التنمية المستدامة وتحديات الديون والسيولة
في البلدان النامية

28.01.2022
د. وليد صافي
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د.وليد صافي*

تبنت 193 دولة عضو في الامم المتحدة في العام 2015 في مؤتمر اديس ابابا، قيام شراكة عالمية لتمويل التنمية والتوصل إلى مستقبل اكثر إستدامة، وحددت لبلوغها في العام 2030 أربع ركائز أساسية : البيئة، التنمية الاجتماعية، التنمية الاقتصادية والشراكات. واجه تحقيق اهداف التنمية المستدامة ال 17 تحديات كبيرة في البلدان النامية، التي لم تتمكن من التقدم على العديد من مسارات النمو المستدام ، حيث اكدت دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي أن هذه البلدان تواجه فجوة تمويل سنوية، تبلغ في المتوسط نحو 2.6 تريليون دولار من الاستثمارات في الصحة والتعليم والطرق والكهرباء والمياه والصرف الصحي.

تحديات التمويل والسيولة

أظهر تقريرا إحصاءات الديون الدولية الصادران عن البنك الدولي للعامين 2020 و2021 ، ابرز معوقات النمو المستدام وهي ارتفاع أرصدة ديون البلدان النامية إلى 7.8 تريليون دولار وتعاظم نسبتها الى اجمالي الدخل القومي والصادرات ،وارتفاع الدين الخارجي للدول منخفضة الدخل بنسبة 12% ، إذ وصل إجمالي ديون هذه الدول إلى 860 مليار دولار في اواخر العام 2021 . تناول التقرير ايضاً مؤشرات تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، إذ سجلت هذه المنطقة أسرع تراكم في أرصدة الدين الخارجي بمتوسط 7%، وشهد أكثر من نصف بلدان العالم العربي زيادة أرصدة ديونها الخارجية إلى الضعفين منذ عام 2009.

في المقابل ، اظهر تقرير معهد التمويل الدولي في العام 2020 ، انخفاض وتيرة تدفق القروض من دائنين غير أعضاء في نادي باريس إلى البلدان الاشد فقراً، وتراجع حصة الارتباطات الجديدة من الجهات الدائنة الثنائية من غير اعضاء هذا النادي إلى نسبة 17% بالمقارنة مع نسبة 43% التي سجلت في عام 2010 ، في حين حافظت حصة الارتباطات الجديدة من الجهات الدائنة الثنائية من أعضاء نادي باريس على استقرار ها وبقيت عند حدود 12% .

تكمن المعوقات الاخرى التي تواجه الدول النامية في تأمين التمويل والسيولة ، في التحولات التي تشهدها اسواق رأس المال والتشدد في اجراءات التمويل وتخفيضات التصنيفات الائتمانية التي ادت إلى تراجع مصادر التمويل الخارجي للدول المتدنية والمتوسطة الدخل . وبالفعل ، ساهم خفض التصنيف السيادي منذ بداية الجائحة لعدد من دول البلدان النامية ( تسعة دول ) بارتفاع تكاليف الاقتراض بالنسبة لهذه البلدان ، وشكلت نسبة الدين الذي وصلت اليه الدول النامية إلى الناتج المحلي وكلفته العالية ، خطراً حقيقياً على اقتصاديات هذه الدول ، وقدرتها على الاستثمار في مجالات التنمية المستدامة .وجاءت نتائج تداعيات انتشار كوفيد 19 على اقتصاد هذه الدول ، وعدم قدرتها على التعافي الصحي في ظل النقص وعدم العدالة في توزيع اللقاحات ، لتضاف الى تحديات الوصول الى الاسواق المالية لتأمين التمويل والسيولة ، وقد اكد تقرير منظمة العمل الدولية الذي صدر في 27 أكتوبر من العام الفائت "أن البلدان النامية هي الأكثر تضررا من الوباء وتقليل التطعيمات".            

عقبات الاستدامة في الدول العربية

تشكل الدول العربية بمعظمها دولاً نامية وتقع في قلب المخاطر التي تم استعراضها ، والتي تعاظمت مع تأثير جائحة كورونا على اقتصاد هذه الدول ، لاسيما منها المنتجة للنفط حيث انهارت الأسعار الى مستويات غير مسبوقة ، وتراجعت معدلات النمو والمداخيل فيها ، الامر الذي رفع من مستوى الاستدانة في هذه الدول لتأمين تمويل الخدمات الرئيسية والمشاريع الاستثمارية ، ومواجهة عجز الموازنات العامة .ولا شك في أن ارتفاع اسعار النفط في الفصلين الاولين من العام 2021 ، فتح الباب نحو الحد من مستوى نمو الاستدانة في الدول النفطية ، وانعكس ايجاباً على مؤشرات المالية العامة في الدول المنتجة ونسبة العجز بالنسبة للناتج المحلي، كما ظهر في توقعات ومؤشرات موازنة المملكة العربية السعودية للعام 2022. لكن التوقعات بعودة الطلب على النفط في هذا العام الى ما قبل الجائحة ، اصطدمت من جديد بولادة متحور اوميكرون ، الذي ادى فور اكتشافه في جنوب افريقيا الى تراجع اسعار النفط والاسهم في البورصات الاميركية والاوروبية والاسيوية ، وبالتالي فإن التوقعات بمزيد من التدفقات المالية الى البلدان المنتجة للنفط قد تتراجع اذا ما عادت الدول الى سياسات الاغلاق .

