ماذا يضمن عدم تكرار
الأزمة الاقتصادية المصرية؟

18.04.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

القاهرة: محمود عبد العظيم

لا يجد المتابع للمشهد الاقتصادي المصري منذ استحكام أزمته الاقتصادية قبل عامين صعوبة في إدراك أن جوهر الأزمة هو يكمن في الخلل الهيكلي المزمن في تركيبة الاقتصاد وهو خلل ناتج عن خلل موازٍ في السياسات الاقتصادية التي جرى اتباعها على مدار العقود الأربعة الماضية.

أيضاً لايجد المتابع صعوبة في إدراك أن المعالجة المالية والنقدية التى نتجت عن تدفقات دولارية خارجية قوامها 56 مليار دولار وأدت إلى ردم الفجوة التمويلية مؤقتاً لاتكفى لمواجهة الخلل الهيكلي الأمر الذي لا يضمن عدم تكرار هذه الأزمة مستقبلاً لاسيما إذا ما تم استخدام هذه الحصيلة الدولارية الكبيرة على نحو غير كفؤ فى ظل إحتياجات متزايدة من النقد الأجنبي.

ومما يرجح إمكانية تكرار الأزمة في غضون العامين المُقبلين أن هناك تقارير دولية تشير إلى أن مصر سوف تواجه نقصاً حاداً في مصادر الطاقة - الغاز على وجه الخصوص- خلال الشهور المقبلة وهذه مشكلة ذات شقين الأول يتعلق بحرمان البلاد من عوائد تصدير الغاز الذي كانت تتمتع به والثاني يتعلق بضغوط محتملة على ميزان المدفوعات لاستيراد كميات كبيرة من الغاز لسد إحتياجات البلاد مما يخلق طلباً إضافياً على حصيلة النقد الأجنبي الشحيحة.

الموارد الدولارية التي جاءت من صندوق النقد والاتحاد الأوروبي وصفقة رأس الحكمة تكفي للنصف الأول من العام الحالي

وإذا كان تقدير بعض المؤسسات المالية العالمية قد كشف عبر تقارير حديثة لها عن أن الموارد الدولارية التى حصلت عليها مصر جراء إتفاقيات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي إلى جانب حصيلة صفقة رأس الحكمة سوف تؤمن سداد الالتزامات الخارجية حتى منتصف العام المالي 2025-2026  فإن ضمان الاستدامة المالية وانتظام القدرة على السداد بعد ذلك التاريخ يستلزم سياسات اقتصادية لاتعتمد فقط على إصلاحات مالية ونقدية بل يجب أن يمتد الإصلاح إلى قواعد اللعبة الاقتصادية ذاتها وإعادة التوازن لآليات توزيع الثروة ووسائل الإنتاج فى البلاد على نحو يسهم بمرور الوقت في توسيع قواعد الإنتاج ويضمن قدراً من الإستقرار الإجتماعي والاقتصادي.

من هنا نعود إلى السؤال المحوري وهو ماذا يضمن عدم مواجهة الاقتصاد المصري أزمات مماثلة في المستقبل المنظور وماهو المطلوب لإصلاح ذلك الخلل الهيكلي المزمن في هذا الاقتصاد المنهك؟

الاعتماد على مداخيل السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين تصنع اقتصاد هشاً لا يصمد أمام رياح الأزمات

يمكن اعتبار المطلب الدولي والمحلي بل والاقليمي بضرورة تغيير قواعد اللعبة هو البداية الصحيحة للإصلاح الحقيقي لمسار الاقتصاد المصري وذلك على مستوى التوجه الاستراتيجي من ناحية وعلى مستوى القوى الفاعلة على الخريطة الإقتصادية من ناحية ثانية.

