"أغادر موسكو.."
رودريغ الخوري

21.12.2023
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

كتب القنصل اللبناني في موسكو (٢٠١٩-٢٠٢٣)  رودريغ الخوري ما يلي : أربع سنوات قضيتها قنصلاً للبنان في روسيا الاتحادية. سنوات كانت بلا شك مليئةً بالتحديات والأحداث المهمة على اكثر من صعيد، لكنها كانت ايضاً، على الصعيد الشخصي، بالنسبة لي، سنوات مليئة بالعشق… واقول "مليئة بالعشق"، لأن ما عرفته في ذلك الشعب الأبي من صفاتٍ رائعة، جعلت بيني وبينه قصة عشق لا تنتهي.

أغادر ولا تغادرني من روسيا مشاهد ومواقف…

أغادر ولا أنسى ذلك العطف الذي كنتُ أُقابَل به عندما يعرفون انني اجنبي. يسارعون، يساعدون، يحاولون المساعدة… هذه سمة من سمات الشعب الروسي المميزة في عالم تتصاعد فيه النزعات العنصرية الرافضة للآخر …

أغادر ولا أنسى احترام الشعب الروسي لحضارات الآخرين. للغاتهم. لقيمهم. لخصوصياتهم.

لآلامهم ايضاً …

أغادر ولا أنسى مئات باقات الزهور التي كنا كل يوم نجدها موضوعة على مداخل السفارة بعد انفجار مرفأ بيروت الأليم. هي أزهار من أشخاص لا نعرفهم، كانوا يأتون وفوداً وفوداً تعبيراً عن تعاطفهم مع المتألمين في وطننا الجريح …

أغادر ولا أنسى الكم الهائل من الاتصالات التي كنا نتلقاها من أناس يريدون مد يد العون لأهلنا في لبنان …

أغادر ولا اذكر اننا طلبنا مرةً تسهيل أمور مواطن من مواطنينا في الظروف الصعبة التي مررنا بها، إلا ووجدنا أقصى درجات التعاون على مختلف المستويات.

في المسجد يُشعرك المفتي انك في بيتك، وفي الكنيسة يُشعرك البطريرك انك في بيتك ايضاً.

أغادر ولا أنسى كم تأثرتُ حين رتّلتُ يوماً باللغة العربية في احدى كنائس موسكو … لأستدير فأجد جمهور المؤمنين راكعين ساجدين إلى الأرض والدموع تنهمر من أعينهم تأثراً بألحان الشرق ، ولغات الشرق ، وأصوات الشرق وترانيمه .

أغادر ولا أنسى في الشعب الروسي صدقه في التعبير. الكلمة عند الروس مقدسة. لا غش فيها ولا مغالاة ولا مواربة ولا مسايرة ولا كذب.

صحيح ان الصداقات عندهم لا تبنى بيوم واحد، ولكنها لا تنتهي ولا تسقط ابداً. هي بالنسبة اليهم كالكلمة، مقدسة. هي شيء جمعه الله، وما جمعه الله لا يفرقه انسان ولا مصالح. القيم عندهم ليست مجرد افكار تُكتَب بل حياةٌ تُعاش. يضحّون بمالهم وبأنفسهم من اجل فكرة عظيمة إذا اقتنعوا بها، اومن اجل محتاج او مظلوم في أقصى أقاصي الارض.

هو شعب يحب المظلومين بقدر ما يكره الظلم. يحب الضعفاء بقدر ما يكره الضعف. هو شعب صبور طويل الأناة، رحيم هادئ قوي ثابت لا يستسلم ولا يُهزَم. يشعر بالعار ان لم يُنصِف مظلوماً. ويشعر بالألم ان لم يساهم بتخفيف اوجاع متألم .

هم كذلك لا يحكمون بسرعة. انهم بطبيعتهم يحبون البحث. لا يتأثرون بما يبثه الإعلام الدعائي، بل يبحثون عن الحق في صوت من لا صوت لهم. يبحثون عن الذين لم تُنصفهم الظروف ليُنصِفوهم، يبحثون عن المبدعين الذين أخفى الفقر مواهبهم ليفتحوا لهم آفاق المجد والتميز . جعلوا جامعاتهم "صداقةً بين الشعوب" ، ومراكز أبحاثهم خدمة للإنسانية، وقد عرفنا نحن اللبنانيين ذلك الأمر مع مئات الطلاب والخريجين الذين تعلموا هناك فنجحوا وابدعوا .

أغادر ولا أنسى في الشعب الروسي كذلك سمة اخرى مهمة وهي التواضع . حرارة الاستقبال والتواضع لدى المسؤولين على أعلى المستويات امر لمسته لمس اليد وهو مدرسة وعبرة لكثيرين ممن تكبّروا ففشلوا وأفشلوا.

هذه سمات عرفتها في هذا الشعب العظيم، في مختلف قومياته، ومختلف مناطقه وأطيافه. هي روسيا، الكبيرة جداً، العميقة جداً،  قيادةً وشعباً وروحاً تجمع الماضي بالحاضر بالمستقبل بتناغم مطلق .

أغادر هذا البلد العظيم ، تاركاً منه قطعةً في قلبي … وتاركاً قطعةً من قلبي فيه وبصمةً من حب … ونفحةً من عبق لبنان وأرزه وبحره وسحر الشرق .