انكماش التجارة العالمية في 2023
نمو تجارة الخدمات لم يعوض تراجع البضائع

26.01.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

كتب فيصل أبوزكي

شهدت التجارة العالمية انكماشاً في العام 2023 حيث أصبح من المتوقع تراجع قيمة التبادلات التجارية في العام بنسبة 4.3 في المئة عما كانت عليه في العام 2022. ووفق تقرير حديث لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأنكتاد) يتوقع أن تصل قيمة هذه التبادلات إلى 31 تريليون دولار في العام 2023 مقارنة مع 32 تريليون دولار تقريباً في العام 2022. وكان التراجع جلياً في تجارة البضائع (Merchandise Trade) المتوقع تراجعها بمقدار 2 تريليون دولار أي بنسبة 7.5 في المئة ما بين العامين 2023 و 2022، هذا في الوقت الذي يتوقع أن تواصل تجارة الخدمات نموها بنسبة 7 في المئة خلال الفترة نفسها مدفوعة بتنامي تجارة الخدمات الرقمية. ويأتي هذا الانكماش بعد التعافي الذي سجلته التجارة في العالم خلال العامين 2022 و 2021 من تبعات جائحة كورونا ولا سيما من اضطراب سلاسل الامداد.

ويعكس هذا التراجع بروز رياح معاكسة من مصادر متعددة كان على رأسها انخفاض النمو الاقتصادي والمتوقع أن يصل معدله إلى حدود 2.2 في المئة من العام 2023 مقارنة مع 3.1 و 5.9 في المئة في العامين 2022 و 2021، وسجلت البلدان المتقدمة تراجعاً في الطلب بعد زوال مفاعيل حزم الدعم المقدمة للاقتصاد خلال حقبة الجائحة وتسارع معدلات التضخم وتبني سياسات نقدية تشددية للسيطرة على  التضخم والمتمثلة بشكل أساسي برفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية وخلال فترة قصيرة نسبياً (11 زيادة في سعر فائدة الاحتياطي الفدرالي خلال 2022و 2023)، كما إن اقتصادات بلدان شرق آسيا التي لعبت خلال العقدين الأخيرين دوراً مهماً في نمو التجارة العالمية نتيجة فورة التصنيع والتصدير التي شهدتها، كما تأثرت الكثير من البلدان النامية بتراجع أسعار السلع الأولية مثل النفط والغاز والمنتجات الزراعية والمعادن والذي ساهم بانكماش قيمتها في التبادلات التجارية العالمية. 

مخاطر في وجه التجارة 

ويركز تقرير الأنكتاد على عدد من العوامل التي أثرت على حركة التجارة في العام الماضي والتي لا يزال مفاعيل بعضها سارياً حتى الآن وأهمها:

