«B3W» بمواجهة «الحزام والطريق»
حروب البنية التحتية

06.10.2021
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

كتب ياسر هلال 

في 13 يونيو، أطلقت مجموعة الدول السبع بقيادة أميركا مبادرة إعادة بناء عالم أفضل (B3W) لتطوير مشاريع البنية التحتية في الدول النامية تراعي النواحي البيئية والاجتماعية ومعايير الشفافية ومكافحة الفساد، ولتشكّل بديلاً أو منافساً لمبادرة الحزام والطريق الصينية. وفي 23 يونيو، ردّت الصين بإعلان مبادرة جديدة أطلق عليها «شراكة الحزام والطريق الخضراء»  تقوم  على مراعاة تلك المعايير. حدثان يختصران المشهد الجيوسياسي العالمي، المتدحرج نحو حرب باردة بين الصين وأميركا، ويطرحان جملة تساؤلات حول الأهداف الحقيقية للمبادرتين، كما جملة تحديات أمام الدول النامية ومن بينها الدول العربية.

 

تطرح المبادرتان سؤالين مهمين: الأول، هل الاختلاف والتنافس بينهما يستند كما تذكران على احترام المعايير البيئية والاجتماعية والشفافية بما يحقق مصالح الدول النامية، أم يستند إلى الصراع بين القوتين العظميين ما سيؤدي إلى فرز الدول النامية بين المعسكرين فتغرق مبادرتيهما تحت ركام الحرب الباردة، وتتحولان إلى مجرد وسيلة لشراء الولاء والحلفاء، وقد مهدت المبادرة الأميركية الطريق لذلك بإعلان صريح ان مشاريعها ستقتصر على «الدول الديمقراطية». 

أما السؤال الثاني والأهم فهو، كيف سيتم تمويل المبادرتين في ظل تعثر مشاريع الحزام والطريق الصينية وإعلان مجموعة السبع ان الجزء الأكبر من تمويل مبادرتها سيكون من خلال القطاع الخاص غير المتحمس تاريخياً لتمويل هكذا مشاريع. 

تمويل التنمية أم مواجهة الصين 

حدّد بيان قمة مجموعة السبع أهداف مبادرة B3W بإيجاد «آلية مستدامة من قبل الديمقراطيات الكبرى لإنشاء مشاريع للبنية التحتية في الدول النامية تراعي قيم العدالة والشفافية وتعتمد أعلى المعايير البيئية والاجتماعية، وذلك في محاولة لسدّ جزء من احتياجات التمويل الضخمة المقدرة بنحو 40 تريليون دولار حتى العام 2030». ومع أن البيان الختامي للقمة لم يتطرق للمنافسة مع المبادرة الصينية، ولكن الرئيس جو بايدن كان حاسماً في ذلك بقوله إن «مبادرة B3W تشكل بديلاً عالي الجودة لمبادرة الحزام والطريق»، وهو ما أشارت إليه أيضاً ورقة حقائق أصدرها البيت الأبيض ونشرت على نطاق واسع قبيل القمة، بقولها: «إن قمة مجموعة السبع ستناقش المنافسة الاستراتيجية مع الصين والالتزام بإجراءات ملموسة لتلبية الحاجة الهائلة للبنية التحتية». 

الرئيس بايدن: B3W تشكل بديلاً عالي الجودة للحزام والطريق 

ولكي نضع الأمور في سياقها الصحيح، فإن أميركا ومجموعة السبع استشعروا منذ العام 2015، الخطر الكبير الذي تشكله مبادرة الحزام والطريق كوسيلة لتعزيز نفوذ الصين في العالم. ويرجع هذا التخوف إلى أسباب عدة أهمها:

- توسّع عدد الدول المنضمة للمبادرة، ليصل إلى 140 دولة موزعة بواقع 34 في أوروبا وآسيا الوسطى من بينها 18 دولة في الاتحاد الأوروبي، و40 دولة في أفريقيا جنوب الصحراء، و 25 دولة في شرق آسيا والباسفيك، و 18 في أميركا اللاتينية والكاريبي، و 17 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وست في جنوب آسيا. 

- إستخدام المشاريع المنفذة لتشبيك العلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية بين الصين والدول المضيفة، ولدعم وتقوية بعض الأنظمة المعادية لأميركا. 

- تراكم ديون ضخمة على الدول المضيفة لصالح الصين ما أدى إلى تعميق ارتهانها لها، أو وضع اليد على المرافق الممولة وبخاصة الموانئ. 

- تخوف أميركا من الاستخدام المزدوج المدني والعسكري لبعض المشاريع. 

