الذهب يلامس ذروة تاريخية:
بريق يتحدى الأزمات

24.04.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

سوليكا علاء الدين

يُعدّ الذهب أحد أهم الأصول الاستثمارية في العالم وأكثرها انتشارًا، حيث يبقى المعدن الأصفر أداة التحوط الموثوقة التي تجذب المستثمرين في أوقات الأزمات وفترات اللااستقرار وعدم اليقين السياسي والمالي.  ومنذ بداية العام 2024، يواصل سعر الذهب مسيرته التصاعدية، مدفوعاً بجملة من العوامل، أبرزها: التوقعات بخفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، تسارع معدلات التضخم و ازدياد الطلب مع تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، محطّمًا بذلك كافة الأرقام القياسية ومُتجاوزًا حاجز 2400 دولار للأونصة ليتربع دون منازع على عرش الملاذات الآمنة.

رحلة متقلبة

خلال العقود الخمسة الماضية رسم الذهب مسارًا مُتقلبًا لأسعاره، متأثرًا بمتغيرات الأحداث السياسية والاقتصادية والأمنية. ففي عام 1970، استقر سعر أونصة الذهب عند 36 دولارًا فقط، ليشهد بعد ذلك قفزات متفاوتة. وفي 17 آذار/ مارس 2008، وصل الذهب إلى ذروة قياسية، حيث بلغ سعر العقود الفورية للأونصة 1,030.80 دولارًا، وهو أعلى مستوى له في ذلك الوقت. وفي آب/أغسطس 2020، سجل المعدن النفيس رقمًا قياسيًا جديدًا، حيث وصل سعر الأونصة إلى 2075 دولارًا، محققًا ارتفاعًا هائلًا بنسبة 20 في المئة، أي ما يعادل 570 دولارًا للأونصة، مدفوعًا بجائحة كورونا التي دفعت المستثمرين إلى البحث عن الملاذات الآمنة. وعقب اندلاع نيران الحرب الروسية-الأوكرانية، عاد الذهب ليلعب دوره التاريخي كملجأ آمن، فارتفع سعره مُجددًا إلى 2070.44 دولارًا للأونصة، مضيفًا رقمًا قياسياً إضافياً إلى رحلته غير المستقرة . ولكن هذا لم يكن سوى البداية، فمع حدوث أزمة المصارف الأمريكية وانهيار مصرف "سيليكون فالي" في آذار/ مارس 2023، اشتعلت أسعار الذهب مرة أخرى، متجاوزة عتبة الـ2000 دولار للأونصة لأول مرة منذ آذار/ مارس 2022.

وعلى مدار عام 2023، ارتفع الذهب ليحقق أفضل أداء سنوي له في 3 سنوات، حيث أنهى تعاملات العام عند 2062.49 دولارا للأونصة. وفي الربع الأول من عام 2024، شهد  سعر الذهب الفوري قفزةً ملحوظةً، ليصبح من أفضل فئات الأصول أداءً، حيث ارتفع بأكثر من 13 في المئة. وقد ساهم تصاعد التوترات في الشرق الأوسط بشكل كبير في هذا الارتفاع، حيث تخطى سعر الذهب عتبة الـ 2400 دولار أمريكي في 12 نيسان/أبريل، محققًا مكاسب استثنائية تجاوزت الـ 15 في المئة منذ بداية العام. ومع هذه القفزة، يكون الذهب قد سجّل أفضل أداء شهري له في أربع سنوات تقريباً، بواقع 10 في المئة في شهر واحد، مع ثلاثة أشهر متتالية من المكاسب القوية. يُذكر أن هذا الارتفاع جاء على الرغم من ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي إلى أعلى مستوى له خلال 5 أشهر.

محركات الارتفاع

يدفع الخوف المتزايد من حدوث ركود عالمي و تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا و الصراع بين الولايات المتحدة والصين و الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، المستثمرين إلى البحث عن ملاذات آمنة لحماية أموالهم. ويعتبر  المعدن الأصفر أهمّ هذه الملاذات، حيث تُساهم العديد من العوامل في رفع أسعاره خلال الفترة الحالية. وتتمثّل أبرز هذه العوامل في  معدلات التضخم التي سجّلت ارتفاعاً ملحوظاً في مختلف أنحاء العالم خلال عام 2023، ممّا أدى إلى قلق بشأن تراجع القوة الشرائية للعملات.