من جهة اخرى ، عبرت المؤشرات التي تناولتها المؤسسة العربية لضمان مخاطر الاستثمار في تقاريرها الاخيرة، عن حجم الضغوط التي تواجه مناخ الاستثمار وتؤثر سلباً في مؤشرات الماكرو اقتصادية في دول المنطقة العربية . وقد اشارت هذه التقارير إلى ارتفاع نسبة العجز الكلي بموازنات هذه الدول بالنسبة للناتج المحلي ، وارتفاع معدلات التضخم وتراجع أرصدة الاستثمار الاجنبي المباشر الواردة إلى الدول العربية في العام 2021 . وكان لجائحة كوفيد-19 ايضاً من تأثيراتها السلبية في زيادة متوسط الديون في الدول العربية ، حيث ارتفعت إلى 81.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 ، مقابل 69.4% من الناتج في عام 2019. وفي هذا الاطار ، اشارت البيانات الاقتصادية الاخيرة الى ان عشرة دول عربية بلغت ديونها نسبة عالية بالمقارنة مع حجم الناتج المحلي فيها، وسجل السودان عام 2020 اعلى نسبة دين الى الناتج القومي اي 262.5% ، والبحرين 132.8% فيما سجل لبنان 145.4% . لذلك حذرت الإسكوا من الزيادة غير المسبوقة للدين العام في المنطقة العربية، وحثت الجهات الدائنة على تمديد فترة الإعفاء من سداد خدمة الديون حتى أواخر عام 2022، واطلقت دراسة بعنوان "نقص السيولة وارتفاع الدين: عقبات على مسار التعافي في المنطقة العربية"

خلاصات

من الضروري أن تبذل الدول النامية الجهود الحثيثة للقيام بالاصلاحات الهيكلية وتحسين مناخ الاستثمار فيها ، والتعامل بشفافية مع مؤشرات الدين وادارته بطرق مستدامة.لكن من الواضح أن التحديات التي تواجه تحقيق أهداف التنمية في الدول النامية، تظهر بشكل رئيسي في ارتفاع نسبة المديونية في هذه الدول وكلفة اعبائها وخدمتها (غير المتساوية مع الدول المتقدمة ) ، اذ يعد الاقتراض من جهات الإقراض الخاصة والذي يشكل نسبة 25% من حجم الاقتراض ، أسرع مكونات الديون نموا ، بالاضافة إلى عقبات الوصول الى الاسواق المالية. ونشهد منذ العام 2017 مؤشرات سلبية ، تتمثل بارتفاع نسبة التدفقات المالية عبر القروض، بالمقارنة مع التدفقات المالية القادمة من اجل الاستثمارات ، التي تتركز في محافظ الاسهم والسندات لتحقيق الارباح السريعة، بدلاً من القطاعات التي تحدث تأثيراً ايجابياً في النمو المستدام .

وعلى مسار تنفيذ الدول المتقدمة لالتزاماتها المتعلقة بتحمل كلفة التكيف مع التغير المناخي ، يبرز التخلف عن هذه التعهدات التي اقرت في مؤتمر باريس عام 2015 للتغير المناخي، وجرى التأكيد عليها في مؤتمر غلاسكو الاخير، كأحد الاسباب الرئيسية التي حالت دون تحقيق سياسات التكيف مع التغير المناخي وادارة مخاطر المناخ . وجاء عدم توفر الارادة في تنفيذ هذه الالتزامات وغيرها من التعهدات المتعلقة بالنمو المستدام ، مخيباً لتوقعات مسؤولي منظمة الامم المتحدة التي نظمت في السنوات الاخيرة عدداً من المؤتمرات الافتراضية، وشكلت في العام 2019 تحالفاً عالمياً مؤلفاً من وكالاتها المختصة وروساء تنفيذين لشركات كبرى ومصارف عالمية، للمساعدة في اقتراح آليات التمويل وتوفير الاموال اللازمة للاستثمار في البلدان النامية، لكن هذه الجهود ما تزال قاصرة عن بلوغ اهداف مؤتمر اديس ابابا في العام 2015. لذلك جاءت دعوة الامين العام للامم المتحدة ، قادة الدول المتقدمة في 29 آذار 2021 للوفاء بالتزاماتهم واتخاذ إجراءات حاسمة لدرء أزمة الديون في العالم النامي ، بمثابة الانذار الذي يستند الى المؤشرات المقلقة في هذا المجال حيث قال : “ما لم نتخذ إجراءات حاسمة بشأن تحديات الديون والسيولة، فإننا نخاطر ’بعقد ضائع آخر‘ للعديد من البلدان النامية، مما يجعل تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول الموعد المحدد لذلك في عام 2030 بعيد المنال بالتأكيد”.

من هنا جاءت التوصيات الصادرة عن "تقييم موجز السياسات، للبحث عن حلول السيولة والديون للاستثمار في أهداف التنمية المستدامة "، لتركز على تخفيف أعباء الديون، وخلق الظروف الملائمة للبدان النامية بالوصول الى الاسواق المالية ، وتخفّيض تكاليف الاقتراض الإجمالية وتوفير تمويل بشروط ميّسرة لهذه البلدان ، وتمويل طويل الاجل والاستثمار في النمو المستدام ، لتشكل قاعدة صلبة لتغيير المسار الذي اعاق التنمية المستدامة في البلدان النامية.

وفي ضوء هذه التحديات، يأتي مصدر القلق دائماً من جدية تعامل الدول المتقدمة مع هذه التوصيات والالتزامات السابقة ، وبالتالي يعيد السؤال الآتي انتاج نفسه باستمرار : هل سنشهد تغييراً حقيقياً في مسار الالتزام بالتعهدات ، ام ستبقى الوعود المتعلقة بالتنمية المستدامة وغيرها من الوعود حبراً على ورق ، وبالتالي تغرق الدول النامية بازمات لا تنتهي ، مما يهدد الاستقرار بداخلها وفي محيطها القريب والبعيد؟

*استاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية ، كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية ، وباحث في الشؤون الجيوسياسية.