هل يؤدي غزو روسيا لأوكرانيا
إلى أزمة غذاء عالمية

16.02.2022
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بينما تتصاعد حدة التوترات بين روسيا وحلفائها من جهة، وأوكرانيا وخلفها بلدان في الاتحاد الأوروبي إلى جانب الولايات المتحدة من جهة، تعيش كثير من الدول المستهلكة للحبوب، مخاوف من بوادر أزمة شح قمح على وجه الخصوص. حيث تعد روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم، وتمثل صادراتهما مجتمعة قرابة 56 مليون طن سنويا من القمح فقط، ما عدا الشعير والذرة وباقي أنواع الحبوب.

دخلت قضية الأمن الغذائي، على وقع التكهنات وانتظار "ساعة الصفر" لانطلاق شرارة الحرب التي تقرع طبولها بقوة، لتشكّل مصدر قلق إقليمي على الأقل، إذ إن 40 في المئة من شحنات الذرة والقمح السنوية لأوكرانيا تذهب إلى أسواق الشرق الأوسط أو إفريقيا.

وتصنف وزارة الزراعة الأمريكية، روسيا على أنها أكبر مصدّر للقمح في العالم بأكثر من 38 مليون طن سنويا، بينما تأتي أوكرانيا خامسا بنحو 18 مليون طن. أيضا فإن أوكرانيا والولايات المتحدة هما الموردان العالميان شبه الوحيدين للذرة في الوقت الحالي لأسواق آسيا وأوروبا، فيما يبعد محصول الأرجنتين بضعة أشهر عن السوق الآسيوية، وكذلك الحال بالنسبة للذرة الآتية من البرازيل. هذه المخاوف من حدوث بوادر أزمة غذاء في حال تعطل إمدادات القمح من روسيا وأوكرانيا، تأتي بينما سجلت أسعار الغذاء العالمية زيادة 30 في المئة بنهاية عام 2021، وفق بيانات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو".

ولسوء الحظ، يأتي جزء كبير من إنتاج القمح في أوكرانيا من سلة خبزها التاريخية شرق البلاد، وهي مقاطعات خاركيف ودنيبروبتروفسك وزابوريزهيا وخيرسون، الواقعة إلى الغرب من دونيتسك ولوهانسك، والتي تسيطر عليها بالفعل القوات المدعومة من روسيا.

وإذا تحول الهجوم المحتمل على أوكرانيا إلى استيلاء روسي على الأراضي الأوكرانية وتأسيس الانفصاليين المدعومين من روسيا بالفعل ما يسمى بجمهورياتهم، فقد يعني ذلك انخفاضات حادة في إنتاج القمح وهبوطاً حاداً في صادراته، حيث يفرّ المزارعون من القتال والبنية التحتية المدمرة، واقتصاد المنطقة المشلول. 

التأثيرات على العالم العربي

بينما لا تتوفر معلومات عن مصادر الواردات العربية من القمح في أرقامها الرسمية، فقد أوردت "فاو" أن نصف القمح المستهلك في لبنان خلال 2020 قدم من أوكرانيا. ومن بين 14 دولة تعتمد على الواردات الأوكرانية في أكثر من10  في المئة من استهلاكها للقمح، يواجه عدد كبير بالفعل انعدام الأمن الغذائي بسبب عدم الاستقرار السياسي المستمر أو العنف المباشر.

فعلى سبيل المثال، يستورد اليمن وليبيا 22 و43 في المئة على التوالي من إجمالي استهلاكهما للقمح من أوكرانيا، أما مصر فاستوردت أكثر من 3 ملايين طن متري في 2020، أي حوالي 14 في المئة من إجمالي قمحها. وتظهر بيانات وزارة الزراعة الأمريكية، أن الجزائر وهي من كبار مستهلكي القمح عالميا، استوردت من روسيا قرابة 7 ملايين طن في 2020، بينما استورد المغرب 4.8 ملايين طن، من روسيا كذلك. وكانت روسيا أيضا مصدرا رئيسيا للقمح المستهلك في العراق بمقدار 3.3 ملايين طن في 2020، واليمن 3.3 ملايين طن، والسعودية 3.2 ملايين طن، والسودان 2.7 مليون طن، والإمارات 1.8 مليون طن، وتونس 1.6 مليون طن.

وتظهر بيانات منصة "STATISTA" للإحصاءات الاقتصادية، أن إجمالي إنتاج العالم من القمح سجل في 2021، نحو 774.8 مليون طن متري، صعودا من 762.2 مليون طن متري في 2020. والرقم المسجل العام الماضي، يعتبر الأعلى في تاريخ إنتاج القمح عالميا، فيما تشير توقعات المنصة لصعود الإنتاج هذا العام إلى 778.6 مليون طن.

