الأمن الغذائي العربي
أمام تحديات كبرى

01.06.2022
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

تنظر الدول العربية للحرب في أوكرانيا بعين الحذر والخوف، من التهديدات التي قد تطال امنها الغذائي في حال إيقاف صادرات الحبوب ومشتقاتها لفترة طويلة، وهو ما قد يؤدي الي ارتباك سياسات الحكومات العربية واضطراب الموازين المالية بها. ومن هنا تبدأ قصة جديدة لمعاناة المواطن العربي الذي ربما سيكون أول المتضررين بعد الأوكران من هذه الحرب. حيث يدرك القاصي والداني أن روسيا وأوكرانيا منتجان رئيسيان للقمح والشعير والذرة، بل إن برنامج الغذاء العالمي نفسه يحصل على نحو 50% من إمدادات الحبوب منهما، ويواجه الآن زيادات كبيرة في تكلفة جهوده لمكافحة حالات الطوارئ الغذائية في جميع أنحاء العالم.

فلقد أدت الأزمة الأوكرانية الي ارتفاع أسعار القمح حيث يتم توفير حوالي ثلث كميات القمح في العالم من قبل روسيا وأوكرانيا. كما خفضت أوكرانيا، على سبيل المثال، صادراتها من الحبوب، ولا سيما القمح والشوفان والسكر وغيرها من المواد الغذائية الأساسية، لضمان قدرتها على توفير الطعام لمواطنيها، خلال الحرب مع روسيا. وكذلك الذرة وهي غذاء أساسي آخر يزرع بشكل شائع في أوكرانيا وروسيا، باعتبارهما رابع وخامس أكبر مصدرين للذرة، يمثل هذان البلدان معًا حوالي خمس إجمالي الصادرات من هذا المنتج. كما أن للذرة العديد من الاستخدامات ويمكن أن يؤثر نقص الغذاء على إنتاج اللحوم. حيث يتم استخدامه كعلف للحيوانات في أجزاء كثيرة من العالم، وقد يؤدي ارتفاع الأسعار إلى ارتفاع تكاليف اللحوم.

ونتيجة لذلك، اتسعت الفجوة الغذائية في الدول العربية، حيث تستورد الدول العربية مجتمعة نحو 60% من احتياجاتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا. صدرت أوكرانيا وحدها نحو 17% من كمية الذرة والشعير التي سوقت للتجارة العالمية في 2020، و40% من هذه الصادرات كانت لدول عربية. وقد عبر برنامج الأغذية العالمي عن إن الأزمة قد تتفاقم، لاسيما أن نصف طلبات الحبوب من روسيا وأوكرانيا، ما يدفع أن لهذه الحرب تأثير مأساوي. حيث تعتبر اليمن أكثر بلد عربي مهدد بتأزيم وضعه الغذائي، ولبنان أيضا الذي يستورد 80% من الحبوب من أوكرانيا ولديه مخزون يكفي لشهر ونصف فقط. تونس هي الأخرى تستورد 60% من القمح من أوكرانيا وروسيا، ولديها مخزون يكفي حتى يونيو 2022. في مصر استوردت في عام 2021 نحو 50% من القمح من روسيا و30% من أوكرانيا وتعتبر مصر أكبر مستورد للقمح في العالم وثاني أكبر مستورد من روسيا.

ولعل من المفارقات المحزنة في العالم العربي أنه بينما تشكل الدول العربية نحو 5% من سكان العالم، فإنها تستورد نحو 20% من كمية الحبوب المتاحة للتجارة الدولية، ولا تنتج سوي 2.5% من الإنتاج العالمي للحبوب، ذلك على الرغم من توفر الموارد الطبيعية كالأرض والمياه والبشر في العديد من الدول العربية، ولذلك اتسعت الفجوة الغذائية ما أدى إلى حالة من العجز الغذائي. حيث تعاني الدول العربية من الانصراف عن الاستثمار في قطاع الزراعة الحيوي، كما إن القطاع الزراعي العربي لا يتجاوز 5% من مجمل مساحة الوطن العربي، ونسبة الاستثمارات فيه لا تتجاوز 9% من إجمالي الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية الأخرى في حين أن الزراعة تساهم بنحو 13% فى الإنتاج المحلي. هذا فضلا عن إهمال دعم المزارعين والإنفاق على البحوث الزراعية، حيث أن ما تنفقه الدول العربية مجتمعة على البحوث الزراعية لا يزيد على 1% من قيمة الإنتاج الزراعي.

تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية على الأمن الغذائي العربي

لقد خيّل للعالم أنه بدأ في التقاط أنفاسه بعد معركته مع جائحة كورونا عبر أكثر من عامين، والتي تسببت في أسوأ ركود عالمي منذ أكثر من قرن، وأدت إلى تفاقم نقاط الضعف المتراكمة، فإذا بمصيبة جديدة تدور رحاها حول الأمن الغذائي العالمي وهي الحرب الروسية - الأوكرانية، وحالة التضخم التي ضربت اقتصادات العالم تنشئ هواجس أكبر وأخطر. وقدّر برنامج الأغذية العالمي أن التضخم الناتج عن أزمة أوكرانيا يمكن أن يعرض ما بين 7 و10 ملايين شخص إلى الجوع الحاد في شرق إفريقيا في عام 2022.

فمصطلح الأمن الغذائي ليس بمصطلح حديث، فلقد عرف العالم طريقه لمصطلح الأمن الغذائي عام 1974، وذلك خلال المؤتمر العالمي للغذاء الذي عقد آنذاك. وتعتبر المشكلة الغذائية في العالم واحدة من المشكلات الكونية التي تواجهها البشرية جمعاء، لا بل ربما أكثرها حدة في عصرنا الحالي، كونها تمس مباشرة حياة وبقاء مئات الملايين من الناس، كما استقطبت مسألة التنمية الزراعية والغذاء اهتماما كبيرا على مستوى العالم العربي مؤخراً، ليس لأن الغذاء يشكل جوهر صراع الإنسان من أجل البقاء، بل لعل فشل هذه الجهود في تجاوز المشكلة الغذائية التي يعاني منها العالم العربي زاد من ضرورة تقييم ومراجعة هذه الجهود.

 لقد دخلت أوضاع الزراعة والغذاء في العالم العربي مرحلة حرجة، تمثلت في تنامي الطلب على المنتجات الزراعية عموما والغذائية خصوصاً، نتيجة ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي والقفزة النوعية في الدخول الفردية في بعض الدول العربية (النفطية منها)، بالإضافة إلى نقص إمدادات سلاسل الغذاء كإحدى تداعيات الحرب بأوكرانيا ودخول العالم في موجة جديدة من التضخم والتي أدت الي ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية، فضلا عن تقلص الأهمية النسبية للقطاع الزراعي في الهياكل الاقتصادية العربية، وقد نجم عن هذا الوضع تفاقم العجز الغذائي وبالتالي اللجوء إلى المصادر الأجنبية لسد هذا العجز. وادى هذا بدوره الي مواجهة عدة دول عربية صعوبات في تأمين الأمن الغذائي لشعوبها وعجز في إنتاج الغذاء، وبالتالي تدني نسبة الاكتفاء الذاتي من الموارد الغذائية الرئيسية بالدول العربية، في وقت يعاني الاقتصاد العالمي من تأثيرات كارثية لجائحة كورونا. مما يعرضها للمخاطر التي تهدد امنها الاقتصادي والسياسي. وهو ما أكدته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو"، في أحدث تقرير لها، معلنة ارتفاع المعيار القياسي لأسعار الأغذية العالمية إلى أعلى مستوى، لافتة إلى أن أسعار الغذاء بلغت أعلى مستوياتها منذ بدء تسجيلها قبل 60 عاما، بحسب المؤشر الذي قفز قرابة 13 % في مارس 2022، بعد ارتفاع إلى مستوى غير مسبوق في فبراير. 2022 يأتي ذلك بعد شهور قليلة من تحذير المنظمة من أن آثار جائحة كورونا في الأمن الغذائي العالمي ستكون طويلة الأمد، داعية إلى تغييرات جذرية في أنظمة الأغذية الزراعية في المنطقة العربية لتوفير الأمن الغذائي والتغذية للجميع حيث يستمر الجوع في العالم العربي بالارتفاع، مع زيادة بنسبة 91.1 % منذ عام 2000.

وارتفاع مؤشر أسعار الأغذية في السوق الدولية هذا يربك حسابات الحكومات العربية، فهي من أكبر مستوردي الغذاء في العالم، وتعاني من ارتفاع فاتورة استيراد الأغذية بالعملة الصعبة من سنة إلى أخرى، فوفقًا لتقرير قطاع الشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية في مايو 2020، وصلت قيمة فاتورة استيراد الدول العربية من الأغذية نحو 100 مليار دولار سنوياً.