  • على الرغم من استمرار منحى النمو الإيجابي في الاقتصاد العالمي خلال 2023، فإن هذا النمو كان دون ما كان عليه في العام 2022 ودون المعدلات التاريخية، كما كان هناك تفاوت في معدلات هذا النمو بين الدول والأقاليم. ومن الواضح أن التضخم أرخى بظلاله على معظم اقتصادات العالم التي كان عليها التعايش مع ارتفاع سريع في أسعار الفائدة وزيادة اعباء خدمة ديونها، كما إن البلدان النامية ولاسيما تلك التي تعتمد على تصدير السلع تأثرت بتراجع أسعار معظمها مقارنة مع ما كانت عليه خلال العام 2022 بخاصة بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
  • إن ارتفاع أسعار الفائدة نتيجة جنوح المصارف المركزية ولاسيما بنك الاحتياطي الفدرالي الاميركي والبنك المركزي الأوروبي نحو التشدد النقدي عبر رفع أسعار الفائدة وتقليص السيولة في الأسواق للجم التضخم لا يزال يشكل عاملاً ضاغطاً على النمو الاقتصادي وعلى العناصر الأساسية التي تحركه مثل الإنتاج الصناعي. وتسعى البلدان الصناعية إلى احتواء التضخم وفي الوقت نفسه تفادي الركود عبر تحقيق ما يسمى بالهبوط الآمن (Soft Landing). وعلى الرغم من التراجع الملحوظ في معدلات التضخم في النصف الثاني من العام الماضي، لا تزال المصارف المركزية تلتزم الحذر في مسألة خفض الفوائد، علماً أن الاحتياطي الفدرالي ارسل إشارات قوية نهاية العام الماضي عن اعتقاده بأن التضخم اصبح تحت السيطرة وأن أسعار الفائدة وصلت إلى ذروتها ويمكن توقع خفض على مراحل لهذه الأسعار خلال العام 2024. وتفاعلت الاسواق بشكل كبير مع اشارات الاحتياطي الفدرالي في اجتماعه الاخير في شهر ديسمبر الماضي عبر ارتفاع قياسي في اسواق الاسهم والسندات ومعظم الاصول المالية وفق افتراضات بأن الفدرالي سيقدم على 5 الى 6 تخفيضات في اسعار الفائدة وهو ما يفوق ما صدر عن هذه الاجتماعات بأن الفدرالي يتوقع 3 تخفيضات.
  • لا تزال أسعار السلع (commodities) تشهد تقلبات نتيجة التوترات الجيوسياسية عالمياً وإقليمياً ولجوء بعض الدول إلى فرض قيود على تصدير بعض هذه السلع ولاسيما الغذائية منها. فأسعار هذه السلع التي سجلت ارتفاعاً ملحوظاً خلال العام 2022 عادت وتراجعت خلال العام 2023. هذه التقلبات تكون لها انعكاسات سلبية في الغالب على البلدان النامية التي تشكل السلع العمود الفقري لصادراتها وايراداتها من العملات الأجنبية، يضاف إلى ذلك التنافس العالمي الحاصل على تأمين المعادن والعناصر المطلوبة لصناعة الطاقات الجديدة مثل النيكل والنحاس وغيرها مما يغذي التقلبات الحاصلة في اسعارها.
  • إن سياسات إعادة تشكيل سلاسل الامداد العالمية والتي تسارعت وتيرتها بعد جائحة كورونا وبشكل أساسي باتجاه تقليص اعتماد الولايات المتحدة وحلفائها على الصين كمصدر أساسي للكثير من المنتجات والسلع الحساسة ستترك آثاراً مهمة على اتجاهات وأنماط التجارة بين الدول والكتل التجارية الرئيسية في العالم ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية والصين والاتحاد الأوروبي والبلدان التي تقع ضمن مجالاتهم الاقتصادية الحيوية مثل بلدان منظمة "آسيان" (ASEAN). وقد تساهم هذه السياسات على المديين المتوسط والبعيد إلى تغييرات ملحوظة في اتجاهات التدفقات الاستثمارية والتجارية في العالم وربما الى تراجع الاستثمار الأجنبي في الصين ولاسيما من الولايات المتحدة واوروبا وانتقال بعض الصناعات منها إلى بلدان مجاورة مثل فييتنام والمكسيك وغيرها بهدف انشاء سلاسل امداد أكثر اماناً من الناحية الجيوسياسية وان كان على حساب الكلفة وحرية التجارة.

يضاف الى هذه المخاطر، مخاطر جديدة برزت خلال الاسابيع الاخيرة وعلى رأسها اضطراب حركة الملاحة عبر البحر الاحمر نتيجة الاحداث العسكرية المرتبطة بالحرب على غزة مما بدأ يترك انعكاسات على اسعار الشحن والتأمين وعلى حركة التجارة ولاسيما بين اوروبا وآسيا.

إعادة تشكيل سلاسل الامداد والممرات التجارية

وتترافق سياسة خفض مخاطر التجارة مع الصين (De-risking) التي تتبناها وتروج لها الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين مع اضافة قيود على صادراتها ذات التقنيات العالية والاستخدام المزدوج مثل الرقائق (Chips) الى الصين وفرض قيود على الصادرات الصينية في هذه المجالات مثل الالكترونيات وتقنيات الاتصالات وصناعة السيارات الكهربائية وغيرها. ويرافق ذلك بروز سياسات حمائية وبرامج دعم حكومية لقطاعات محددة مثل صناعة الرقائق والصناعات المرتبطة بالتحول الى الطاقات النظيفة. وتؤدي عادة هذه الإجراءات إلى ردود مماثلة من الشركاء التجاريين حول العالم وربما إلى ارتفاع كلفة الإنتاج وتحول في نمط الاستثمار الأجنبي وإلى إلحاق أضرار في البلدان النامية غير القادرة على توفير الدعم لصناعاتها الوطنية بالقدر الذي تقوم به البلدان المتقدمة.

ويبقى السؤال الأساسي وهو هل الانكماش المسجل في التجارة العالمية خلال 2023 ظرفي أم أنه مؤشر على تحول هيكلي طويل الأجل ينطوي على رياح معاكسة للتدفقات التجارية وكذلك الاستثمارية نتيجة العوامل المذكورة أعلاه ولاسيما التوترات الجيوسياسية المتمثلة بتصاعد المنافسة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وزيادة برامج الدعم لقطاعات جديدة ولاسيما في مجال التقنيات المتقدمة والطاقة النظيفة وكذلك بروز نزعات حمائية جديدة. وهل يمكن اعتبار التغييرات الحاصلة في النفقات التجارية والاستثمارية مقدمة لاعادة رسم خريطة جديدة لهذه التدفقات وللممرات التجارية (Trade Corridors) وللعولمة وللتوازنات الجيوسياسية الحالية مع ما يمكن ان يجلبه من مخاطر عدم استقرار وحروب متنقلة.