وفي هذا السياق، جاءت مبادرة B3W  إستكمالاً لجهود متواصلة للتصدي لمبادرة الحزام والطريق، كان أبرزها: مبادرة مجموعة العشرين في العام 2019 التي قادتها اليابان لتعزيز الاستثمار في البنية التحتية، وكذلك مبادرة اليابان مع الاتحاد الأوروبي في العام ذاته التي أطلق عليها «الشراكة بشأن التواصل المستدام والبنية التحتية الجيدة»، كما أطلق الاتحاد الأوروبي في يناير 2021 استراتيجية عالمية للتواصل بين دول الاتحاد وآسيا. وفي أواخر العام 2019، أعلنت الولايات المتحدة واليابان وأستراليا عن «شبكة النقطة الزرقاء» الهادفة إلى اعتماد معايير عالمية لمشاريع البنية التحتية تراعي النواحي البيئية والاجتماعية والشفافية الخ.. بمشاركة القطاع الخاص والمجتمع المدني.

الدول العربية وحصر الاستفادة 

بالدول الديمقراطية 

هل يمكن للدول العربية والنامية عموماً التي تدور في الفلك الأميركي، المراهنة على الفوز بحصة من مبادرة B3W بعد ان حرمت من الاستفادة المطلوبة من مبادرة الحزام والطريق بسبب تحفظ الصين، لتجنب استفزاز أميركا؟ 

يبدو الأمل ضعيفاً للغاية ويرجع ذلك إلى خللين بنيويين في المبادرة الغربية يتمثل الأول في حصر الاستثمارات والمشاريع في الدول المصنفة «ديمقراطية» وفقاً للمعايير الأميركية، وهي معايير ملتبسة لأنها بدلاً من أن تقسم الدول بين استبدادية وديمقراطية، فإنها تخفي كما تشير مجلة فورين بوليسي «الانقسام الحقيقي في الجغرافيا السياسية الدولية أي الصراع بين الأغنياء والفقراء»، معتبرة ان «أميركا تقف عملياً مع الديقراطيات الغنية ضد معظم ديمقراطيات الدول النامية، ومن الأمثلة على ذلك جائحة كورونا، قواعد التجارة العالمية وتغير المناخ. وتذهب المجلة بعيداً في انتقاد ما تصفه بالانفصام في سياسة بايدن الخارجية التي «تركز على منافسة الصين، وكأن الدول والشعوب تؤيد الديمقراطية ليس لأنها عامل للتطور والتقدم، بل لأنها مرادفة لقوة الولايات المتحدة». 

وعليه، فإن الدول العربية التي تحتاج فعلاً إلى مساعدات واستثمارات وتمويل ميسر لمشاريع البنية التحتية، هي مصنّفة إما غير ديمقراطية وإما ديمقراطية فقيرة، وبكلتا الحالتين فإن فرصها للاستفادة من المبادرة ضئيلة.

نقص فادح بالتمويل 

أما الخلل البنيوي الثاني، فهو عدم توافر التمويل الكافي لا من الحكومات ولا من القطاع الخاص، فقد بلغ إجمالي الأموال الحكومية التي خصصتها مجموعة السبع لمشاريع البنية التحتية في الدول النامية أقل من 113 مليار دولار خلال الفترة 2015-2019، وهو مبلغ لا يسمن ولا يغني من جوع مقارنة باحتياجات تلك الدول المقدرة بأكثر من 40 تريليون دولار حتى العام 2030. 

ولذلك، فإن المبادرة تراهن على التمويل الخاص عبر «الإيعاز لمؤسسات تمويل التنمية التابعة لكل دولة عضو وللمؤسسات الدولية، بضخ استثمارات تحفيزية لتشجيع القطاع الخاص على المساهمة في التمويل والاستثمار». كما جاء في ورقة حقائق البيت الأبيض. 

40 تريليون دولار حاجة الدول النامية ومجموعة السبع قدمت 113 مليار دولار فقط بين 2015-2019 

ومرة أخرى، يبدو الأمر أقرب إلى التمنيات والوعود، إذ إن «قوة النيران المالية» الأساسية المتاحة لهكذا نوع من التمويل والاستثمار موجودة لدى صناديق التقاعد والاستثمار وشركات التأمين وصناديق الثروة السيادية التي تتعامل مع نحو 110 تريليون دولار، ولكن هذه الأموال تتحرك وفق معايير صارمة لناحية الأمان والربحية، وهما عاملان لا يتوفران في استثمارات البنية التحتية في الدول النامية والأرقام تثبت ذلك، فخلال الفترة 2015-2019، لم تتجاوز استثمارات القطاع الخاص من دول مجموعة السبع في مشاريع البنية التحتية في البلدان النامية 22 ملياراً. أما سياسة التحفيز من خلال مؤسسات التنمية، فمشكوك في فعاليتها، إذ تشير بيانات صادرة عن البنك الدولي إلى أنه حتى لو ضخت مؤسسة التمويل الدولية مثلاً، نسبة 80 في المئة من مواردها ـ وهو أمر مستحيل عملياً ـ فلن تتجاوز قيمة الأموال الخاصة التي يمكن حشدها أكثر من 200 مليار دولار على مدى خمس سنوات. أما إفتراض ان الدول الصناعية السبع ستوعز إلى وكالات التنمية لديها لتمويل المبادرة، فيبدو أنه مستبعد في المدى المنظور، وهو ما عبّرت عنه صراحة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعد القمة مباشرة بقولها «المجموعة لم تصل بعد إلى مرحلة البحث في الإفراج عن تمويل مبادرتها».

