في تقديمه للكتاب يلاحظ المستعرِب الفرنسي فرانك مرميه "إن صدور هذا البحث التاريخي واللساني الاجتماعي في هذه الفترة التي تلي انفجار المرفأ في 4 أب 2021، يتخذ أهمية كبرى. فإذا كانت الأنقاض قد أزيلت وإذا كانت بعض الأبنية قد أعيد إعمارها، فإن آثار الصدمة الجسدية والنفسية ما تزال حية. يتنبأ أن هذا البحث سيكون له أهمية كبيرة في تاريخ المدن في العالم العربي في الحد من التصدعات المتعددة التي يعانيها مخيال سكان المدينة. ويلاحظ أن نادر سراج عندما يعيد بناء هذا الماضي المشترك بهذه الطريقة الرائعة فإنه يشيد من أجل سكان بيروت "مكانًا للذكرى" الإنسانية التي تلامس وجدانهم".
فِعلا التذكّر والاعتبار لعيش الحاضر واستشراف مآلات المستقبل، بالمعنى العرفاني، شكّلا موضوعة كتابنا أفندي الغلغول" الصادر عام 2013 . وهما كذلك مدار هذا الكتاب الذي يكشف صفحات مطوية وأوراق منسية من تاريخ المدينة وأهلها، مبينًا أن سردياتنا الصغرى هي مرآة عاكسة لسرديات كبرى منطوية بين دفتيه. يتآزر الدرس الأنثروبولوجي والمخيال المدينيّ واللغة المحللة والشارحة مع الماضي المشترك لبيروت مطلع القرن الماضي في تجسيد قيم المجتمع وتظهير مفاهيم الهُويّة والكينونة والانتماء عند الناس. تتجلى في فصوله تفتّحات الحداثة النفعية وتأثيراتها بوصفها عملية إنسانيّة تساوق حياة الإنسان وتستجيب لمصالحه. استرفاد أوجهها الاجتماعية الاقتصادية وربطها بمفهوم الهُويّة الجامعة المتشكّلة في كنفها واستجلاء شروط انتظامها لا تضاربها، هي مرتكزاته.
لذا اجتهدنا لدراسة مسار الحداثة إنسانيًّا، ولفتح كُوىً معرفيّة للقراء كي يتبيّنوا اللامُدرك من السرديات الصغرى للعيش المتغير في بيروت ما بين الحربين. توالت الأيام والعهود على الناس وعانوا ويلات الحرب، لكن أيامهم الزاهية داخلتها السرّاء والضرّاء، فارتقت بالصنائع والفنون والعلوم، وعزّزت آدابًا رفيعة غيّرت النفوس، واعتمدت مبتكرات حديثة قلبت أدوارًا ويسّرت خدمات. فصلناها ودرسنا تجليات الثقافة وعاينّا انبلاج اللغة وردينا الاعتبار إلى الهوامش ووصلنا حلقات مفتقدة في التاريخ الاجتماعيّ للمدينة.
استنطقنا أبطال الحكاية، فروا مسارات المجتمع ومخاض ترسّخ الهُويّة الوطنيّة وبداية الفورة الاقتصادية (نهضة مدرسة الصنائع واستضافتها أول مؤتمر للحرير 1930 وصدور تقرير "التطور الاقتصادي في لبنان" 1948). حقيقٌ أن "المظهر العلميّ الآليّ في الإنسانيّة عبقريّة بديعة مدهشة"، كما تتبصّر ميّ زيادة، لكن الإنسان الذي تستهدفه مستحدثات العلم الماديّ وتيسّر سبل عيشه، متعيّن داخل الموطن والمكان، وداخل الثقافة والحضارة، وفي الزمان.
أظهرنا أن المدن معمورة بأناسها ومجبولة بقصص قاطنيها ومسكونة بأخبارهم وعابقة بذكرياتهم، قبل أن تكون مجرد مساحة مبنية. أثبتنا السير العائلية كنماذج واقعية من تحولات بيروت كما وعاها ورواها بشغف "أبطال الحكاية". هي سيرة مدينة عربية ناهضة من كبوات الحربين، نابضة بحيوات رجالاتها ويوميات عائلاتها. نهلت من حضارة "بني عثمان"، وتلقفت نسائم الحداثة الغربية الفرنسية التي بدلت فيها أدوارًا وطورت أنماط عيش. ظهّرت الشواهد كيفية تبلور بناها الإدارية والتربوية والاقتصادية وتطور الأشكال السلوكية لأهلها. مما أحدث فوارق بينة الملامح في منظومات التعبير والثقافة والاجتماع والاقتصاد والعمران.
ما من شك أن للمدينة قيمًا وحياة وعمرانًا وانتظامًا وهوية، لذا أبرزنا جهود أهلها لتأكيد هويتهم الوطنية وبلورة حيثيتهم الكيانية في ظل تبدل الدول والبيارق. واعترافًا بفرادتها وريادتها في تقبل الوافد والجديد والمفيد، استحقت ألقابًا وكنايات متنوعة الدلالات. فقد كانت بيروت عام 1892 "ينبوعًا للثروة والتقدم والتعليم العصري" وفق اسماعيل كمال بك، ووسمها الامبراطور الألماني غليوم الثاني (ويلهم) بـ "درة في تاج آل عثمان" (1898). كما دعيت أيضًا: "زهرة سوريا"، و"مرضعة العلوم". وهي "مدينة التجار والقناصل" (1800)، و"باريس سوريا" (1840)، و"مدينة الكتاب والعلم" (1860)، ويمكن اعتبار محمد علي مؤسسًا لبيروت الحديثة. وعرفت بأنها: "أنيسة المدن"، و"ست الدنيا"، فاستحقت بجدارة هذه المسميات التي قدرت تألقها ووفتها بعض حقها وثمنت أدوارها ومساراتها نحو الحداثة والانفتاح، فباتت تعد من المدن الأوروبية الراقية. وحده شاعرها عمر الزعني اعتبرها "زهرة في غير أوانها". فهل تحقق حدسه بعد مئة عام من إعلان "لبنان الكبير"؟