كما تلعب المصارف المركزية دورًا هاماً أيضاً من خلال إقدامها على تنويع احتياطاتها بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الدولار الأمريكي، الذي فقد بريقه لدى العديد من المصارف المركزية الساعية إلى تقليل تبعيتها الاقتصادية للولايات المتحدة، لا سيما الصين،. ويُعدّ الذهب، كونه أصلًا مستقلًا لا يخضع لسيطرة أي حكومة أو مصرف مركزي، بديلًا ممتازًا لهذه المصارف.

وبرزت الصين كأكبر مشترٍ للذهب في العالم خلال عام 2023، حيث ضاعف بنك الشعب الصيني (المصرف المركزي) احتياطاته من المعدن الثمين بشكل كبير عبر إضافة 225 طنًا من الذهب إلى احتياطاته. وبذلك ارتفع اجمالي احتياطات الذهب لديه إلى 2235 طنًا، مسجلاً أعلى مستوى منذ عام 1977.

كذلك، تواصل روسيا تعزيز احتياطاتها من الذهب، حيث وصلت إلى مستويات قياسية رغم العقوبات المفروضة عليها. وشهدت احتياطيات روسيا الدولية زيادةً طفيفةً في أول يناير/كانون الثاني الماضي، حيث وصلت إلى 598.6 مليار دولار من 592.4 مليار دولار في أول من ديسمبر/كانون الأول الماضي. وتُعدّ هذه الزيادة الأعلى منذ مارس/آذار 2022.

بالإضافة إلى ذلك، يعوّل المستثمرون على خفضٍ محتمل لأسعار الفائدة من قبل المصارف المركزية الكبرى، مثل الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا، خلال الفترة المتبقية من هذا العام.  وبحسب محللي "آي إن جي" ، تلعب سياسة الاحتياطي الفيدرالي دورًا حاسماً في تحديد مسار أسعار الذهب خلال الأشهر المقبلة. وبمعنى آخر، تستمر أسعار الذهب في الارتباط بتوقعات المستثمرين بشأن خفض أسعار الفائدة على المدى القصير. يشار إلى أن سعر الذهب يعتمد بصورة عام على التغييرات في أسعار الفائدة.

توقعات واعدة

عشية تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، عدّل بنك "غولدمان ساكس" توقعاته لأسعار الذهب بنهاية العام الجاري، ليُحددها عند 2700 دولار للأونصة، مُتخطيًا بذلك توقعاته السابقة البالغة 2300 دولار. ويُعزى هذا الرفع الجديد إلى استمرار وجود عوامل إيجابية تدعم سعر الذهب وقناعة البنك بأن الذهب يسير في مسار تصاعدي لا يتزعزع.

وأشارت توقعات أبحاث "غولدمان ساكس" إلى أنّ أسعار الذهب قد ترتفع أكثر خلال الفترة القادمة، مدفوعةً بشكل جزئي بتوقعات تخفيضات أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي. ولفت البنك الاستثماري الانتباه إلى أن الاستقرار النسبي للذهب بعد قراءة مؤشر أسعار المستهلكين الأمريكي الأقوى من المتوقع في أسبوع إصدار التقرير كان دليلاً آخر على أن سوق الذهب الصاعد لا تحركه العوامل المعتادة. وقد أدى ذلك، برفقة عوامل أخرى، إلى اتخاذ البنك قراره برفع توقعاته لأسعار المعدن الأصفر. وعلى الرغم من تسعير السوق لتخفيضات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأقل تدريجيًا، واتجاهات النمو الأقوى، وأسواق الأسهم القياسية، فقد ارتفع الذهب بنسبة 20 في المئة خلال الشهرين الماضيين.

البنك أوضح في بيان له أن العوامل التقليدية التي تؤثر عادة على سعر الذهب، مثل أسعار الفائدة الحقيقية وتوقعات النمو وسعر صرف الدولار الأمريكي، بالإضافة إلى التدفقات النقدية، لم تتمكن من تفسير الارتفاع السريع والقوي الذي شهده سعر الذهب خلال العام الحالي بشكل كامل. وأشار "غولدمان ساكس" إلى أن هذا "الجزء المتبقي الكبير" من نموذج سعر الذهب التقليدي، والذي لا يمكن تفسيره بالعوامل المذكورة، ليس ظاهرة جديدة ولا يدل على وجود مبالغة في تقييم الذهب.

