023- 2024 عن فائض قدره 4.1 مليار دولار ارتفعت بالقطع بعد الإجراءات التصحيحية التي جرت صبيحة يوم 6 مارس/ آذار الماضي.
من هذه العوامل أيضا تحول صافي الأصول الأجنبية لدى القطاع المصرفي من سالب مطلع العام الجاري إلى موجب محققاً فائضاً يقدر بنحو 14 مليار دولار مع تنامي عمليات الانتربنك الدولاري بين البنوك لتبلغ 4 الاف عملية في الربع الثاني تقدر بنحو ثلاثة مليارات دولار الأمر الذي يؤشر على وفرة دولارية نسبية أتاحت تغطية المراكز المكشوفة لبعض البنوك وقيام بنوك لديها فائض بتمويل عمليات بنوك أخرى وقد تحققت هذه الفوائض لأول مرة منذ ٢٨ شهرا متواصلا عانت خلالها البنوك المصرية من عجز في تعاملاتها مع العالم الخارجي.
وكانت أزمة عجز صافي الأصول الأجنبية لدى القطاع المصرفي المصري قد بدأت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2021 ثم تحول العجز إلى قيمة سالبة في فبراير/ شباط 2022 مع بداية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
أيضا تواصل الحكومة المصرية سياسات تقييد الاستيراد خاصة للسلع غير الأساسية الأمر الذي من شأنه أن يخفف من ضغوط الطلب على الدولار وتحسن الميزان الخدمي- على خلفية انتعاش الموسم السياحي الصيفي- واستمرار تدفقات الإستثمار الخارجي سواء الخليجي عبر عمليات بيع شركات حكومية وأصول عقارية أو الاستثمار الأوروبي الذي يستهدف مشاريع الطاقة والبنية التحتية والخدمات المالية.
كما أن استمرار التمويلات الميسرة من جانب مؤسسات تمويل إقليمية ودولية- تشمل البنك الإسلامي والمؤسسة الإسلامية لتنمية التجارة وبنك التنمية الافريقي وصندوق النقد العربي وبنك الإستثمار الأوروبي- يلعب دوراً إضافياً في تحسين التدفقات المالية ويلبي احتياجات الحكومة وبعض مشاريع القطاع الخاص للتمويل.
عوامل ضاغطة
على الجبهة الأخرى تعاني سوق الصرف في مصر العديد من العوامل السلبية والضاغطة على حركة السوق وهي عوامل يعود معظمها لتوترات جيوسياسية بالمنطقة وتحولات نوعية تجرى الآن على خريطة الاقتصاد العالمي وتؤثر سلباً على الاقتصادات الهشة وفى مقدمتها الإقتصاد المصري.
وتأتي في مقدمة هذه العوامل إستمرار تراجع إيرادات قناة السويس بسبب تنامي حدة التوتر الاقليمي والمخاوف من إمكانية اتساع نطاق الحرب الإسرائيلية على غزة لتشمل جبهات إقليمية أخرى حيث فقدت القناة 50 % تقريبا من إيراداتها بعد عزوف الخطوط الملاحية الدولية عن الاقتراب من باب المندب بسبب عمليات جماعة الحوثي اليمنية في مياه البحر الأحمر
من هذه العوامل أيضا ارتفاع فاتورة المديونية الخارجية التي يتعين على مصر سدادها خلال العام المالي الحالي والتي تقدر بنحو 29 مليار دولار وتعد ثاني أكبر فاتورة سداد للمديونية الخارجية بعد فاتورة العام الماضي والتي تجاوزت 35 مليار دولار نجحت الحكومة في سدادها كاملة فى مواعيد استحقاقها مما عزز من مصداقية الدولة المصرية كمقترض من أسواق التمويل العالمية ومن المنتظر أن تبدأ قيمة هذه الفاتورة في التراجع التدريجي بدءاً من العام المالي 2025- 2026 الأمر الذي قد يخفف نسبيا من حدة الأزمة في الأعوام المقبلة.
كما تشمل العوامل الضاغطة على سوق الصرف إستمرار نقص السلع في الأسواق وعودة الاضطراب لسلاسل الإمداد فيما يتعلق بعدم توافر المواد الخام الداخلة في التصنيع خاصة التصنيع الموجه للتصدير الأمر الذي يؤثر سلبا على حصيلة الصادرات السلعية- غير البترولية- ويسهم في تغذية معدلات التضخم في البلاد بسبب نقص المعروض من السلع في الأسواق والاعتماد في التصدير على المنتجات الزراعية مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء ويفاقم من مشكلات الفقر وتدهور مستوى معيشة قطاعات واسعة من المواطنين وغياب العدالة.
ويخفف من الشعور بالأزمة نسبياً- خاصة لدى دوائر الأعمال- تلك التقارير التي تميل إلى التفاؤل والتقليل من حدة الخطر القادم والتي تصدر عن بعض المؤسسات المالية الدولية ومن بينها مؤسسات مورجان ستانلي وفيتش وجولدمان ساكس.
مؤسسات التصينف
فمن جهته يتوقع بنك مورجان ستانلي استمرار صعود الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي المصري ليبلغ 62.4 مليار دولار بنهاية السنة المالية الجارية وإلى 67.4 مليار دولار فى يونيو/ حزيران 2026 فيما يرجح بنك جي بي مورجان صعوداً أكبر للاحتياطي على خلفية صفقات استثمارية قيد التفاوض تجري حالياً بين الحكومة المصرية وبعض صناديق الثروة الخليجية، أبرزها صندوق الاستثمارات العامة السعودي وصندوق الثروة القطري، وهي صفقات حال نجاحها سوف تضمن تدفقات كبيرة تدور حول 20 مليار دولار للسوق المصرية في غضون الأعوام الثلاثة المقبلة، بينما يتحفظ بنك جولدمان ساكس على هذه التوقعات المتفائلة ويرجح الا يتجاوز هذا الاحتياطي حاجز 53 مليار دولار مع نهاية العام المالي الجاري.
أما وكالة فيتش للتصنيف الائتماني فقد أشارت في أحدث تقرير لها عن تقييم حالة الاقتصاد المصري إلى إمكانية تراجع العجز في الحساب الجاري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.4 % في غضون العامين القادمين مقابل 6.3 % في العام الجاري وهو تراجع من شأنه أن يعزز من قدرة الاقتصاد المصري على تمويل احتياجاته وسداد التزاماته الخارجية دون حدوث أزمات كبيرة داخلياً ومن ثم من المتوقع وفق هذا التقرير أن يشهد التصنيف الائتماني لمصر مزيداً من التحسن في المستقبل المنظور.
عوامل مؤثرة
وهكذا يتأرجح مستقبل سوق الصرف الأجنبي في مصر بين اليأس والرجاء وسوف تؤثر ثلاثة عوامل رئيسية في ترجيح أي من الكفتين وهذه العوامل باختصار شديد، هي مدى نجاح حكومة مدبولي الثانية في إدارة الملف الاقتصادي ثم تطورات حرب غزة وعما إذا كانت الأوضاع سوف تسير نحو الأسوأ أو سيتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فيما يتمثل العامل الثالث في مدى جاذبية السوق المصرية للاستثمارات الأجنبية في الفترة المقبلة- خاصة الاستثمارات الخليجية- ما يؤدي إلى إبرام صفقات كبرى ودخول القطاع الخاص المصري في شراكات ناجحة مع هذه الاستثمارات الأمر الذي يؤمن المزيد من تدفقات رؤوس الأموال الخارجية للبلاد وانعكاس ذلك إيجاباً على سوق الصرف.