قانون التقاعد في فرنسا
يأجج الصراع الاجتماعي

03.04.2023
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

منذ أكثر من شهرين والتظاهرات تجوب شوارع أكبر المدن الفرنسية وعلى رأسها العاصمة باريس. الأسباب تعود الى رفض النقابات العمالية لقانون التقاعد الجديد المعروض من طرف الحكومة الفرنسية. زخم المظاهرات واستمراريتها وإصرار السلطات على تمرير القانون مهما كان الثمن الاجتماعي وحتى السياسي يطرح أكثر من سؤال.

لماذا هذا الإصرار من قبل ماكرون على هذا التوجه؟ وهل قانون التقاعد يتطلب المغامرة بأزمة اجتماعية وسياسية في فرنسا المستفيد الأول منها قوى التطرف يميناً ويساراً؟

موقف النقابات العمالية مفهوم على اعتبار أن الآثار الاجتماعية للقانون الجديد تعني عملياً إضافة سنتين من العمل لكل عامل حتى يستفيد من التقاعد أي أن يصبح السن القانوني 64 سنة بدلاً من 62 سنة حالياً علماً أن سن 64 سنة هو مستوى أقل بسنتين أو ثلاثة سنوات للسن القانوني في العديد من الدول الأوروبية.

تنسيقية جامعة

النقابات العمالية التي تمكنت لأول مرة من الاتحاد منذ عدة سنوات في إطار تنسيقية جامعة ترفض رفضاً قاطعاً تغيير السن القانوني وتريد الإبقاء على الوضع القائم. التنسيق بين النقابات الفرنسية المتعددة والتي تتميز بالاختلافات العديدة فيما بينها. فبعضها من توجهات إصلاحية والبعض الآخر من أنصار التيار اليساري، ولكن هذا التناقضات في الطرح النقابي تم تجاوزه في إطار تنسيقية جامعة حددت هدفاً واحداً، رفض قانون التقاعد الجديد وتمكنت من حشد الفرنسين في الشارع في تظاهرات مليونية لم تشهدها فرنسا منذ عشرات السنين.

الحكومة من جهتها ترى في القانون الجديد حتمية اقتصادية لإنقاذ نظام التقاعد الفرنسي القائم على مبدأ التضامن بين الأجيال. وفي هذا الإطار لم تبخل السلطات الفرنسية على الجمهور من الأرقام والاحصائيات والتي حرصت عدة أطراف وعلى رأسها النقابات المحتجة على توضيح تناقضات هذه الأرقام على المستوى الاحصائي.

الخبراء من جهات مختلفة يتساءلون عن أسباب إصرار الرئيس الفرنسي ماكرون على تمرير القانون حتى وان كلف ذلك السلم الاجتماعي في فرنسا خاصة في ظل ظهور بوادر العنف في الشارع.

إصرار ماكرون

العارفون بالشأن الفرنسي يشيرون الى أن إصرار ماكرون على القانون مهما كلف الأمر من تضحية بالسلم الاجتماعي مرده بالأساس الى الوضعية الاقتصادية والمالية في فرنسا والمتميزة أساساً بارتفاع مستمر ومطرد للمديونية الفرنسية و للعجز في الميزانية. الأرقام تشير الى أن المديونية الفرنسية وصلت الى حوالي 3000 مليار أورو أي ما يعادل 116.1 في المائة من الناتج الداخلي الخام الفرنسي ويعتبر الدين الفرنسي الأكبر في الاتحاد الأوروبي. ونفس التحليل ينطبق على العجز في الميزانية حيث إن العجز يصل الى 4.7 في المائة من الناتج الداخلي الخام. وهذه الأرقام توضح هشاشة الاقتصاد الفرنسي تجاه أسواق المال وخشية الرئيس الفرنسي ماكرون في هذه المرحلة هو تعرض الاقتصاد الفرنسي من قبل أسواق المال وارتفاع المخاطرة على الدين الفرنسي وعجز الحكومة الفرنسية عن الإقتراض من الأسواق خاصة أن الاتجاه العام في هذه المرحلة هو الاتجاه التصاعدي لأسعار الفائدة.  

ومن خلال قانون التقاعد المطروح من طرف السلطات الفرنسية  فإن الرئيس الفرنسي يريد توجيه عدة رسائل للأسواق المالية، رسائل مفادها ان فرنسا تعي حقيقة وضعيتها المالية وها هي تقوم بالإصلاحات الهيكلية والبداية من نظام التقاعد المقبل على عجز هيكلي في السنوات العشرين القادمة حسب الأرقام التي تعرضها الحكومة الفرنسية. رسالة ماكرون في نهاية الامر هي محاولة اظهار نفسه في موقع الرجل الإصلاحي القادر على اتحاذ القرارات المكلفة اجتماعياً.

رسائل مشفرة

خارجياً وعلى مستوى الأسواق ربما لان الاتحاد الأوروبي الح أكثر من مرة على السلطات الفرنسية على ضرورة الشروع في الإصلاحات الهيكلية والبداية من أنظمة التقاعد. اما داخلياً فإن حامل رسائل ماكرون قد ضل الطريق الى الفرنسيين والى النقابات التي تجند العمال وتجوب الشوارع وتضرب عن العمل الى درجة  أن باريس عجت بالنفايات والقمامات وباتت تشبه في بعض شوارعها مدناً عربية.

وأمام هذا الانسداد الاجتماعي فإن ماكرون وحكومته الضعيفة سياسياً لا يملكان أوراق رابحة كثيرة ففرنسا  منهكة من تداعيات أزمة كورونا و الإنفاق الحكومي الذي ارتبط بها  وسياسياً تقع بين مطرقة اليسار المتطرف الحالم بإعادة توزيع الثروة في فرنسا على أسس اقرب الى الشيوعية وسندان اليمين المتطرف الذي يعلق كل مآسي فرنسا الماضية والحاضرة والمستقبلية على شماعة واحدة هي المهاجرين. وبين الإثنين ماكرون متأرج والحل الوحيد أمامه الصمود مع امل ان يأتي الخروج من عنق الزجاجة عن طريق تصاعد العنف والتفاف الشعب الفرنسي حوله رفضاً للفوضى التي قد تنجم عن أي تصعيد.

ولكن بعيداً عن اللحظة الحالية والتشنج السياسي والاجتماعي الظاهر اليوم فإن هذا لا يغني فرنسا عن ضرورة طرح أسئلة أساسية عن مستقبلها السياسي والاجتماعي والبداية من مسألة التقاعد ذاته حيث أن ظاهر القضية مالي وعجز وتمويل مستقبلي لهذا النظام ولكن الجوهر بعيد عن المال والمالية بل يتعلق أساساً بالديمغرافية الفرنسية في حد ذاته حيث أن فرنسا وعلى غرار الدول الغربية تواجه ثنائية معقدة من جهة تراجع حاد ومستمر في عدد المواليد ومن جهة أخرى ارتفاع مستمر لنسبة كبار السن من خلال ارتفاع أمد الحياة والذي فاق سن 80 سنة معدل.

وامام هذه المعضلة فإن الحل هو تغيير في أنظمة التقاعد ورفع السن أو فتح باب الهجرة امام الأجانب لتعويض النقص في اليد العاملة ورفع من عدد المشاركين في نظام التقاعد.

الحل الأول ترفضه النقابات واما الحل الثاني فتحاربه قوى اقصى اليمين.... وماكرون عينه على الأسواق المالية وعلى الشارع املاً في تفويض شعبي لرفض العنف.

مارسيلي فارس