وأضاف أن الطلب المستمر من المصارف المركزية بما في ذلك بنك الصين الشعبي، يزيد من مستويات أسعار الذهب العالمية، مشيرًا إلى أنه من المتوقع أن يرتفع الطلب على الذهب كملاذ آمن اعتمادًا على التخفيضات التي قد تحدث في أسعار الفائدة الفيدرالية، فضلاً عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

من جهته، توقع "سيتي جروب" تسجيل سعر الذهب 3000 دولار للأونصة خلال 18 شهرًا كحد أقصى، بدعم من مشتريات المستثمرين وتخفيضات محتملة للفائدة من قبل المصرف الفيدرالي. ورفع محللو البنك بقيادة "أكاش دوشي" توقعاتهم لمتوسط أسعار المعدن النفيس للعام الحالي إلى 2350 دولاراً، كما عززوا تقديراتهم لعام 2025 بنسبة 40 في المئة لتصل إلى 2875 دولارًا.

وأشار المحللون إلى أن تداولات الذهب سوف تخترق وتختبر بانتظام مستوى 2500 دولار في النصف الثاني من هذا العام، موضحين أن عودة التدفقات إلى الصناديق المتداولة بالذهب ستُساهم في الوصول إلى مستوى 3000 دولار. كما رفع "سيتي" الحد الأدنى لسعر الذهب بمقدار ألف دولار، ليصل إلى ألفي دولار للأونصة. وقد تم التأكيد على أنّ بداية دورة خفض الفائدة من قبل الفيدرالي أو حدوث ركود محتمل في عام 2025 ستكون بمثابة دافع قوي لزيادة الطلب على الاستثمار.

دعم المصارف المركزية

تتجه العديد من المصارف المركزية إلى تعزيز احتياطاتها من الذهب كتحوطٍ ضدّ التضخم ودعمًا لاقتصاداتها وعملاتها الوطنية، وذلك في ظلّ التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي تفرض عليها إعادة النظر في استراتيجياتها الاستثمارية المتبعة. ويُشكل الذهب أحد أهمّ مكونات احتياطيات النقد الأجنبي لدى المصارف المركزية، حيث يُعد مؤشرًا على صحة الاقتصاد الوطني وقدرته على الالتزام بتعهداته المالية، وذلك حسب موقع "جلوبال إنتر جولد".

وبحسب تقرير مجلس الذهب العالمي الذي جاء تحت عنوان "أنماط الطلب على الذهب" عن العام 2023، فقد سجّل الطلب على الذهب عام 2023 مستوىً تاريخياً، حيث بلغ 4،898.8 طنًا، مُقابل  4،751.9 طنًا خلال العام 2022.  ولكن عند استثناء الطلب على الذهب والمخزون في نقاط البيع، تبيّن أنّ الطلب على الذهب قد تراجع خلال العام 2023 إلى 4،448.4 طناً بالمقارنة مع 4،699.0 طناً التي تم تسجيلها خلال العام 2022. وعلى الرغم من هذا التراجع، إلا أنّ طلبات المصارف المركزيّة، والتي تُعدّ بمثابة محرّك رئيسي للذهب خلال الأعوام الماضية، قد واصلت ارتفاعها لتتخطى حاجز الـ1،000 طن للعام الثاني على التوالي.

وفي تفاصيل الأرقام، فقد بلغت مشتريات المصارف المركزيّة للذهب 1،037.4 طناً في العام 2023 مقارنةً بـ1،081.9 طناً في العام 2022. وتعد هذه المشتريات استمراراً للنهج المثابر الذي تتبعه المصارف المركزيّة منذ العام 2010 ، حيث تراكمت مشترياتها من الذهب ليتخطى مجموعها عتبةالـ7،800 طن حتى نهاية العام 2023. يُذكر أنّ أكثر من 25 في المئة من هذه المشتريات تمّت خلال العامين الأخيرين 2022 و2023.

كما قدّم مجلس الذهب العالمي لائحة احتياطات الذهب لمئة بلد في نهاية العام 2023، حيث تواصل الولايات المتحدة هيمنتها على احتياطات السبائك الرسمية في العالم، مع امتلاكها  8،133.46 طناً من الذهب أي ما يعادل 69.89 في المئة من احتياطات مصرفها المركزي. وجاءت ألمانيا في المرتبة الثانية بامتلاكها 3،352.65 طناً (69.06 في المئة من احتياطي المصرف المركزي)، تليها صندوق النقد الدولي بـ 2،814.04 طناً وإيطاليا بـ 2،451.84 طناً (65.89 في المئة من احتياطي المصرف المركزي) وفرنسا بـ2،436.97 طناً (67.28 في المئة من احتياطي المصرف المركزي).