وتُعَدُّ مصر أكبر مشترٍ للقمح في العالم، حيث تنوي استيراد أكثر من 13 مليون طن من الحبوب خلال العام الجاري. وتعتمد مصر على مناقصات شراء قمح ضخمة، لدرجة أنها تؤثر على حركة أسعار القمح العالمية، كما يقول تقرير لمجلة The Economist البريطانية.

وتعتبر مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، بمتوسط سنوي 13.8 مليون طن معظمها قادم من روسيا بـ 66 في المئة من مجمل الواردات، يضاف إليها قرابة 9 ملايين طن من الإنتاج المحلي. ويعتمد استقرار مصر على هذه الواردات، حيث تستخدم الحكومة القمح لإنتاج الخبز المدعوم، الذي تعتمد عليه الكثير من العائلات. ويُذكر أنه حين رفع الرئيس الأسبق أنور السادات هذا الدعم في عام 1977؛ اندلعت أحداث الشغب في البلاد قبل أن يتراجع عن قراره سريعاً. بينما كانت مطالب المصريين الثلاثة الرئيسية حين ثاروا عام 2011 هي: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". وربما تبيّن لاحقاً مدى صعوبة تحقيق المطلبين الأخيرين، لكن توفير أرغفة الخبز الرخيصة ما يزال مستمراً. إذ يُباع الرغيف الصغير مقابل خمسة قروش (ثُلث بنس أمريكي)، وهو سعرٌ أقل بكثير من تكلفة إنتاجه. بينما يُمثّل اضطرابٌ محتمل في أسواق هذه السلعة الآن تهديداً لهذه السلعة الأساسية المصرية، وسبب الاضطراب هو أنّ غالبية واردات القمح المصرية تأتي من روسيا وأوكرانيا الزاحفتين نحو الحرب. وقد دفعت مصر 350 دولاراً للطن في آخر مناقصةٍ أجرتها بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني. وهذا أكثر من المبلغ المخصص في الميزانية بـ100 دولار. وبهذا ستدفع مصر 1.5 مليار دولار إضافية للقمح في العام الجاري (0.4% من الناتج المحلي الإجمالي).

كارثة غذائية عالمية

خلال العام الماضي، بلغت أسعار القمح أعلى مستوياتها منذ نحو عقد. ويرجع ذلك لعددٍ من العوامل التي تتضمن ارتفاع أسعار الوقود والأسمدة، وسوء الطقس، وتراكم الشحنات في الموانئ بسبب الجائحة. كما جاءت الضريبة التي فرضتها روسيا على الصادرات، بغرض إبقاء الفائض في البلاد، لتزيد الطين بلة.

وتُعَد الأراضي الأوكرانية، لا سيّما الجزء الشرقي منها، أحد أكثر المناطق خصوبة على وجه الأرض، لذا يُطلق على أوكرانيا ولعدة قرون اسم "سلة غذاء أوروبا". وتعتبر صادرات كييف الزراعية سريعة النمو، مثل الحبوب والزيوت النباتية ومجموعة من المنتجات الأخرى، ضرورية لإطعام شعوب إفريقية وآسيوية.

وتصدّر أوكرانيا الذرة والشعير والقمح، ويُعد الأخير صاحب التأثير الأكبر على الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم. ففي عام 2020، صدّرت كييف نحو 18 مليون طن من القمح من إجمالي محصول يبلغ 24 مليون طن، ما يجعلها خامس أكبر مصدر للقمح في العالم. وتصل محاصيل كييف من القمح إلى مختلف قارات العالم. ولهذه الأسباب، يتوجّس خبراء من أنّ أيّ حراك عسكري قد يعني انخفاضات حادة في إنتاج القمح وهبوطاً حاداً في صادرات القمح الأوكراني.

وستكون تداعيات ملف القمح الروسي والأوكراني، وكل أنواع القمح التي تزرعها دول قريبة من الصراع، في البحر الأسود، مثل: بلغاريا، ورومانيا، كبيرة على المنطقة العربية، وغيرها من الدول التي ليس لديها اكتفاء ذاتي من القمح، وخاصة الدول العربية التي تستورد وتزرع القمح والشعير لحسابها في روسيا وأوكرانيا.

وتحتل روسيا مع أوكرانيا نصيب الأسد في زراعة وتصدير القمح والذرة في العالم، وشكلت صادراتهما معاً من القمح نحو 23 في المئة من التجارة العالمية عام 2021، وفق أرقام وزارة الزراعة الأمريكية. وبحسب تقديرات لمعهد دراسات السوق الزراعية "إيكار" في موسكو، فقد كان محصول القمح الروسي عام2021  ما بين 74 و75 مليون طن. وبحسب إحصاءات وكالة رويترز، فإن صادرات أوكرانيا من الحبوب في العام الجاري، سوف تصل إلى 12 في المئة من صادرات القمح العالمية، و16 في المئة للذرة، و18 في المئة للشعير، و19 في المئة للبذور حال عدم اندلاع الحرب، لكن حدوث أي سيناريو من سيناريوهات الحرب، سواء الخاطفة أو الطويلة، سوف يؤثر سلباً على إنتاج وتصدير القمح والحبوب الأوكرانية.