الصين «مش أحسن»

بالنسبة الى الدول التي تروّج للإلتحاق بالمعسكر الصيني، فهي كالمستجير من الرمضاء بالنار، فمبادرة الحزام والطريق التي هللت لها الدول النامية، ليست أفضل حالاً من مبادرات الدول الغربية، فالصين التي أطلقت في العام 2013 مباردتها بهدف «تطوير مشاريع بنية تحتية عابرة للقارات وتحقيق التكامل الاقتصادي بين دول طريق الحرير التاريخي» كما تنص المبادرة، التزمت بضخ 4.2 تريليون دولار، ولكن ما تمّ ضخه فعلاً حتى منتصف العام 2021، لم يتجاوز 800 مليار دولار. وجلّ التمويل المقدم إما مساهمات من قبل كيانات حكومية صينية مقابل حصص ملكية، وإما قروض طويلة الأجل بفوائد مرتفعة نسبياً. وتصل حصة الحكومة الصينية في المشاريع المنفذة إلى نحو 60 في المئة مقابل نحو 26 في المئة للقطاع الخاص، والباقي مشاريع مشتركة بين القطاعين العام والخاص (PPP).

الصين التزمت بضخ 4.2 تريليون دولار، ولكنها لم تقدم  فعلياً سوى 800 مليار دولار 

أما مبادرة «شراكة الحزام والطريق الخضراء»، الجديدة والمنقحة، فلن تغيّر كثيراً في جوهر الأمور لناحية فرز الدول بين المعسكرين على قاعدة الولاء، وكذلك لناحية عدم توافر التمويل الكافي لتنفيذها. ويتضح ذلك من سعي الصين إلى توجيه التمويل المحدود المتاح إلى الدول المحسوبة عليها والتي تشكل ركائز أساسية في توسيع نفوذها. فنلاحظ مثلاً أن الدول الموقعة على المبادرة الجديدة، وعددها 29 دولة من آسيا والمحيط الهادئ، استأثرت لوحدها بنحو 70 في المئة من إجمالي التمويل والاستثمار في إطار مبادرة الحزام والطريق منذ العام 2013، كما يلاحظ ذلك من التوزيع القطاعي للاستثمارات المنفذة حيث يستأثر قطاع النقل واللوجيستيات بجزء كبير منها خصوصاً في العامين الماضيين.  

حرب البيئة والمناخ

إذا كان شراء الحلفاء هو الوجه الأول لحرب المبادرات بين الصين وأميركا، فإن الوجه الآخر وربما الأهم، فهو الصراع في ميدان البيئة والمناخ، حيث تسعى كل دولة إلى تحميل الدولة الأخرى مسؤولية التداعيات الكارثية للتغير المناخي، وكذلك مسؤولية معالجته بتخفيض الانبعاثات الضارة بما يحمله ذلك من سلبيات على نموها الاقتصادي ونفوذها، ومن هنا جاء التركيز الشديد للمبادرتين على «احترام وتبجيل» المعايير البيئية في المشاريع المنفذة وعلى التنمية الخضراء المستدامة بخاصة في مجال النقل لتخفيض انبعاثات الكربون. 

وتجدر الأشارة هنا إلى أن المبادرة الصينية لم تأت كردّ عفوي على مبادرة مجموعة السبع، فالصين تعمل عليها مع شركائها منذ العام 2017 مع صدور الإرشادات الرئيسية حول الحزام والطريق الأخضر ومن ثم إرشادات التنمية الخضراء في 2020، والمبادئ السبعة للاستثمار الأخضر (GIP)  التي وقّعتها 39 مؤسسة مالية وشركة صينية ودولية، ولكن تلك المبادرات كانت طوعية وتنطلق من مصالح صينية، ولم تبلغ مستوى الاتفاقات الدولية. أما المبادرة الجديدة فتتميز بأنها تقارب الاتفاقية الدولية لأنه متفق عليها بين قادة 29 دولة وأعلنت بشكل مشترك، ما يعني إلتزام الدول المسبق باعتماد سياسات التنمية الخضراء وبإعلان الالتزام «بالمعايير الدولية وأفضل الممارسات»، بدل معايير البلد المضيف كما جرت العادة، وذلك يقوض عملياً أسس الانتقادات الغربية الموجهة الى المشاريع الصينية. 

ولذلك، يلاحظ التشابه الكبير الذي بات يطغى على المبادرتين (راجع الجدول)، وهو ما يؤكد أنهما مجرد ميدان جديد للصراع الدولي، وإلا كان الأجدى توحيدهما إذا كانتا فعلاً تستهدفان مساعدة الدول النامية. 

إذاً، المسألة لا بنى تحتية ولا تنمية، بل مجرد فرز جديد للدول بين معسكرين وشراء الولاء والحلفاء مقابل وعود بالتنمية والرخاء.