ووفقًا لأحدث بيانات مؤشر الأمن الغذائي العالمي (GFSI) لعام 2021، التابع لـ "إيكونوميست إمباكت" والذي يأخذ بعين الاعتبار قضايا القدرة على تحمل خلال عدة مقاييس، وهي تكلفة الغذاء، وتوافره، وجودته وسلامته، والموارد الطبيعية والقدرة على الصمود في 113 دولة. ولقد تصدرت دول قطر والكويت الإمارات أعلى درجة على مؤشر الأمن الغذائي عربيا، فيما تذيلت دول سوريا والسودان واليمن جدول الترتيب. وحلت عمان في المركز الرابع ثم البحرين والسعودية والأردن والجزائر وتونس والمغرب ثم مصر في المركز الـ 11.

اهم التوصيات للتصدي لمشكلة الأمن الغذائي العربي

على الرغم من التحديات التي تواجه مشكلة الأمن الغذائي العربي، الا أن هذه المشكلة لن تحل الا من خلال تضافر جهود كل الدول العربية للتوصل على حلول جذرية لها، وذلك من خلال التالي:

  •  اتخاذ خطوات عملية لوضع وتنفيذ رؤية شاملة لتحقيق التكامل في مجالات الأمن الغذائي العربي بالاستفادة من الإمكانات المتوفرة وتفادي الاضطرابات العالمية وانعكاساتها على قوت المواطن العربي بل والتأثير سلباً في الوضع الاقتصادي بشكل عام من خلال ارتفاع فواتير شراء الغذاء وزيادة الضغوطات المالية، وفي هذا السياق توجد دول عربية بعينها يمكن أن تشكل سلة الغذائي العربي مثل السودان ومصر وسوريا والتي تتميز بخصوبة أراضيها وتوافر المياه والظروف المناخية وهنالك تجارب سابقة وحالية بإقامة مزارع للقمح والحبوب والمواشي اللاحمة فيها وساهم الإنتاج بتغطية جانب بلدان أخرى.
  • إنشاء برنامج عربي غذائي لمساندة ضحايا الكوارث والأزمات الغذائية الطارئة وخاصة بالدول العربية الأكثر تضرراً. فعلى سبيل المثال قام جهاز الاستثمار العماني وشركة "ماي" وتكنولوجي بتأسيس مشروع مشترك رائد يستخدم التمور المزروعة محليًا لإنتاج بروتين عالي الجودة. وتعد هذه الفكرة مهمة والعالم العربي بحاجة لمثل هذه المبادرات ليتخطى المشكلة التي يعاني منها في ظل عمليات هدر الطعام.
  • تطوير التشريعات في المجال الزراعي لضمان توفير المدخلات واقتناء التقنيات الحديثة، علاوة على وضع الإجراءات القانونية لرفع الاكتفاء من احتياطي السلع الغذائية الرئيسية في مختلف الظروف، بما فيها حالات الأزمات والطوارئ والكوارث وغيرها. فعلى سبيل المثال قامت دولة الإمارات بوضع قانون "المخزون الاستراتيجي للسلع الغذائية" الذي يعد خطوة ذات بعد استراتيجي، لتعزيز منظومة الأمن الغذائي من الناحية التشريعية .
  • تحسين مناخ الاستثمار الزراعي في الدول العربية لتحفيز رأس المال العربي علي الاستثمار في القطاع الزراعي من خلال عمل تسهيلات لضخ الاستثمارات للمشروعات الزراعية التي تهدف الى تحقيق الأمن الغذائي.
  • الاستفادة من منطقة التجارة الحرة العربية لإقامة المشروعات الزراعية المشتركة التي تهدف الي تصدير السلع الغذائية في ما بين الدول العربية، فضلا عن تبني مجموعة من السياسات التجارية للعمل على ترقية التجارة البينية العربية للسلع الغذائية، من خلال تبسيط إجراءات استيراد الغذاء سواء على مستوي تخفيف القيود الإدارية والجمركية وتسهيل التحويلات المصرفية ومراقبة الأسواق ووضع سقف سعري للسلع الغذائية الرئيسية لحماية الطبقات الهشة والتأكد من وصول الغذاء لها.

وتلخيصًا لما سبق، لم تعد قضية الأمن الغذائي العربي رفاهية، بل أصبحت من أكثر التهديدات إلحاحًا وفتكًا للأمن الاقتصادي والسياسي العربي، خاصة بعد جائحة كورونا والصراع في أوكرانيا. ولا يمكن تحقيق التنمية الزراعية والأمن الغذائي في العالم العربي من دون حلول وطنية وعمل عربي موحد وفعال ذو رؤية استراتيجية لتحقيق الأهداف الوطنية العربية في الغذاء والتغذية.