أما على المستوى العربي، فقد جاءت المملكة العربية السعودية في المرتبة الأولى إقليميّاً والـ16 عالميًا بـ 323.1 طنًا من الذهب (4.24 في المئة من احتياطي المصرف المركزي). في حين احتل لبنان في المرتبة الثانية عربياً  المرتبة الـ19عالميًا، باحتياطي يبلغ نحو 287 طنًا أي ما يعادل 10 ملايين أونصة تقريبًا، أي ما يشكّل 54.45 في المئة من إجمالي احتياطيات لبنان الدولية.

لبنان: بريق في الأفق

أظهرت ميزانية مصرف لبنان لشهر نيسان/أبريل 2024 ازدياداً بنسبة 6.58 في المئة أو 1.34 مليار دولار أميركي في قيمة احتياطاته من الذهب إلى 21.67 مليار دولار أميركي (1،939.07 ترليون ل.ل.). ويعود هذا التحسن  إلى ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق العالمية إلى أعلى مستوى تاريخي لها  على إثر التوتّرات في البحر الأحمر وتراجع الدولار الأمريكي.

ويخضع احتياطي الذهب اللبناني لقانون النقد والتسليف الذي يمنع المساس به دون قرار صادر عن مجلس النواب، وذلك بموجب القانون رقم 42 الصادر عام 1986 الذي ينص على أنه" بصورة استثنائية وخلافاً لأي نص، يمنع منعاً مطلقاً التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه، مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب". ويحتفظ لبنان بقسم من هذا الاحتياطي في قلعة "فورت نوكس" الخاضعة لحراسة مشدّدة في الولايات المتحدة، بينما يُبقي على القسم الآخر في خزائن المصرف المركزي في لبنان.

يُضفي ارتفاع أسعار الذهب عالمياً بريقًا إضافيًا على احتياطات لبنان المخزّنة من المعدن النفيس، مع ذلك، لا يُتوقّع أن يُؤدّي ذلك إلى انعكاساتٍ فوريةٍ على الاقتصاد المتردي أو أسواق القطع الأجنبيّة، وذلك بسبب القيود القانونية التي تمنع التصرف باحتياطات الذهب بأيّ وسيلة ليقتصر التأثير على تعزيز الجانب النفسي من خلال ارتفاع قيمة مخزون الذهب وانعكاسه على إمكانية عودة الاستقرار على الساحة النقدية. هذا ومن المتوقّع أن ترتفع القيمة الإجمالية لاحتياطات الذهب اللبناني بشكل ملحوظ، وذلك تماشياً مع توقعات البنوك الاستثمارية العالمية التي تُشير إلى استمرار ترجيحات ارتفاع أسعار المعدن الأصفر خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

الذهب على حافة الترقب

يُشير بنك "غولدمان ساكس" إلى وجود بعض العوامل التي قد تُساهم في الحد من ارتفاع سعر الذهب، أو حتى إحداث انخفاض فيه. وتشمل هذه العوامل الحل السلمي للقضايا الراهنة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تسوية العلاقات المرتبطة بالعقوبات، انتهاء برامج شراء الذهب التي تقوم بها المصارف المركزية الكبرى في الأسواق الناشئة، استقرار مخاوف النمو في الصين ورفع أسعار الفائدة بشكل كبير من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي. ومع ذلك، يبقى احتمال حدوث هذه التطورات في المدى القريب منخفضاً، مما يدعم توقعات البنك باستمرار الارتفاع في سعر الذهب.

وفي ظلّ التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في الشرق الأوسط، وتزايد المخاوف من توسع نطاق الصراع، إلى جانب تأكيد رئيس الاحتياطي الفيدرالي "جيروم باول" بأن استمرار ارتفاع التضخم، مما قد يؤخر أي تخفيضات في أسعار الفائدة في الأجل القريب، تُشير كافة التوقعات إلى أن أسعار الذهب مرشحة لمزيد من الارتفاعات القياسية خلال الفترة القادمة. مع ذلك، تبقى إمكانية حدوث تقلباتٍ قصيرة المدى في أسعار الذهب قائمة، وذلك استجابةً لتغيرات البيانات الاقتصادية. لييبقى السؤال مفتوحًا: هل ستصدق التوقعات ويُحلّق سعر المعدن النفيس إلى ما هو أبعد من 3000 دولار أمريكي للأونصة خلال العام 2024؟