وقياساً إلى ما حدث عام 2014، حيث ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، ما أدى إلى تراجع العملة المحلية، وزيادة تكاليف الإنتاج، الأمر الذي قاد في النهاية إلى تراجع زراعة القمح خلال عامَي 2014 و2015، فإن سيناريو احتلال الجيش الروسي للأراضي الأوكرانية وفرار الفلاحين والمزارعين هو أكبر ضربة للقمح الأوكراني، الذي تعتمد عليه دول كثيرة في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
الخيارات والبدائل
إنّ مجرد التوتر في البحر الأسود، سوف يقود لرفع قيمة التأمين على الشحن والنقل في أقصر طريق لشراء القمح، بالنسبة للمنطقة العربية، حيث يعبر القمح من البحر الأسود وبحر أزوف ويمر من مضيقي البسفور والدردنيل إلى الدول العربية، خاصة تلك في شمال أفريقيا، حيث استقبلت منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا 40 في المئة من صادرات القمح الأوكراني العام الماضي، وفق حسابات دائرة الصادرات الأوكرانية.

وتعد الآثار المضاعفة المحتملة لاضطرابات الأغذية أكثر من مجرد تأثيرات نظرية. فمثلاً في عام 2010 بعد أن دمر الجفاف محصول القمح الروسي فرضت موسكو حظراً على تصدير القمح لتأمين الإمدادات المحلية. وفي حين أصبحت روسيا لاعباً رئيسياً في الإمدادات الغذائية في الشرق الأوسط، لم يكن هذا هو الحال فقط. ففي عام 2001، صدرت روسيا 696 ألف ميغا طن من القمح، بينما في عام 2020، على الرغم من جائحة كوفيد -19، صدر الاتحاد الروسي 38 مليون ميغا طن. بمعنى آخر، على الرغم من التصور بأن موسكو لا تصدر سوى الأسلحة والطاقة، فقد طورت روسيا في الواقع صناعة قوية لتصدير القمح، يعد الشرق الأوسط أحد أهم أسواقها.

وإذا رد الحلفاء الغربيون على الغزو الروسي بفرض عقوبات على الصادرات الغذائية الروسية أو من خلال حظر موسكو من نظام سويفت -نظام الدفع الدولي الذي تستخدمه البنوك في جميع أنحاء العالم- فليس من المستبعد أن ترتفع أسعار السلع الأساسية في الشرق الأوسط والعالم إلى عنان السماء، خصوصا فإنّه في ظل اقتصاد "معولَم"، فإن التأثيرات على توافر الغذاء تكون محسوسة بعيداً عن الخطوط الأمامية.

وكشفت صحيفة «وول ستريت جورنال»، عن أنّ التوترات على الحدود الشرقية لأوكرانيا مع روسيا، ساهمت في رفع أسعار القمح المتداول في بورصة شيكاغو للعقود الآجلة، حيث زاد السعر بنسبة 7 في المئة في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، أي بنسبة 8 دولارات للبوشل الواحد (مكيال الحبوب). ومن هذا المنطلق تنظر دولة مثل المملكة العربية السعودية، التي شجعت خلال الفترة الأخيرة، القطاع الخاص لديها على الاستثمار في زراعة القمح في روسيا، وإعادة تصديره إلى المملكة، في توفير بدائل للقمح والشعير الروسي والأوكراني.

وفي المغرب تدرس الرباط عدة سيناريوهات لضمان الإمدادات الرئيسية من القمح، في ظل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، ولا سيما أن البلدين مصدران رئيسيان للقمح للمغرب، حيث أنّ استمرار الأزمة الأوكرانية الروسية لفترة طويلة سوف تترك تداعياتها على مشتريات القمح المغربية.

في الموازاة، فإنّ الدول العربية سواء في المشرق أو المغرب العربي، والتي تتمتع بعلاقات جيدة للغاية مع باقي المنتجين للقمح في العالم، مثل: فرنسا، وأستراليا، والولايات المتحدة، سوف يوفّر لها بدائل سريعة وجاهزة لتعويض أي نقص في القمح الأوكراني والروسي.

باختصار، يمكن القول إنّ أي تطور سلبي يؤدي إلى حرب في أوكرانيا ستكون له عواقب وخيمة على العالم كله سياسياً واقتصادياً.. نفطياً وتجارياً ومالياً.. خصوصا وأنّ العالم لم يستفق بعد من ارتدادات "كورونا" على الاقتصاد العالمي خصوصا في سلاسل التوريد والطاقة والنقل والشحن. فهل يكون التصعيد العسكري مجرد أدوات ضغط على طاولة المفاوضات من أجل الوصول الى تفاهمات تنزع فتيل الأزمة؟ .