بمعنى آخر لابد من تغيير الأهداف الرئيسية للاقتصاد وذلك بالتخلي نهائيا عن فكرة التحول إلى إقتصاد خدمي يعتمد السياحة وحصيلة المرور في قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج مصادر أساسية للدخل لأن الإعتماد على هذه المصادر على مدار السنوات الماضية صنع اقتصاداً هشاً لم يصمد أمام رياح الأزمات التي هبت عليه من الخارج سواء خلال أزمة كورونا أو أزمة الحرب الروسية الأوكرانية والبديل لذلك هو التحول نحو الإعتماد على الإنتاج الزراعي والصناعي الكثيف ليس فقط لأن ذلك يصنع نمواً مستداماً ويضمن حصيلة صادرات جيدة بل لأن تغطية الإحتياجات المحلية من السلع الرئيسية بات أمراً حتمياً يتعلق بالأمن القومي للبلاد بعد أن لمس الجميع الخطر الذي يمثلة نقص السلع الرئيسية في الأسواق على الإستقرار الإجتماعي وأن عدم توافر موارد دولارية كافية لاستيراد هذة السلع سوف يصنع شبكات احتكارية عصية على التفكيك مستقبلاً ويصنع تضخماً قاتلاً للنمو ويوسع من دوائر الفقر والبطالة والحرمان في بلد تصنف المؤسسات الدولية نحو 60 في المئة من مواطنيه بأنهم فقراء أو قريبين من الفقر.

المطلوب التحوّل نحو الاقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي الذي يستلزم سياسات تتعلق بالتمويل والحماية الجمركية وأولوية لاستيراد المعدّات

 

هذا التحول نحو الاقتصاد الانتاجي الصناعي والزراعي يستلزم بالضرورة تغيير السياسات الاقتصادية العامة خاصة سياسات التمويل والحماية الجمركية ومنح أولوية الاستيراد للمعدات ومستلزمات الإنتاج إلى جانب سياسات تشريعية داعمة ومنحازة للإنتاج المحلي ودعم الكيانات الناجحة تصديرياً إلى جانب تغيير السياسات التعليمية لتخريج كوادر فنية مؤهلة للعمل في المصانع واستيعاب التكنولوجيا الحديثة وتطوير قطاع الخدمات المالية ليلبي إحتياجات شرائح واسعة من السكان خاصة الفقراء وتمكينهم من الانخراط في عمليات الإنتاج للحصول على دخول مستدامة .

كما أن هذا التحول المطلوب يعود مباشرة إلى النقطة الثانية المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً والمتمثلة في توزيع الكعكة الإقتصادية على مختلف القوى الفاعلة ونصيب كل طرف من هذه الكعكة على نحو عادل. فقد كشفت الأزمة الأخيرة عن أن تهميش دور القطاع الخاص في العملية الإقتصادية يضر بالجميع ومع إدراك الحكومة المصرية لهذه النقطة واعترافها بأهمية عودة القطاع الخاص بقوة في المرحلة المقبلة يصبح من المهم أن تتم هذه العودة على أسس سليمة من حرية الأسواق وعدالة المنافسة ومنح هذا القطاع الخاص الفرصة الكاملة للعمل والانطلاق لاسيما وأن مصر لاتزال تمتلك شركات قطاع خاص قوية وقادرة على الإنتاج والتصدير وتتمتع بشبكات علاقات ومصالح إقليمية جيدة وتعمل في مجالات إنتاجية متنوعة، الأمر الذي يعني إمكانية إستغلال هذه الإمكانات على الفور إذا ما توفرت الإرادة السياسية لذلك.

ومما يدعم أهمية إفساح المجال أمام القطاع الخاص المصري أن الإستثمار الخارجي الذي تسعى الحكومة إلى جذبه لن يأتي سوى عبر شراكات ناجحة مع القطاع الخاص المحلي ولن يأتي إلا إذا اطمأن إلى ثبات واستقرار السياسات الداعمة للمبادرة الفردية الأمر الذي يستلزم من الحكومة المصرية إعطاء المزيد من الإشارات الإيجابية  العملية في هذا الاتجاه.

ختاماً يمكن القول بأن عمليات الإنقاذ المالي- ذات الطابع السياسي- التى جرت للاقتصاد المصري مؤخراً قد لا تتكرر في حال تعرض مصر لأزمة جديدة ذلك لأن العوامل الجيوسياسية التي لعبت دوراً مؤثراً في ترتيب حزمة الإنقاذ الأخيرة قد تتغير في غضون أشهر أو أسابيع ومن ثم يصبح من المهم إعتماد فلسفة إصلاح جادة وحقيقية والتخلي عن فكرة تركيز الثروة والسلطة لدى جناح واحد والاعتماد على النفس في إعادة بناء اقتصاد انتاجي يفي باحتياجات 106 ملايين مواطن هم إجمالي عدد سكان مصر فى الداخل حسبما أعلن قبل عدة أيام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، واقتناص فرص لاتزال موآتية في اقتصاد يتسم بالتنوع والعمق والقدرة على الإبتكار وقاعدة بشرية ماهرة إلى حد كبير.